يقف لبنان اليوم عند مفترق طرق، أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الإستسلام للقعر الذي هبط إليه خلال السنوات القليلة الماضية أو الخروج منه. وليس الخروج من القعر بالأمر اليسير لكنه بالطبع ليس مستحيلاً. وكما دخل لبنان منعطفاً جديداً على المستوى السياسي لا بد له من مواجهة التحديات المرتبطة بالإستحقاقات المالية والاقتصادية العاجلة.
يواجه لبنان اليوم تحديات اقتصادية غير مسبوقة، ولا تقتصر على إعادة الإعمار وهيكلة القطاع المصرفي وأزمة الودائع والدين العام. فثمة تحديات كثيرة ترتبط بالمالية العامة والقطاع العام والحوكمة والشفافية والقضاء وغيرها الكثير من الإستحقاقات المترابطة التي لا يمكن تجزئتها.
ولا تنفصل الإستحقاقات الاقتصادية والمالية والنقدية عن قضية العمل الجدّي على شطب اسم لبنان عن “اللائحة الرمادية” التي وضعتها مجموعة العمل المالي (FATF)، وتجنّب بلوغ مرحلة إدراجه على اللائحة السوداء. وهو الأمر الذي يشكل تهديدًا مستمرًا لسمعة النظام المالي اللبناني ويعرقل تدفق الاستثمارات الخارجية. وبالنظر إلى شحّ الموارد وتزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، ومع بدء تنفيذ الإستحقاقات السياسية بانتخاب رئيس للجمهورية وتسمية نواف سلام لتشكيل حكومة، يبقى السؤال هل يستطيع لبنان الوفاء بتعهداته المالية والاقتصادية ويتمكّن من استعادة الثقة الدولية؟ وما هي الأولويات التي يجب الإنطلاق منها في رحلة الإصلاحات؟
الإصلاح… حلقة مترابطة
لم يخلُ خطاب القسم للرئيس اللبناني المنتخب جوزاف عون من أي استحقاق اقتصادي أو مالي أو حتى نقدي، فالرئيس عون أدرج في كلمته الخطوط العريضة للإصلاح المالي والاقتصادي والمصرفي شاملاً بها كل ما ورد في البرنامج الإصلاحي الذي طرحه صندوق النقد الدولي على لبنان عام 2022 ولم يُنفّذ منه شيئاً يُذكر.
ويبدو جليّاً أن ثمة تفاؤل داخلي وخارجي بانتخاب عون رئيساً للجمهورية وتسمية نواف سلام لتشكيل الحكومة مع ما يترافق من تغييرات إقليمية بدءاً من انتهاء الحرب في لبنان وسقوط النظام السوري ووقف إطلاق النار في غزة، كلّها عوامل قد تشكّل فرصة للبنان لإعادة النهوض واستعادة ثقة المجتمع الدولي وهو ما لوحظ مؤخراً من خلال إشارات إيجابية خليجية لاسيما سعودية مباشرة تجاه لبنان، تبشّر باستعادة ثقة دول المنطقة والعالم.
لكن، وعلى الرغم من كل الظروف السياسية المؤاتية قد يخفق لبنان بتنفيذ إصلاحات اقتصادية ومالية عاجلة ما لم يشهد ولادة حكومة منسجمة وجدّية بالتعامل مع التحديات المقبلة. ويرى نائب حاكم مصرف لبنان سابقاً الخبير الاقتصادي ناصر السعيدي أن التفاؤل والمؤشرات الإيجابية لا تكفي للنهوض بالبلد ما لم يتم تشكيل حكومة منسجمة فيما بينها وأن يكون أعضاؤها أقرب الى الخبراء من السياسيين.
ويرى السعيدي أنه لا يمكن تكرار أو العودة إلى السياسات المالية والنقدية السابقة إذ لا بد من تصويب تلك السياسات وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتنفيذ مجموعة إصلاحات عاجلة وعقد اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي، ومن الأهمية، بحسب السعيدي، أن يتم فتح ملفات المحاسبة والمساءلة حول كل ما حصل في السنوات العشر الماضية.
عند الحديث عن الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة وأولويات تنفيذها يتبادر إلى الأذهان فوراً القطاع المصرفي والمالية العامة بحيث يتصدّر هذين الملفين كافة النقاشات الإصلاحية، إلا أن خبراء يرون أن الإصلاحات المطلوبة في لبنان مترابطة بشكل وثيق بحيث يصعب فصلها عن بعضها، بمعنى آخر لا يمكن الشروع بإصلاح قطاع معيّن مع تجاهل آخر. فالإنهيار طال كافة القطاعات وعليه تستلزم جهود الإصلاح التوسّع لتطال كافة القطاعات.
