«هذا البلد يسرع الخطى إلى الانتحار». هذه هي الخلاصة الفاجعة التي توصل إليها أحد الدبلوماسيين الأجانب العاملين في بيروت، وهو يراقب تطورات الوضع الذي يزداد تعقيداً، ويستنسخ مشكلة من مشكلة، وأزمة من أزمة، رغم أن البلاد تواجه أزمة اقتصادية خانقة، وضعتها فعلاً على حافة الانهيار.
عندما قال الرئيس ميشال عون قبل أسبوعين، إن لبنان يشبه سفينة تايتانيك التي تغرق وركابها لاهون في الرقص، لم يبالغ قطعاً في وصف الوضع المأساوي، لكن ماذا كانت السياسات والإجراءات التي اتخذها هو والمسؤولون لوقف الانهيار؟ هل كثير إذا قلت الآن إن الذين يمسكون دفة القيادة، زادوا من سرعة دفع التايتانيك اللبناني نحو جبل الجليد، الذي قد يبتلع الجميع في النهاية؟
ليس كثيراً القول إن الأزمة تستنسخ أزمة أخرى أبشع، ذلك أن حادث قبر شمون وذيوله سرعان ما تحوّل في الأسبوع الماضي، مشكلة حالت دون اجتماع الحكومة، وتكاد تتحوّل أزمة حكومية، ما لم تتمكن الحكومة من العودة إلى الاجتماع في الأيام القليلة المقبلة، فيكون لبنان عندها أمام أزمة حكم، تعطل الوضع في البلاد، وتهدم الفرصة الأخيرة للنهوض، التي راهن عليها كما هو معروف، الرئيس سعد الحريري، عبر «مؤتمر سيدر»، الذي عقد في نيسان من العام الماضي برئاسة إيمانويل ماكرون، وقرر دعم لبنان بمبلغ يناهز 11 مليار دولار كهبات وقروض ميسرة!
بعد الحادث الدموي الذي وقع في قبر شمون قبل أيام، حصل انقسام جذري عميق حول ما إذا كان الحادث يجب أن يحوّل على المجلس العدلي، أو إذا كان لا بد من انتظار التحقيقات التي بدأت حوله، لكن ما لا يصدق أن الخلافات والوضع الانقسامي المتفاقم بين المسؤولين، بات يحتاج إلى وسطاء وموفدين ووساطات وأفكار واقتراحات، للتوصل إلى تفاهم ينهي توقف عجلة الدولة المعتلة، ويحول دون الوقوع في أزمة حكومية مفتوحة تستنسخ أزمة حكم، وهو أمر مدمر تماماً للوضع الذي يقف على حافة السقوط!
وبدلاً من أن ينحصر الاهتمام بترتيب عودة السلطة التنفيذية إلى ممارسة دورها، الذي يحرص الحريري عليه، في هذه المرحلة الحاسمة، عبر انتظار التحقيقات في حادث قبر شمون، قبل الذهاب إلى المجلس العدلي، برزت إشارات إلى أن الرئيس عون يصرّ على إدراج بند إحالة الحادث على المجلس العدلي، وفي رأس جدول أعمال أول جلسة لمجلس الوزراء، ولهذا لم يكن مفاجئاً أن تصل الأمور بكتلة «المستقبل» النيابية يوم الثلاثاء الماضي إلى وضع النقاط على الحروف، عندما ذكّرت من يلزم بالواقع الحقيقي في البلاد.
ذلك أن المجتمع الدولي ينتظر من لبنان خطوات جدية تواكب مقررات مؤتمر سيدر، لكن من غير المعقول أن تتقدم السجالات السياسية في لبنان على معالجة التحديات الاقتصادية والمالية، وأن تشكل الشروط والشروط المضادة عائقاً أمام انعقاد مجلس الوزراء، وهو ما يضع الجميع أمام خيار من اثنين؛ إما العودة إلى الانتظام تحت سقف مجلس الوزراء والسلطات الدستورية، وإما الذهاب إلى المجهول والاصطدام بالجدار المسدود.
كان الموقف واضحاً تماماً، فمجلس الوزراء يجب أن يعقد، ولا مجال لتعطيل أعماله على حسابات واشتراطات شخصية من فريق على فريق، فعندما أطلق الحريري اسم «حكومة إلى العمل» على تشكيلته نهاية شباط الماضي، كان يراهن على أمرين؛ أولاً البدء بعملية تلاقي «مؤتمر سيدر» في نصف الطريق، عبر إقرار ميزانية تخفّض العجز العام تحت نسبة 10 في المائة، وثانياً إطلاق ورشة عمل تضع البلد على سكة النهوض ووقف الانحدار.
الآن بعد تعطيل مجلس الوزراء، والحديث عن اشتراطات تتصل بصلاحيات من يدعوه إلى الانعقاد ويضع جدول أعماله، لم يكن مستغرباً أن يأتي الكلام حاسماً من كتلة «المستقبل»: «الرئيس الحريري هو المعنيّ أولاً وأخيراً بإعداد جدول أعمال مجلس الوزراء، وهو المعني بدعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد، وأي كلام آخر يقع في خانة الخروج على الدستور»!
ورغم الحديث عن صمود ورسوخ «التسوية السياسية»، التي قام بها الحريري في 20 تشرين الأول من عام 2016، وانتهت بانتخاب عون رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الاول من العام نفسه، والتي أنهت عملياً أكثر من سنتين من الفراغ الرئاسي، فإن تكرار الخلاف حول الملفات والصلاحيات ووضع الشروط، وآخرها فيما يتصل بالتعيينات الإدارية، التي قيل إن الوزير جبران باسيل يصرّ إلى تسمية كل المسيحيين فيها، ثم مسألة دعوة مجلس الوزراء ووضع جدول أعماله، كل هذا يهدد فعلاً المسار التعاوني المفترض الذي قامت عليه التسوية، كرهان من الحريري على البدء بالخروج من الأزمة.
في النهاية، سيعاود مجلس الوزراء اللبناني الانعقاد، لكن القصة ليست قصة اجتماعات؛ حيث تبين حتى الآن أن حكومة «إلى العمل» التي راهن عليها الحريري كمعبر لنهوض الوضع، تحولت غالباً إلى حكومة تعطيل أي عمل، والدليل الأولي أنها اضطرت إلى عقد 20 جلسة لإقرار الموازنة، التي ستكون موضع نقاش ومزايدات طويلة عريضة في مجلس النواب الأسبوع المقبل، رغم أنها لم تستجب عملياً وجزئياً للبيان الختامي لـ«مجموعة دعم لبنان» التي اجتمعت في 6 نيسان من العالم الماضي، برعاية الرئيس إيمانويل ماكرون، والتي قررت دعم لبنان بشروط واضحة؛ حيث نص البيان على ما يأتي… «تدعو المجموعة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في لبنان، بالتنسيق مع كل الأطراف، إلى تسريع برنامج الإصلاح الحكومي، لتمكين كل المؤسسات اللبنانية والكيانات الاقتصادية والمواطنين، وإلى تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، داخل دولة تضطلع بدورها كاملاً، في مناخ من الديمقراطية والشفافية».
ولكن ماذا فعلنا في لبنان الذي يقف على 3 عتبات؛ أزمة حكومية محتملة، قد تلتها أزمة حكم أكيدة، ثم أزمة دولة مفلسة؟ وهل من المستغرب أن يقول أحد الدبلوماسيين في بيروت قبل أيام؛ هذه دولة تسير إلى الانتحار؟!