عندما نشط استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة للتعويض عن التباعد الجسدي الذي فرضته جائحة كورونا في العام 2020 وما بعدها، لم يخطر لكثيرين أن “العمل أونلاين” سيصبح أحد أبرز نتائج هذا التباعد، مبدداً تأثير عامل الجغرافيا على الوظائف واختيار المؤهلين لها، خصوصاً في الاختصاصات التي تعتمد بشكل أساسي على التكنولوجيا وشبكات التواصل العالمية. فتحوّل العالم فعلاً قرية كونية، لا تؤمن بالحواجز لا في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، ولا حتى في العلاقات الاقتصادية والوظيفية.
هذه الظاهرة وإن بدأت مع جائحة كورونا، ولكنها تعززت في لبنان بظل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها اللبنانيون. حيث بات العمل أونلاين، الوسيلة الأكثر نجاعة في تأمين المداخيل “الفريش”. فاجتهد عدد كبير من الشباب، في تحديث سيرهم الذاتية على التطبيقات التي تبحث عن وظائف، بمحاولة لاقتحام أسواق العمل المتوفرة في أوروبا والخليج وحتى في أميركا وأستراليا. ونجح كثيرون بالحصول على فرص مؤاتية، مستفيدين من الاستثمارات التي وضعت في تطبيقات التواصل عن بعد، ولكن أيضاً من الأزمة الاقتصادية التي جعلت من القوة العاملة المتخصصة في لبنان، يداً عاملة مغرية بتدني كلفتها.
وهكذا إذاً، صار بإمكان صاحب مؤهلات معينة في زحلة، بعلبك، عكار، مرجعيون وأي قرية لبنانية نائية، أو غير نائية، أن يطمح بوظيفة في أي بلد بالعالم، ومن دون أن يضطر حتى لإصدار جواز سفر. فتوسع سوق العمل بالنسبة للبناني، وخرجت الوظيفة والسعي إليها من الإطار التقليدي، ليتوسع الشباب بطموحاتهم نحو الخارج من دون ان يضطروا لمغادرة غرف منازلهم.
صحيح أن الوظائف “أونلاين” لا تؤمن الحوافز التي يوفرها العمل في بيئة وظيفية مباشرة، ولكن راتبها يبقى بالنسبة للبناني أفضل من الوظيفة الرسمية التي فقدت إغراءاتها بعد إنهيار العملة. إلا أن الراتب الذي يوفره “العمل أونلاين” لم يكن وحده الهدف. وإنما اكتساب الخبرة، وتعزيز السيرة الذاتية بما يمكن ان يفتح الأبواب على عالم الاقتصاد الأكبر.
ومع ذلك بقيت الوظيفة اونلاين أكثر استقطاباً للشابات خصوصاً. وقد يرتبط ذلك بالبنية النفسية الاجتماعية التي تقوم على تنميط وظيفة الفتاة، فتجعلها أولاً في البيت، بينما تختلف نظرة المجتمع لملازمة الشبان لمنازلهم. وحتى لو كان “البيت” في هذه الحالة هو عنوان العمل أيضاً.
ريتا (اسم مستعار)، ماريبيل، ويارا، ثلاث شابات من زحلة اختبرن العمل أونلاين، تحدياته، سيئاته وحسناته، ويروين فيما يلي تجاربهن، التي يمكن أن تكون في بعض جوانبها ملهمة:
استثمار متأخر لشهادة الكومبيوتر بالنسبة لريتا
تخصصت “ريتا” (28 سنة) في علم الكومبيوتر منذ سنوات. إلا أنها منذ تخرجها واجهت في مدينتها زحلة سوقاً ضيقاً للعمل. ولذلك كانت الوظيفة الرسمية خيارها الأنسب، إلى أن وقعت الأزمة الاقتصادية.
تروي ريتا أنها عندما حاولت أن تتوظف في إحدى المؤسسات التي تقدم خدمة برمجة الكومبيوتر قيل لها انها ستعمل لثلاثة أشهر مجاناً، ومن ثم سيكون أجرها 500 ألف ليرة على أن يرتفع في حال تحسن واقع المؤسسة. حتى في مرحلة “عز الليرة” بدا المبلغ متواضعاً، وقد قابله راتب يوازي ألف دولار من خلال القطاع الرسمي، ولذلك قررت التخلي عن طموحها بوظيفة بتخصصها.