ترى عليا مبيّض وهي اقتصادية متخصصة بالأسواق الناشئة أن التحديات الاقتصادية والاجتماعية متداخلة إلى حد كبير، فلا يمكن المضي بعملية إعادة الإعمار ولا إطلاق عجلة نمو القطاع الخاص على سبيل المثال من دون إجراء إعادة هيكلة للدين وللقطاع المالي والعام. كما لا يمكن للحكومة حشد الموارد المالية لإعادة الإعمار، من دون ملاحظة تخلف الدولة عن السداد، والخسائر في القطاع المالي، وفي مصرف لبنان، ولا يمكن السير بأي إصلاحات، من دون أدوات للحكم الجيد وبناء دولة.
ويلتقي سمير حمّود الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف مع مبيّض بأنه من الخطأ فصل مجالات الإصلاح ووضعها في سلّم أولويات إذ أنها مترابطة بشكل وثيق، وتشمل لائحة الإصلاحات بحسب حمّود عدداً كبيراً من القطاعات، مع التسليم بأن استقامة الاقتصاد تقوم على ذراعين اثنين، مالية ونقدية مع كل ما يندرج تحت هذين العنوانين من ملفات وقطاعات.
الواقع الراهن للاقتصاد اللبناني
قبل الدخول بمجالات الإصلاح المنتظرة والعاجلة وأولوياتها، لا بد من المرور، وإن سريعاً، على مستوى الإنهيار الذي بلغه الاقتصاد اللبناني والذي لامس فيه القاع خلال السنوات الخمس الماضية. وقد شكّلت العوامل المتسارعة من الأزمة المالية عام 2019 مروراً بانفجار مرفأ بيروت عام 2020 والحرب مع إسرائيل عام 2024 ضغوطاً متواصلة على الإقتصاد اللبناني رافقها سوء إدارة السلطات الرسمية وعدم جدّية في التعامل مع الأزمات.
وكانت النتيجة آثاراً كارثية على كافة القطاعات الاقتصادية وتدهور الوضع المعيشي وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي والنظام المالي. فالليرة اللبنانية خسرت ما يزيد عن 90 في المئة من قيمتها ومعدل التضخم بلغ 221.3 في المئة عام 2023 بحسب بيانات إدارة الإحصاء المركزي، وتقلّص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تفوق 38 في المئة منذ عام 2019 بحسب المرصد الاقتصادي للبنان الصادر عن البنك الدولي، كما ارتفع معدّل البطالة بين الشباب في لبنان إلى معدلات قياسية بلغت 47.8 في المئة بحسب منظمة العمل الدولية، وتضاعف مستوى الفقر 3 مرات بحسب البنك الدولي بحيث بلغ 44 في المئة عام 2022 علماً أن ثلث اللبنانيين يعانون اليوم من انعدام الأمن الغذائي بحسب منظمة الغذاء العالمية (الفاو).
كما بلغ التدهور كافة القطاعات الإنتاجية والخدماتية لاسيما السياحة والصناعة والزراعة إذ تكبّدت خسائر هائلة على مدار السنوات القليلة الماضية وترافقت مع اهتراء البنى التحتية وتدهور الخدمات التعليمية والصحية بشكل غير مسبوق، رغم ارتفاع التكاليف وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين.
كما يواجه لبنان تحديات إضافية تتعلق بغياب الشفافية المالية والتهرب الضريبي وتبييض الأموال وهي أمور ساهمت بشكل مباشر في إدراجه على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي ما يجعل من الالتزام بالإجراءات والمعايير الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب مسألة ذات أولوية قصوى في سبيل الخروج من اللائحة الرمادية وتسهيل العودة إلى طاولة التفاوض مع صندوق النقد الدولي التي تشكّل أملًا للبنان للخروج من الأزمة.
أولويات الإصلاح!
وانطلاقاً من ترابط الإستحقاقات الإصلاحية أمام لبنان، ترى مبيّض أن هناك أولويات أربعة مطروحة ومتداخلة إلى حد كبير.
