لبنان بلا إدارة… من ينفّذ الإصلاحات

لبنان وهو يرزح تحت وطأة واحدة من أقسى الأزمات الاقتصادية في تاريخه، يواجه مأزقًا أكثر خطورة: إدارة عامة فارغة. آلاف الوظائف الشاغرة، ودوائر رسمية تحوّلت إلى هياكل مهجورة. كيف لدولة بهذا الحال أن تخوض معركة الإصلاح؟ في وقت أن كل خطط الإنقاذ – من شروط صندوق النقد الدولي إلى المبادرات الأوروبية – ترتكز على قدرة الدولة اللبنانية على الإنجاز والمتابعة والتقييم. لكن من سينفّذ؟ من يُشرف؟ من يقيّم؟ في ظل إدارة عامة منهكة، مفككة، تفقد يومًا بعد يوم ما تبقى من طاقاتها، يصبح هذا الرهان شبه مستحيل. إن نجاح أي سياسة عامة لا يُقاس بحسن صياغتها، بل بمدى قدرة الإدارة على تنفيذها، وضمان استمراريتها، ومراقبة نتائجها بشكل منهجي وشفاف. تبقى الدولة عاجزة عن الانتقال من الأزمة إلى الحل ما لم تُمسَك بمفصلها الأساسي: جهازها الإداري.
أمامنا جهاز إداري تتآكله الوظائف الشاغرة، ويتقاضى فيه الموظفون رواتب بالكاد تفي ببدلات التنقّل، فيما تستمر هجرة الكفاءات الشابة نحو الخارج أو القطاع الخاص، بحثًا عن كرامة مهنية وأمان وظيفي. أما مؤسسات الرقابة – من التفتيش المركزي إلى ديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية – فتعمل تحت طاقتها الدنيا، وبعضها بلا قيادات فعلية منذ سنوات، ما أفرغها من مضمونها الرقابي وحيّد دورها الأساسي في ضبط الأداء العام. هذا الواقع لا يُقاس بعدد الموظفين فقط، بل بمستوى الفعالية، وبتآكل شرعية الإدارة كجسم قادر على إنفاذ السياسات العامة، ما فتح الباب أمام فوضى إدارية، وشرعن الزبائنية، وعطّل مبادئ الشفافية والمساءلة، لا سيما في القطاعات الأكثر حساسية كالتوظيف، الصفقات العمومية، والخدمات الأساسية.

من سيأتي إلى إدارة مفلسة؟
أحد أبرز التحديات البنيوية أمام الحكومة اليوم، هو قدرتها على استقطاب الكفاءات إلى الإدارة العامة. وكما قال مهندس نهضة سنغافورة، لي كوان يو:”السر في بناء دولة ناجحة لا يكمن في القوانين وحدها، بل في الأشخاص الذين يُطبّقونها، وفي قدرتك على جذب الأفضل إلى الخدمة العامة.”

مع انهيار الأجور وتراجع صورة الوظيفة العامة، بات من شبه المستحيل إقناع خرّيج متميّز أو موظف خبير بالالتحاق بإدارة لا توفر الحد الأدنى من الحوافز، أو بيئة عمل غير عادلة ومحترفة. تحوّلت الوظيفة العامة، التي كانت رمزًا للاستقرار والمساهمة في الشأن العام، إلى مسار محفوف بالإحباط والتسييس، لا يغري إلا من يبحث عن غطاء سياسي أو موقع نفوذ.

الكفاءة… واجب دستوري
من المهم التذكير أن العودة إلى مبدأ الكفاءة في الإدارة ليست خيارًا تقنيًا أو ظرفيًا، بل واجب دستوري. فالمادة 12 من الدستور اللبناني تنص على:”لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة، لا ميزة لأحد إلا من حيث الاستحقاق والكفاءة، حسب الشروط التي ينص عليها القانون.” إن احترام هذا المبدأ لا يستقيم ما دامت الإدارة تُدار بمنطق الزبائنية والولاءات، وتُستخدم كمساحة لمكافأة الأنصار السياسيين. تحرير الإدارة من السياسة ليس ترفًا إصلاحيًا، بل شرط لبناء ثقة المواطن بدولته، وضمان استمرار السياسات بمعزل عن تغير الحكومات وتوازنات القوى.

في تاريخها الحديث، عرفت الدولة اللبنانية تجربة إصلاح إداري رائدة خلال مرحلة الشهابية بقيادة الرئيس فؤاد شهاب، حيث تأسست مؤسسات الرقابة والتخطيط، ووُضعت الإدارة العامة في صلب مشروع بناء الدولة. لم تكن تلك المرحلة مجرّد محطة سياسية، بل مشروع تحديث متكامل. إلا أن تلك المؤسسات، مع مرور الزمن، تآكلت تدريجيًا بعدما تحوّلت إلى أدوات سياسية وحزبية، ومصادر للنفوذ بدل أن تبقى ضامنة للصالح العام.

لبنان اليوم في سباق مع الزمن. لكنه، في ظل غياب إدارة حقيقية، يركض بلا قدمين. ولهذا، فإن إعادة الاعتبار إلى الوظيفة العامة، وتحصين المؤسسات الرقابية، وتطوير نظام الخدمة المدنية، يجب أن تكون أولوية واضحة ومعلنة لأي حكومة تدّعي السعي نحو الإصلاح. بدون إدارة فاعلة، سيبقى الإصلاح شعارًا فارغًا، معلّقًا على جدران إدارات شبه مهجورة.

مصدرالمدن - مروان حرب
المادة السابقةالمطاعم في “عزّها”… وتعويلٌ على السياحة العربية
المقالة القادمةقانون “إعادة الهيكلة”: هذا ما طلبه مصرف لبنان