إلا أن هذا الأمر بقي يشعرها بأنها خسرت فرصة للاستثمار بمعرفتها في تخصص العصر. ولذلك قررت العودة إلى مقاعد الجامعة اللبنانية لتعزز شهادتها بمجال تطوير الشبكة، web developer، بتشجيع من عائلتها وأصدقائها.
لم يكن الاختصاص سهلاً، وخصوصاً في الجامعة اللبنانية التي تعتز “ريتا” بشهادتها. إلا أنها نجحت وقررت أن لا تيأس في البحث عن الفرصة، وخصوصاً مع انهيار قيمة العملة اللبنانية، التي جعلت من راتبها في القطاع الرسمي لا يوزاي المئة دولار.
تشرح “ريتا” أن ظروفها في البيت لا تسمح لها بالانتقال حتى إلى بيروت. فضلاً عن أنها مقتنعة بأن أموال بيروت لبيروت. وبين أجرة منزل، وفاتورة كهرباء وكلفة التنقلات والملابس، تكون كمن عمل براتب متدن في مدينتها زحلة، هذا في وقت تشترط شركات الكومبيوتر في بيروت الخبرة أولاً. فمن أين تأتي الخبرة إذا لم تبدأ بالعمل أولاً.
في تلك الفترة كانت ترى أصدقاء لها يزاولون مهنة التدريس الخاص عن بعد. صديقة لها كانت تعلم تلاميذ في أستراليا، وتتقاضى أجراً يوازي 800 دولار في عز أزمة انهيار العملة اللبنانية. ولكنها لم تكن تعرف كيف تفتح لها تلك الأبواب. إلى أن قرر صديق يعمل في شركة تعني بتدريس تلاميذ الجامعات القطريين حصراً، التخلي عن جزء من ساعاته، بعدما وجد فرصة للانتقال إلى وظيفة بدوام كامل. وكانت هذه فرصة “ريتا”.
نشأت هذه الشركة وفقا لمعلومات “ريتا” خلال جائحة كورونا، وبسبب الدعم الذي قدمته للتلاميذ في تلك الفترة أكملت المهمة ما بعدها. تختصر علاقتها مع الشركة بوسطائها اللبنانيين، الذين يعرضون عليها نوع الدعم الذي يحتاجه التلميذ في منهاجه، وبحال كانت قادرة على المهمة، توكل بها لقاء أجر تتقاضاه على كل ساعة عمل. وتشمل هذه الخدمة التلاميذ القطريين في شتى أنحاء العالم، فتنجز معهم فروضهم، وتساعدهم على فهم بعض المسائل التي يواجهونها لأول مرة.
مع أن اختصاصها ليس هندسة الكومبيوتر، فإن أسس تخصصها سهلت لها قراءة لغة الكومبيوتر. ولذلك عندما تطرح عليها أحياناً أموراً لم تختبرها، تقول “أكسّر رأسي حتى أجد الحل”. وأحيانا يكون على “ريتا” التنقل في لغات الكومبيوتر بين sql java وغيرها، فتشعر أن عقلها “تعطل”. ولكنها تقول إن هذا الأمر أمن لها انفتاحاً على مناهج جامعية متعددة، وبالتالي سمح لها البقاء في جو تخصصها، وتوسيع معرفتها وخبرتها في مجالاته.
إلا أن الأمر ليس سهلاً كما تؤكد، وقد يتسبب باكتئاب إذا ما دام كنمط يومي. ولذلك هي تعتبر وظيفتها في القطاع الرسمي المتنفس الذي يبقيها على تواصل مع أشخاص حقيقيين، تلتقي بهم بعيداً عن الشاشة التي تختزل العالم في وظيفتها التدريسية.
