لبنان في قلب الأزمة المالية العالمية: صندوق النقد مُطالب بمراجعة سياسته

في خضمّ ما يشهده النظام المالي العالمي من تصدّعات وتحولات غير مسبوقة، تبرز الحاجة إلى قراءة تحليلية جريئة، ولكن مسؤولة، تُضيء على الترابط الخفي بين الاقتصاد والسياسة، وعلى فرص دول المنطقة- ومنها لبنان- لإعادة التموضع في عالم يعاد تشكيله.

منذ بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، لم يعد الحديث عن الاقتصاد العالمي محصوراً بمؤشرات تقليدية كالركود أو التضخم. لقد تغيّر المشهد بالكامل. ما نعيشه اليوم هو تحوّل بنيوي يتجسّد في تآكل الثقة بالنظام المالي الدولي، وظهور تكتلات بديلة، وتسييس متزايد للأدوات الاقتصادية، بما ينذر بإعادة رسم قواعد اللعبة العالمية. بالنسبة لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي لطالما وجدت نفسها على هامش مائدة القرار العالمي، لم يعد مقبولاً التعامل بردّ الفعل فقط. إنها لحظة تستدعي الوعي، وإعادة التموضع، والتحرك الاستراتيجي.

من الركود إلى التشرذم. لم تعد أدوات السياسة النقدية قادرة على قراءة الواقع، فضلاً عن التأثير فيه. فقد انكشف وهم السيطرة النقدية عندما تحوّلت البنوك المركزية من ضابط إيقاع إلى متلقّ للأزمات. لم يعد الدولار الأميركي، الذي لطالما اعتُبر ركيزة النظام المالي العالمي، محصناً. لقد تحوّل إلى أداة للنفوذ السياسي عبر العقوبات. في عام 2022، على سبيل المثال، شكّل تجميد الأصول الروسية بقيمة تفوق 300 مليار دولار تحوّلاً صادماً في مبدأ حيادية الاحتياطيات النقدية. الأمر الذي دفع دولاً كالصين والهند وتركيا إلى تسريع تنويع احتياطياتها عبر شراء الذهب وعقد اتفاقات تجارية ثنائية خارج إطار الدولار. الذهب عاد بقوة كأصل استراتيجي، حيث سجّلت البنوك المركزية في عام 2023 أعلى مستوى من مشتريات الذهب منذ نصف قرن، بحسب تقرير مجلس الذهب العالمي. وهذا ليس مدفوعاً بالتضخم فحسب، بل بالخوف من التسييس والقيود المحتملة على الأصول.

في هذا السياق، تشهد أنظمة الدفع الدولية حالة من التشظي. الصين توسّع استخدام نظام “سايبس| (CIPS) كبديل لـسويفت (SWIFT)، فيما تعمل دول البريكس على تطوير آليات تسوية غير دولارية، مع التوجه نحو إطلاق عملة رقمية مدعومة بالذهب أو بسلة عملات. في المقابل، يعاني النظام المصرفي العالمي من هشاشة متزايدة. أزمة البنوك الإقليمية في 2023 كحالة سيليكان فالي بنك (Silicon Vally Bank) كشفت عن عيوب في الرقابة، وفجوات في إدارة مخاطر سعر الفائدة ومخاطر السوق، وتراكمات من الخسائر غير المحققة في محافظ السندات. وتؤكد هذه الأزمات أنه حتى أكثر الأنظمة تطوراً ليست في منأى عن الانكشاف، مما يُعمّق الشكوك في فعالية النموذج المالي الغربي. وفي ظل غياب جهة واحدة ذات مصداقية لقيادة إصلاح النظام العالمي، تزداد الارتجالية وتضعف آليات التنسيق، ما يُنتج واقعاً تتجزأ فيه الثقة والمؤسسات والأنظمة.

السياسة النقدية في زمن التحولات الهيكلية

لسنوات طويلة، تأسست ممارسات البنوك المركزية وصندوق النقد الدولي على فرضية مفادها أن تعديل أسعار الفائدة هو الأداة السحرية لضبط التضخم وتحفيز النمو. هذا النموذج الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية وبلغ ذروته مع «لحظة فولكر» في ثمانينات القرن الماضي، أظهر محدوديته في مواجهة الأزمات المعاصرة. فمع صعود التحول الرقمي، لم تعد الاقتصادات تقاس بإنتاج المصانع بل بأداء المنصات، ومع تعمّق المخاطر الجيوسياسية، لم تعد الأسواق تتحرك وفق العرض والطلب فقط، بل وفق التصعيدات والمفاجآت السياسية. وبينما تهاوت سلاسل الإمداد بفعل الجائحة والحروب، كانت أدوات السياسة النقدية تُستخدم كمسكّن، لا كعلاج. حرب ترامب التجارية في ولايته الثانية، وعودة التوترات التجارية العابرة للمحيطات، أظهرت هشاشة الترابط المالي العالمي. أما الغزو الروسي لأوكرانيا، فقد كشف أن أمن الطاقة والغذاء لا يقل خطورة عن أسعار الفائدة. ورغم تفكك الإجماع العالمي حول قواعد العولمة، إلا أن الاقتصاد العالمي لا يزال مترابطاً بشكل عميق؛ إذ إن هزة في إحدى القوى الكبرى تترك صداها في جميع الأسواق، بما فيها اقتصادات الجنوب العالمي. هذا المشهد المترابط والمتشظي في آن، يتطلب إعادة تفكير جذرية في دور البنوك المركزية. لم تعد مهمتها فقط ضبط التضخم، بل حماية الاستقرار المالي والاجتماعي وسط بيئة متقلبة. ولتحقيق ذلك، لا بد من دمج السياسة النقدية مع سياسات الإنفاق، والاستثمار في رأس المال البشري، والبنية التحتية، والشمول الاقتصادي.

