لا… ليست كل الودائع مقدّسة!

تكبر جمهورية لبنان المستقلة، جمهورية المصارف المستقلة بـ 13 عاماً فقط. حين أقر قانون السرية في ايلول 1956، كانت الجمهورية المنشأة حديثاً لم تكن قد بلغت بعد سن المراهقة. لم تكن العائلة المستقلة قد بلغت سن الرشد حين انجبت طفلاً وضعت بين يديه أداة أو “لعبة” لم تتمكن من انتزاعها حتى يومنا هذا وهي في سن الشيخوخة ان لم نقل في الموت السريري. فلنذهب بالمقاربة أبعد من ذلك، حين أقر قانون السرية المصرفية الذي اعطى المصارف حكماً شبه مطلق في ادارة شؤونه، تطلب الامر ثلاث سنوات حتى اقرار أول شكل من أشكال التنظيم المالي للقطاع عند انشاء مجلس النقد والتسليف عام 1959، و3 سنوات أخرى الى حين انشاء مصرف مركزي وقانون النقد والتسليف عام 1963. لا بل أبعد من ذلك، كان القطاع المصرفي يعلن عن اتحاده المبكر وتشكل وعيه المستقل بعيداً عن تأثير وتدخلات الدولة الناظمة له، حين اعلن انشاء جمعية المصارف في الثالث من أيلول عام 1959، فتحولت الجمعية وخلافاً لأبسط قواعد التربية العائلية، الى محرك لوعي الدولة لا متأثرة بها أو خاضعة لها. تكفي الاشارة الى دور الجمعية في ضبط وتقليم اظافر قانون النقد والتسليف الناظم للقطاع، من دون الغوص في التفاصيل بالضرورة، لأخذ فكرة سريعة عن حجم هذا التأثير. بعد أكثر من نصف قرن على اقرار قانون السرية المصرفية، يبحث اليوم في تعديله لا رفعه بالمطلق بالتزامن مع اشتراط خطة التعافي المالي امكانية شطب 60 مليار دولار من خسائر مصرف لبنان المترتبة عليه نتيجة توظيفات المصارف لديه من خلال شهادات ايداع. 60 مليار دولار تحمل المصارف لواء الدفاع عن قدسيتها كونها أموال المودعين. لكن كم من هذه الاموال “المقدسة” اموال مشروعة؟ ما هو حجم الايداعات غير المتأتية عن عمليات فساد واثراء غير مشروع وتبييض اموال؟ وما هم حجم الايداعات التي يمكن شطبها بكل بساطة لا بل مطالبة الدولة بها كتهرب ضريبي؟ لا قدرة لمعرفة الرقم الحقيقي لحجم هذه الاموال دون الغوص في تدقيق جنائي أيضا، تدقيق اذا ما حصل يمكن اطاحة السلطة بكافة اركانها السياسية والمالية والعسكرية، لا بل قد يتعدى ذلك اسوار البلد الصغير ويصفع معها دولاً مجاورة وبعيدة.

ماذا في التكهنات؟

لكن صعوبة ذلك وربما استحالته، لا يعفي من ضرورة التكهن بحجم هذه الاموال، ليس بهدف كسر السردية المرتبطة بقدسية جميع الودائع فحسب، بل للوقوف في وجه المطالبين والمصرين على ضرورة تحمل الدولة كافة الخسائر، ولو أدى ذلك الى الاطاحة بامكانية عقد أي برنامج مع صندوق النقد. يشير أحد الضالعين في القطاع المالي الى أنه اذا اجري تدقيق في الحسابات المصرفية على مدى عشر سنوات بمفعول رجعي لتتبع التهرب الضريبي فمن الممكن شطب حوالى 7 مليارات دولار وهي مجمل تراكمات التهرب، بفعل ما يعرف بالدفترين الذي يقدم الى وزارة المالية مقارنة مع تسجيل حسابات هذه الكيانات التجارية أو الشخصية من أرباح سنوية. في هذه الجزئية وعلى قاعدة أن الدولة “ما برحلها ميت” وأن هذه الضرائب هي ملك الخزينة والدولة، بالتالي يمكن قبل اي شيء اعتبار هذه الاموال مساهمة الدولة في تحمل الخسائر شرط شطبها. والتهرب الضريبي أساس من أساسات قانون السرية المصرفية، فبحسب مقابلة للرئيس الاول لجمعية المصارف بيار إده شقيق الاب الروحي للقانون ريمون اده نشرت في مجلة “le commerce du levant” في 6 آب 1955، اعترف بيار اده وقتها، ولو على نحو عابر، بأن السرية المصرفية ترمي كذلك الى الحؤول دون خروج رأس المال اللبناني هروباً من ضريبة الميراث.