1- إعادة هيكلة المصارف والقطاع العام: لا بد من التركيز أولاً على إعادة هيكلة المصارف والقطاع العام عبر خطة جديدة للتعامل مع الخسائر في القطاع المالي، إعادة رسملة مصرف لبنان وإعادة هيكلة الدين العام، تكون أساساً للمفاوضات مع الدائنين وأصحاب المصلحة الداخليين (مصارف ومودعين) والشركاء الدوليين، يمكن مناقشتها مع صندوق النقد الدولي. لذا لا بدَ من إعادة النظر بمشروع قانون إعادة هيكلة المصارف بشكل يحفظ حقوق المودعين أوّلاً، كما وتحضير خطة للإصلاح الضريبي والإنفاق العام تركّز على العدالة الاجتماعية وتشجيع الاستثمار الخاص في آن معا.
2- إعادة الإعمار والتنمية: تحتاج الحكومة الجديدة، إلى وضع خطة شاملة لإعادة الإعمار والتنمية، يكون الهدف منها خلق فرص جديدة للعمل والنمو، وتفادي تكرار أخطاء العام 2006 أو ما بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020. فبالاضافة إلى إعادة بناء المساكن المهدّمة والبنى التحتية المدمرة، لا بد أن تلحظ الخطة أيضاً مشاريع تنمية اجتماعية واقتصادية محلية، تسمح للدولة استعادة خدماتها الأساسية (الصحة والتعليم …) في هذه المناطق، وتعطي حوافز للقطاع الخاص لعودة الاستثمار وفق نموذج تنموي يخلق فرص عمل جديدة للشباب.
إلا أن حشد الموارد المالية لتنفيذ خطة إعادة الإعمار، والتي أبدت الجهات الخارجية استعداداً لدعمها، سيرتّب على الحكومة الإسراع أولاً بإعادة هيكلة القطاع المصرفي ومصرف لبنان ودين الدولة.
3- استعادة القدرة التنافسية للقطاع الخاص مع التركيز على قطاعي الطاقة والاتصالات: من الضرورة تفكيك العقبات التي تحول دون قدرة القطاع الخاص على النمو والمنافسة والتصدير. فبالإضافة إلى إعادة هيكلة المصارف التي ستسمح بعودة التسليف والتمويل للشركات الخاصّة، لا بدّ من التركيز على قطاعي الطاقة والاتصالات، بدءاً بتنفيذ القوانين التي تسمح بإنشاء هيئات ناظمة مستقلة والمضي قدماً في تحرير القطاعين، بشكل يضمن تخفيض الكلفة وجذب رأس المال الخاص لتحديث البنية التحتية فيهما. ولا بد أن تكون الطاقة المستدامة في صميم زيادة القدرة الإنتاجية للقطاع. أضف إلى ذلك، ضرورة خفض التكاليف المترتبة على ممارسة الأعمال التجارية من خلال تبسيط الإجراءات الجمركية ورقمنتها، وتحسين الخدمات اللوجستية في الموانئ والمطارات عبر مشاركة القطاع الخاص في إدارتها والاستثمار فيها.
4- إعادة بناء الدولة، تحديث الإدارة ورقمنتها: هنا تشرح مبيّض بأن لبنان يعاني من ضعف في مؤسسات الدولة والحوكمة، وبالتالي يصبح من المستحيل على الحكومة، تحقيق أي من الأولويات المذكورة أعلاه من دون وجود إدارة عامة قادرة ومهنية ومنتجة. وعليه، يتعين على رئيسي الجمهورية والحكومة، اغتنام فرصة الشغور في ملاك الإدارة العامة لإجراء مراجعة وظيفية للهيئات الحكومية ودور الدولة في توفير الخدمات وتنظيمها. عندها فقط يتم تصميم خطة لإعادة ملء الشواغر من خلال نظام تنافسي للتوظيف في الخدمة العامة ولتقييم أداء الموظفين قائم على مبدأ الجدارة والإنتاجية، وليس الزبائنية وإطاعة الزعيم الطائفي. كما أن رقمنة الخدمات العامة وزيادة كفاءتها وقربها إلى المواطنين، تشكل مفتاحاً للحد من الفساد.
من جهته يشدّد حمّود على أن للاقتصاد ذراعين اثنين لا يمكن الفصل بينهما وهما:
1- سياسة مالية تتضمن الموازنة والإنفاق الحكومي في اتجاه الاستهلاك والاستثمار في البنية التحتية.
2- سياسة نقدية تتضمن الاستقرار النقدي وضبط التضخم وسلامة النظام المصرفي.
هاتان الذراعان يمكّنان الاقتصاد من النهوض، وذلك يقاس بالنمو في الناتج المحلي ومحاربة البطالة أو خلق فرص العمل.