في المقابل فإن مهمتها أونلاين غيرت نمط حياتها. لم تعد “ريتا” تملك وقت فراغ للتسكع. وأيام عطل اللبنانيين الكثيرة، امتلأت بجداول التدريس. وباتت أوقات فراغها تستثمر في حل بعض المسائل وفهمها ومن ثم نقل معرفتها لتلاميذها. وهكذا تأمن لها دخلاً إضافياً فاق بأضعاف راتبها من القطاع الرسمي من دون أن تضطر للانتقال جسديا من زحلة.
الدخل الصافي الذي تتقاضاه ريتا ليس المبلغ الذي يتقاضاه المشغلون من التلميذ. ولكنه خال من نفقات التنقلات ونفقات اللبس وغيرها من احتياجات الخروج من المنزل، لذلك تعتبره يضمن نوعاً من الاستقرار المعيشي لها، من دون أن تضطر لمغادرة بيتها.
ومع أنها ليست الطموح النهائي بالنسبة لها، ولكنها وظيفتها أونلاين فتحت لها أفقا للتفكير بإستثمار شهادتها، وبات حلمها هي أن تنشئ مركزا في مدينتها زحلة يعلم البرمجة للأطفال والفتيان الذين يظهرون موهبة في صناعة الروبوت وغيرها، بما يضمن لهم أسساً يمكن أن تجعلهم يبدعون في مجال اهتماماتهم لاحقاً.
تحاول ريتا في المقابل أن تبقي على علاقة مع تلاميذها وتتابع تقدمهم في الدراسة. والعلاقة المباشرة ولو عن بعد تخلق نوعا من المودة، التي قد تتضمن لحظات ضحك ومزح وخصوصا عندما يتعلق الأمر بتنوع اللهجات، وهذا ما يجعل تلاميذها يرغبون بزيارة لبنان والتعرف شخصيا إليها.
الخبرة التي تسعى إليها تجعل ماريبيل تتخطى ساعات العمل
بالنسبة لماريبيل قاصوف (23 سنة) التجربة تعتبر رائدة، لأنها سمحت لها بأن تجد وظيفة فعلية براتب ثابت في الخارج، من دون أن تغادر غرفة منزلها. في وظيفتها تعرفت إلى أسلوب منظم من العمل مع شركة بريطانية تتعاطى بيع العقارات real estate. وهذا ما جعلها ترغب بتغيير مجال عملها الذي اختلف عن شهادتها الجامعية.
وجدت ماريبيل عملها عن طريق تطبيق LINKEDIN المتخصص بتأمين الوظائف. وبالتالي، اختيرت “من دون واسطة”، فقط لمؤهلاتها التي اكتسبتها عن طريق العمل لدى وسيط لبناني لشركة خليجية استثمر في اندفاع مجموعة من الخريجين الحديثين، ومن ثم تخلى عنهم في وسط الطريق، من دون أن يحفظ لهم حتى حقوقهم الوظيفية.
ومع ذلك اعتبرتها ماريبيل تجربة أوصلتها إلى حيث هي حالياً. إذ تقول إنه بظروفنا المعيشية في لبنان بات طموح الشباب بعد التخرج العمل في الخارج. عمل الأونلاين يؤمن هذه الوظيفة في الخارج، إنما من دون أن نفترق عن أهلنا ونغادر بلدنا. تقول ماريبيل: “أريد أن أبقى هنا في لبنان ولا مخططات لدي للسفر ومتابعة حياتي في الخارج. أعتقد في النهاية أنني أريد أن أحقق ما أريده في وسط عائلتي وببلدي. ولكننا نحتاج إلى دافع أحياناً، وهذا ما يتأمن لي من خلال تجارب مع شركات أجنبية”.
تجربة ماريبيل الأونلاين الأولى كانت مع شركة لبنانية في مجال تخصصها ببرمجة الهواتف. إلا أنها لم تكن مشجعة. فالتواصل الجيد غير متوفر والتطور بطيء، وهناك محاولة استغلال لمن يعملون أونلاين. ولذلك عندما وصلت إلى وقت وجدت فيه أنها لا تكتسب خبرة ولا تستفيد حتى مادياً قررت المغادرة.