أما بالنسبة للأموال المتأتية من الفساد والاثراء غير المشروع، يكفي ذكر حادثتين عابرتين لتصور حجم الايداعات التي يمكن شطبها. الحادثة الاولى تتعلق بالاعفاء الخاص الذي حصل عليه القائد السابق للجيش جان قهوجي من بنك التمويل (الذي وضع مصرف لبنان اليد عليه) بالتصريح عن مصدر المبالغ المودعة نقداً حتى سقف مليون و200 الف دولار، والحادثة الثانية متعلقة بالرائد السابق في الامن العام أحمد الجمل الذي كشف عن وجود حركة في حساباته بقيمة 19 مليون دولار، والذي ثبت تقاضيه رشاوى في ملف المدرسة الحربية، والحادثتان ليستا سوى عينة بسيطة.

في هذا الاطار تقول أستاذة القانون المتخصّصة بالشأن المصرفي، سابين الكك، إن “حجم الدعاوى المرفوعة ضد المصارف منذ اندلاع الازمة لا يتطابق وحجم المتضررين وقيمة الايداعات المحجوزة، وتفسير ذلك أن عدداً كبيراً من المتضررين لا يريدون الكشف عن أموالهم في المصارف. وجزء من هؤلاء سيدانون بمجرد التصريح عن حجم هذه الاموال مقارنة مع واقعهم الوظيفي”، تضيف الكك أن “مصلحة المصارف بمنع أي اقرار لتعديلات جدية لقانون السرية المصرفية بمفعول رجعي تكمن في خوفهم على انكشاف عدم امتثالهم الى عدد من القوانين الخارجية المتعلقة بمكافحة تمويل الارهاب وتبييض الاموال وتطبيق قواعد “اعرف عميلك”، انكشاف سيكشف معه مدى متابعة السلطات الرقابية في المصرف المركزي لهذه القوانين. الخوف من رفع السرية أو أي تدقيق في الحسابات غير مرتبط فقط بتوقف القطاع عن كونه جاذباً للتدفقات الخارجية، بل ما يمكن أن يكشفه حول تدفقات سبق وحصلت”.

13 ملياراً؟

يجزم أحد الضالعين في القطاع المالي أن اجراء تدقيق جنائي بموجب قوانين موجودة اصلا كقانون مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب قد يسهم في شطب حوالى 13 مليار دولار من الودائع، اما الاجراء الاكثر فعالية فيكمن في فرض ضريبة استثنائية بمفعول رجعي بنسبة 100 في المئة على كل فائدة تتجاوز 2 في المئة على الدولار و3 في المئة على الليرة بعد احتساب قيمة الضريبة المدفوعة على الفوائد، وهو اجراء يسهم بحد ذاته في شطب مليارات من الدولارات المحققة دون وجه حق، اذا ما قورنت مع نسب الفوائد العالمية والتي وصلت في بعض السنوات الى مستوى سلبي.

تحاول بعض المصارف و”اصواتها” في البرلمان والحكومة، تكبير الشعار لإيهام المتضررين من مودعين أن مصابهم واحد، وأن الظلم الذي لحق بهم هو ظلم عابر لحجم الوديعة ومصدرها وتحت شعار “قدسية” الودائع، يريدون تحقيق العدل في السوية، لكن وخلافا للمقولة السائدة، في لبنان الطريق الى جهنم معبدة بالنوايا… الكاذبة.

مصدرنداء الوطن - آدم شمس الدين
المادة السابقةإقتصاد الكاش خطر داهم على سمعة لبنان المالية… عالمياً
المقالة القادمة6 أسباب وراء تراجع اليورو مقابل الدولار