لبنانيّات في مهن كنّ يأنفن مزاولتها

“جعنا.. الشغل مش عيب المهم ناكل”. بهذه العبارة برّرت “منى” عملها بالخدمة المنزلية، وهي إمرأة متزوجة في العقد الرابع، وأم لطفلين، دفعت بها الحاجة نحو العمل في منازل الناس يومياً. فراتب زوجها الشهري الذي يعمل في مطعم ويتقاضى مليوناً ونصف المليون ليرة لبنانيّة، لم يعد كافيّاً لإطعام أولادها وتعليمهم.

تروي منى لـ”المدن” عن الأسباب التي دفعت بها للعمل في الخدمة المنزليّة، وتقول إنها تحتاج شهرياً إلى 800 ألف ليرة لبنانيّة لإيجار منزلها، المؤلّف من غرفتين ومطبخ، و500 ألف ليرة لصاحب المولد الكهربائي مقابل 2 أمبير فقط، و600 ألف ليرة بين أقساط ومستلزمات المدرسة الرسميّة، إضافة لحاجتها لشراء مؤنة لبيتها من أجل تحضير الطعام لأطفالها. لذا، لجأت لطلب العمل بالساعة عند سيّدة مقيمة في بيروت، بشكل يومي. فهي إمرأة عاجزة، لذا أقوم بمهامها اليوميّة. أرتب منزلها وأنظفّه، وأقوم بتحضير الطعام لعائلتها، واتفقت معها من الإثنين إلى الجمعة، كل يوم 3 ساعات وبدل الساعة الواحدة 35 ألف ليرة لبنانيّة.

لم يكن الأمر سهلاً، ولكني مجبرة من أجل عائلتي. أشعر بالتعب في كثير من الأوقات، وأبكي خلسةُ وأنا أنظف مراحيض الناس. ولكن ماذا أفعل؟ لا يمكنني أن أرى طفلي جائعاً وأنا غير قادرة على إطعامه. طلبنا المساعدة من كثير من مكاتب بعض النواب الذين قمنا بانتخابهم، ولكن لا إجابة.. بكرا، وقت الانتخابات بيتذكرونا بكرتونة إعاشة من أجل الحصول على أصواتنا!

وتضيف بلوعة: نعم كثيراً ما كنت أشعر بالإحراج، فهذه المهنة كانت للعاملات الأجنبيّة وليست للبنانيات. ولكن أدركت مؤخراً أن “الشغل مش عيب”. صحيح أنّ هذه الأزمة غيرت حياتي رأساً على عقب، ونحن في مجتمع لا يرحم المرأة. فأنا أسمع بعض جيراني يتهامسون خلفي”حرام عم تشتغل خدّامة”؛ أمسح دمعتي وأكمل طريقي. الشغل صعب.. لكنّ الحاجة أصعب!

والأزمة طالت “هناء” أيضاً. وهي متزوجة وأم لثلاثة أطفال، في العقد الخامس من عمرها، وزوجها يملك “فاناً” صغيراً يعمل عليه يومياً. وبسبب عدم قدرتهما على تأمين إيجار بيتهما، جعلها تفكّر في أي طريقة لجني المال. طلب صاحب المنزل مليوني ليرة لبنانيّة للإيجار، وصاحب الاشتراك الكهربائي مليوناً ومئة ألف ليرة لبنانيّة. كل هذه الأرقام وأنا لم أدفع الأقساط المدرسية، ولم أشتر الكتب المدرسيّة، ولم أجلب طعاماً لأولادي بعد..

لذا، قررنا تأمين عربة صغيرة، وضعت عليها أصنافاً عديدة من السكاكر لبيعها للأطفال، لا يتعدى سعر الصنف الواحد 1500 ليرة لبنانيّة. يبدأ نهاري من السادسة صباحاً، أقوم بتوصيل أطفالي للمدرسة وأبدأ بترتيب السكاكر على العربة بعلبها الملونّة، وأسجل نواقصي لأقوم بشرائها من التاجر في اليوم نفسه. أتعامل مع تاجر يشعر بمعاناتي ويساعدني عبر تأمين السكاكر وعدم دفع ثمنها سوى لحظة بيعها كلها، ومن ثمّ أقوم بأخذ ربحي وإعطائه ثمن سكاكره. أبدأ بالعمل منذ السابعة صباحاً وعند الثانية ظهراً أجلب أطفالي من المدرسة وأعود للعربة.

تعدّدت المهن والحاجة واحدة، فمن الخدمة المنزلية إلى عربة السكاكر.. “هدى” تمتهن تحضير وجبات الطعام وبيعها للزبائن من منزلها. إزاء التضخم المالي وانخفاض القدرة الشرائيّة للمواطنين، ولأن كلفة إيجار أي محل لفتح أي مشروع باتت في غاية الصعوبة، قررت هدى العمل من منزلها لتتحدى هذه الظروف الصعبة. وهي امرأة في منتصف العقد الرابع، متزوجة من سائق سيارة أجرة وأم لأربعة أطفال .وهي كباقي النساء اللبنانيات التي أجبرت على دخول سوق العمل من أجل مساعدة زوجها صاحب الدخل المحدود، في ظل ارتفاع سعر صفيحة البنزين إلى أكثر 300 ألف ليرة.

تنشر صور وجبات الطعام وأسعارها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وتقوم بتحضير أي وجبة يرغبها الزبون حتى الصعب منها، والذي يتطلب بعض التعب لإتمامه “كالاوزه .. الكراعين.. رأس النيفة”. وتقوم بإعطاء أسعار مناسبة للمناسبات. كما تقدم وجبات يومية لطلاب الجامعات وللموظفين الذين يتعاملون معها يومياً. تقول:لم أتوقع أن ألجأ للعمل، وأن أعرض طبخي على وسائل التواصل الاجتماعي. لكني لطالما كنت أتلقى المدح في “لقمة الأكل التي أحضرها حين يأتي أصدقاء أولادي”. تشجعت وقررت البدء من منزلي وربما لاحقاً أقوم بفتح محل صغير لي.. لا أحد يعلم! أزور السوق يومياً منذ الصباح الباكر لشراء الخضار والأغراض اللازمة للوجبات التي سأحضرها، وأقوم بتجهيز علب الألمنيوم التي سأضع الوجبة فيها. أواجه بعض التعب، ولكني بحاجة لأن أساعد زوجي الذي يسعى من الصباح إلى المساء لتأمين قوتنا اليومي. مصروفنا الشهري بات كبيراً، فإيجار منزلنا وحده مليون وسبعمئة ألف ليرة، وصاحب المولد الكهربائي يقوم برفع أسعاره شهرياً. نحتاج إلى تعبئة قارورة الغاز مرتين في الشهر. وقد وصل سعرها إلى 250 ألف ليرة. كما يحتاج زوجي إلى تعبئة سيارته بالوقود أسبوعياً. ناهيك عن مصاريفنا اليومية من أكل وطبابة وغيرها الكثير.. لذا، أمام كل هذه الأعباء التي تواجهنا في لبنان، لم يعد أمامنا أي خيار سوى المواجهة والكد في العمل!

مصدرالمدن - فرح منصور
المادة السابقةشركات الأدوية العالمية تخرج من لبنان
المقالة القادمةمن البطارية إلى الألواح الشمسية: كلفة الكهرباء البديلة