بالنسبة لها العمل مع شركة بريطانية لا يتعلق فقط بالراتب. وإنما بما تكتسبه من خبرة في التنظيم والتواصل وتقدير للجهد وتشجيع. وتشرح “عندما تسلمت مهماتي قيل لي بأن لا أخاف من الخطأ أو الإعتراف به لأنه وحده سيعلمني”.
وتشير في المقابل بأن راتبها في الشركة الأجنبية لا يوازي راتب موظف من موظفيها الذين يعملون حضورياً. ولكن أبعد من الراتب، تعتبر انها تكتسب الخبرة مع شركة أجنبية وهذا يغني سيرتها الوظيفية، بالإضافىة إلى التواصل مع أشخاص من خلفيات اجتماعية مختلفة.
أما عن الصعوبات فتقول إن أحدها “أننا لا نعمل بجو مكتبي. وبالتالي نفتقد للزملاء ولتجارب اجتماعية يمكن تطويرها. ولأننا لسنا في جو عمل وظيفي أحيانا نتخطى ساعات العمل من دون أن نشعر. وأحيانا نكون تحت ضغط كبير. هذا بالإضافة إلى التعب من الجلوس في المكان نفسه.”
على رغم تجربتها الصغيرة، تسدي ماريبيل نصيحة لجيلها بأن يسعوا في بداية مسيرتهم المهنية لبناء الخبرة أولاً، فهي أهم من الشهادة. وبرأيها أنه قد تكون الوظيفة بداية أصغر من الطموحات، ولكنها فرصة متاحة لإكتساب الخبرة. وتعتبر أنه هناك وظائف جيدة في لبنان مع رواتب بمستوى الشركات العالمية لكنها تحتاج إلى خبرة.
العمل بالـ”بيجاما” لا يستهوي يارا ولكنه فرصة
بالنسبة ليارا جرجس، فإن العمل أونلاين ليس المفضل ولكنه المتوفر حالياً. تقول “تتعب نفسيتي إذا بقيت بالبيجاما ووجهي بوجه الحائط”، فضلاً عن أنها تعتبر أن العلاقات التي تبنى في مكان الوظيفة تنمي شخصية الإنسان، وتؤمن نوعاً من التواصل الذي يمكن ان يفتح الأبواب على فرص إضافية.
ولكنها بعد تنقلها بين عدة وظائف وجدت نفسها من دون عمل. إلى أن اختارتها شركة عقارية أصولها في دبي لتكون وسيطة بيع وشراء لعقارات في دبي.
من حسنات العمل اونلاين برأيها إلى جانب كونه لا يتطلب نفقات شخصية كبيرة ونفقات تنقل، هي أنها لا تضطر للاستيقاظ باكراً. ويكفي أن تغسل وجهها وتفتح الكومبيتر حتى تنتقل مباشرة إلى جو العمل. وهذا ما يسمح بقضاء مزيد من الوقت مع الأهل، والاستفادة من أوقات الراحة وسطهم. ولذلك تقول “كعزباء أفضل العمل في الخارج. أما إذا تزوجت فقد أفضل الأونلاين”.
إنفتاح سوق العمل الخارجي على لبنان برأيها يتعلق بشخصية اللبناني “اللي كيف ما رميناه بيجي واقف”. ولذلك تشير إلى أن معظم العالم العربي تحديداً يرغب بتوظيف لبنانيين. ولكنها تضيف “نعاني مؤخراً إحباطاً من خلال تدني الرواتب، فهذا السوق يبحث عن يد عاملة رخيصة وبالوقت نفسه مندفعة للعمل، وبالتالي يوظفون اللبنانيين أونلاين حتى لا يتكبدوا نفقات توظيفهم حضورياً، وما يرتبه ذلك من واجبات إضافية على صاحب العمل”.
لا فرق بالنسبة ليارا بين رجل وامرأة في ممارسة العمل أونلاين. وبرأيها “إذا كانت السيدات قادرات على العمل من البيت كذلك الرجال. ولكن الأمر يحتاج إلى نفس طويل، وليس سهلاً”.
أما أهم ما اكتسبته من عملها مع شركة أجنبية فهو الخبرة. وهذا يخلق برأيها فرصاً أفضل في المستقبل الوظيفي.