وبحسب حمّود فإنه، ورغم أن الاقتصاد اللبناني يعتمد الحرية والمبادرة الفردية، إلا أن أولى عناصر حماية القطاع الخاص هي أن يكون القطاع العام صحيحاً سليماً كفوءاً نظيفاً حديثاً خلاقاً بعناصر في مستوى رفيع ودخل كاف وأخلاقيات مهنية لا يشار إليها بأي شبهات .فالقطاع العام يتضمن كافة الوزارات من هنا ترتبط الإصلاحات الطارئة بالقضاء والأمن والإدارات العامة من خدمات وتعليم وتخطيط وتطوير وطرقات واتصالات وكهرباء وغيرها اضافة إلى المؤسسات العامة.
ويحدّد حمود 3 مُسلّمات يجب احترامها هي أن:
1- لا قطاع خاص، منتج ومجديّ إلا في وجود قطاع عام صحيح وسليم.
2- لا اقتصاد إلا في وجود قطاع مصرفي موثوق حيوي وحديث.
3- لا قطاع مصرفي سليم يستعيد الثقة ما لم تصدر تشريعات تحفظ حقوق المودعين وكل المودعين، صغيراً وكبيراً مقيماً وغير مقيم، باستثناء مَن يثبت أن مصدر أمواله مشبوهة.
وهذا كله لا يستقيم إلا في وجود قضاء وأمن وبنية تحتية وعلاقة إيجابية مع العرب والغرب والشرق وان يعود لبنان واحة تعليم وإنتاج ومعلوماتية وترفيه واستثمار وادخار.
تحديات اللائحة الرمادية وصندوق النقد
أما التحديات التي تواجه لبنان لجهة شطب اسمه عن اللائحة الرمادية والعودة إلى طاولة التفاوض مع صندوق النقد، فتشمل كل ما سلف من إصلاحات. وبحسب حمّود فإن الخروج عن اللائحة الرمادية ليس بالأمر المعقد إنما يتطلب البديهيات من مصرف مركزي سليم ومصارف موثوقة ورقابة صحيحة وحدود منضبطة وهذا يقع ضمن الإصلاح المصرفي المطلوب.
وعما إن كان لا يزال أمام لبنان الفرصة للعودة إلى طاولة صندوق النقد، تقول مبيّض وبشكل جازم “بالطبع نعم، وعلينا تحضير استراتيجية وبرنامج عمل للنهوض الاقتصادي والاجتماعي يقوم على الأولويات التي ذكرناها أعلاه. فبعد تخلّف الدولة عن الدفع وتسجيل خسائر تفوق الـ70 مليار دولار بين المصارف ومصرف لبنان، لبنان مضطر للجوء إلى صندوق النقد الدولي من أجل التفاوض مع الدائنين واستعادة استدامة المالية العامة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي ومصرف لبنان والحصول على رأس المال لإعادة الإعمار وتنمية اقتصاده.
ولكن برنامج صندوق النقد والتمويل الذي سيوفره هو وسيلة وليس هدفاً، إذ سيجبر الحكومة على وضع رؤية لإعادة هيكلة الاقتصاد ككل على مدى السنوات الخمس المقبلة وتصميم برنامج شامل للتعافي الاجتماعي والاقتصادي يلاقي دعم اللبنانيين والمجتمع الدولي.
وبرأي مبيّض “لسنا بحاجة إلى البدء من الصفر بعد إضاعة خمس سنوات. ولا بدّ من البناء على ما تم التحضير له إما لإعادة النظر به او لاستكماله. متوقعة أن يتعاون صندوق النقد الدولي مع الحكومة اللبنانية، في أقرب وقت ممكن بدءاً من المساعدة على تقييم وضع الاقتصاد والمالية العامة والنظام المصرفي، قبل الشروع في مفاوضات جديدة”.
يلتقي خبراء ماليون واقتصاديون على أن أمام لبنان ورشة إصلاحية واسعة النطاق، ولا يمكن فصل أي من جوانبها عن الآخر، فالإستحقاقات الإصلاحية مترابطة ومتداخلة إلى حد كبير من هنا لا بد من تقييم الوضع بشكل دقيق والإنطلاق بالإصلاحات عاجلاً.
يُنشر هذا التقرير في إطار زمالة صحافية حول “التغطية الإعلامية لمسار الإصلاحات” التي تنظمها مؤسسة “مهارات”