كما أن صندوق النقد الدولي مطالب بمراجعة أدواته التقليدية. فالإقراض المشروط، الذي كان يُعدّ وسيلة لفرض الانضباط المالي، بات اليوم في نظر كثير من الدول عبئاً سياسياً واقتصادياً يُضاعف من هشاشة الاقتصادات المتعثرة بدلاً من أن يرمّمها. أما التشخيص القائم على الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر أساسي للصحة الاقتصادية، فقد ثبت أنه يتجاهل الفوارق الاجتماعية واللامساواة والإقصاء الاقتصادي، فضلاً عن تهميشه للقضايا البيئية. أما التوصيات التقشفية، فقد أظهرت التجارب أنها تؤدي في الغالب إلى انكماش اقتصادي وتآكل في الخدمات العامة، مما يزيد من التوتر الاجتماعي والسياسي، خصوصاً في المجتمعات التي تفتقر إلى شبكات أمان قوية.

فاستمرار الصندوق في استخدام أدوات قديمة لمعالجة أزمات جديدة، يُعرّضه تدريجياً لخطر فقدان شرعيته، لا سيما في عيون شعوب الجنوب العالمي التي بدأت ترى فيه أداة ضغط أكثر مما هو شريك إنقاذ. المطلوب اليوم هو تمويل ذكي مرن، لا يرتكز فقط على ضبط المؤشرات، بل يعترف بترابط الأزمات العالمية، ويأخذ بعين الاعتبار المخاطر البيئية كالتغير المناخي، والمخاطر الاجتماعية كالفقر والهجرة، والسياسية كالهشاشة المؤسسية. وهذا يقتضي من الصندوق إعادة التفكير في دوره، ليس كمراقب مالي فحسب، بل كشريك تنموي يعمل على تعزيز الاستقرار والاستثمار في الإنسان. إننا نعيش في عالم يتطلب أدوات جديدة، ومؤشرات جديدة، وتفكيراً نقدياً جديداً، لأن التحديات التي نواجهها باتت تتجاوز قدرة الاقتصاد الكلاسيكي على التفسير والمعالجة.

الحالة اللبنانية

ما الذي يعنيه هذا للبنان ودول المنطقة؟ لبنان، كحالة نموذجية، يُجسد التحدي الأكبر: أزمة داخلية حادة، يقابلها نظام دولي منهك وأقل استعداداً للتضامن. لكن لا يمكن للبنان أن يطالب العالم بثقة جديدة، وهو لا يزال يتردد في كشف الحقيقة الكاملة حول أزمته، ويُخفي واقعه المالي خلف تقارير مجتزأة، وسجلات محاسبية تعوزها الشفافية والمصداقية. لم تعد الإصلاحات وحدها كافية. بل بات مطلوباً من لبنان، ومن دول المنطقة، أن تقدّم نفسها كشركاء موثوقين، يدركون تعقيدات المرحلة، ويسعون لإعادة البناء على أسس جديدة. المنطقة ككل مطالبة اليوم بإعادة تعريف علاقتها بالنظام المالي العالمي، لا على أساس الاستجداء، بل من خلال تقديم أجندة إصلاحية شاملة تعزز الشمول، وتواجه الهشاشة، وتستثمر في رأس المال البشري. لم يعد ممكناً انتظار مبادرات من الخارج. بل يجب خلق رؤية إقليمية تواكب التحولات، وتطرح أسئلة كبرى حول العدالة الاقتصادية، وحياد النظام المالي، وسبل استعادة الثقة.

ما يحصل اليوم، ليس مجرد أزمة عابرة، بل إن العالم ينتقل من مرحلة إلى أخرى. والنظام العالمي لا ينهار، بل يُعاد تشكيله. في هذا الزمن الجديد، الثقة هي العملة الأغلى. ومن لا ينجح في بناء مصداقيته، سيُهمّش. ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أمام خيار: إما أن تكون جزءاً من هذا التشكيل الجديد، أو أن تكتفي بمراقبة قطار التغيير من بعيد. لقد انتهى زمن البراءة النقدية. وبدأ زمن الواقعية الاستراتيجية.

وفي هذا السياق، لا بد من توجيه رسالة إلى الطبقة السياسية اللبنانية. المطلوب ليس انقلاباً على الواقع، بل شجاعة في إعادة تعريف دور الدولة، واستعادة وظائفها الإنتاجية، وترسيخ الثقة في مؤسساتها. فـ “الجمهورية الجديدة” لن تُبنى على النوايا وحدها، بل على رؤية اقتصادية متكاملة تنطلق من فهم التحولات العالمية، وتُراعي واقع لبنان وإمكاناته، وتُخاطب العالم بلغة المصالح المشتركة. إن لبنان، بتاريخ نُخبه وطاقاته، قادر على أن يشكّل نموذجاً في الانتقال من التبعية إلى الشراكة، ومن الاستنزاف إلى الاستنهاض. وهذه مسؤولية وطنية قبل أن تكون سياسية. فلنمنح العالم أسباباً جديدة للثقة بنا، ولنمنح أنفسنا فرصة نادرة لصناعة مستقبل مختلف.

مصدرنداء الوطن - محمد فحيلي
المادة السابقةرسوم ترامب رفعت أسعار السيّارات 15 %
المقالة القادمةمعايير معالجة أوضاع المصارف: لا توزيع للمسؤوليات بل إبقاء «الأكبر»