أصبح من المؤكد أن لبنان لن يحصل على “سنتٍ” من الخارج قبل تنفيذ الاصلاحات. ولكن، الاصلاحات لن تنفذ طالما هذه الطبقة السياسية، التي “عَجنها” الخارج و”خبزها”، منذ التسعينات، في سدة السلطة. فالمجتمع الدولي تيقّن أن المساعدات تعزز نظام الزبائنية الطائفي، وتعيد توجيه المال العام من الميزانية إلى ناخبي الأحزاب. والنتيجة، إفراغ الدولة، وعجزها عن تقديم الخدمات للمواطنين، والمزيد من الهدر والفساد.
يخلص تقرير مديرة البرامج والباحثة المشاركة في مؤسسة “Konrad-Adenauer-Stiftung Beirut” فالنتينا فينكنشتاين، بأن سهولة توفر الأموال التي تدفقت على لبنان منذ التسعينات بحجة ان “المجتمع الدولي لن يترك وراءه معقل حرية التعبير والتنوع والديموقراطية في الشرق الأوسط، خلقت حافزاً سلبياً للحكومة لعدم إجراء إصلاحات حقيقية”. فساهمت المساعدات لـ”درّة الشرقين” بتأجيل الاصلاحات الضرورية. حيث كانت الخطوة الأولى للمسؤولين في كل مرة تتجه فيها البلاد نحو أزمة جديدة هي “طرق أبواب أصدقائهم الدوليين لطلب المال”.
كلّف أكثر من خطة مارشال… ولا إنماء
“تجفيف مصادر التمويل من الخارج لهذه الطبقة السياسية سيكون أحد أسباب فرط عقدها”، يقول الخبير الاقتصادي جان طويلة. “فتدفق الأموال من الخارج يضمن بقاء المنظومة قائمة، ويساعد في مضيها قدماً بتمويل فسادها وتقاسمها الدعم والتمويل للمحافظة على مشاريعها الخاصة، وزبائنيتها في التوظيف العام”. وبرأي طويلة فانه “لو جرى دعم وبناء مؤسسات الدولة بجزء من الأموال الهائلة التي وصلت إلى لبنان بعد الحرب، لما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم”. والمفارقة ان المساعدات التي تلقاها لبنان بين عامي 1993 و2012، وقدرت بحسب التقرير بـ 170 مليار دولار، فاقت ما كلفته حزمة إعادة الإعمار التاريخية التي تلقتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ضمن خطة “مارشال”. فمجمل الخطة كلف نحو 15 مليار دولار آنذاك، أي ما يقارب 142 ملياراً بأسعار العام 2012.
ما يثير الدهشة هو أن رقم 170 مليار دولار الذي وصل كمساعدات إلى لبنان “يتناقض بشكل صارخ مع البنية التحتية الهزيلة والاقتصاد المتدهور”، يضيف التقرير. “فتشتهر الدولة بعدم قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية، وعجزها عن توفير اكثر من 6 ساعات من الكهرباء يومياً. كما أن خدمة القطارات توقفت عن العمل منذ الحرب الأهلية. وبصرف النظر عن أسطول صغير من الحافلات الصغيرة، فلا توجد وسائل نقل عامة لـ 6.5 ملايين مواطن. وفيما يمتلك لبنان مياهاً أكثر من أي بلد آخر في الشرق الأوسط، فهو يعاني من نقص مستمر في المياه ومستويات عالية من التلوث. وبالرغم من حصول النسبة الأكبر من شبابه على التعليم العالي، يفشل لبنان في زيادة الإنتاجية المحلية. ولا يستفيد من منفذه البحري وموقعه الاستراتيجي”. ذلك لانه “كل ما فعلته الطبقة السياسية على مدار العقود الماضية هو الاستفادة الشخصية على حساب الدولة وتأجيل انفجار المشكلة”، يقول طويلة. ولكن المؤسف من وجهة نظره هو “الإستمرار في هذا النهج، والتشبث أكثر بالسياسات القديمة بعد انهيار البلد وإفقار الناس. وهذا ما لمسناه من خلال تأجيل رفع الدعم، ومحاولة اكتساب المزيد من الوقت بشعارات الترشيد والضبط، وبعدم إقرار قانون الكابيتال كونترول، وبتفشيل عملية التدقيق الجنائي في مصرف لبنان… وغيرها الكثير من المواضيع. فـ”حبل” تأجيل الأزمات يوضع دائماً على “جرار” وصول الاموال من الخارج، وإتاحة المزيد من جرعات “الأوكسيجين” لاستمرارهم بأخذ البلد رهينة مصالحهم”.
“OMSAR” و”CDR”… وثالثهما شبهات الفساد
هذه الفجوة الشاسعة بين تدفق المساعدات من جهة، وحالة البنية التحتية والتنمية الاقتصادية من جهة أخرى، تسببت بها مؤسسات الدولة. وبالرغم من “صعوبة قياس وتحديد الفساد في المساعدات نظراً لطبيعته السرية والتواطئية، تظهر غالبية المؤشرات، وجود فساد واسع النطاق”، يتابع التقرير. فـ”مكتب وزير الدولة للإصلاح الإداري في لبنان (OMSAR) ومجلس الإنماء والإعمار (CDR)، وهما هيئات حكومية رئيسية في إدارة المساعدات الدولية والأموال العامة، يثيران شكوكاً حول تنافسية مناقصتهما خلال العشر سنوات الماضية. حيث تَظهر نفس الأسماء على قوائمهما. فتُظهر سجلات مجلس الإنماء والإعمار، على سبيل المثال، انهم خصصوا الحصة الأكبر من المشاريع لنفس الشركات العشر في لبنان.
كما يعتبر اختلاس حوالى 30 مليون دولار بتمويل من الاتحاد الأوروبي لإعادة التدوير ومصانع السماد مثالاً جيداً، لإعطاء فكرة عن هذا النوع من فساد المساعدة. حيث أكد تحقيق استمر 18 شهراً أن مشروع إدارة إعادة التدوير، لم يتم تنفيذه بشكل سيئ فحسب، بل أدى أيضاً إلى آثار بيئية سلبية كبيرة.
وبحسب رئيس “الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية – لا فساد”، د.مصباح المجذوب فان “الفساد الأكبر والأخطر في لبنان هو الفساد السياسي، ذلك لانه يسبب من جهة الفساد الاقتصادي والوظيفي والاداري. ويتلطى من الجهة الثانية خلف الطائفية. الأمر الذي يصعب علينا خرقه، وإحداث تغيير جدي”. وبرأي المجذوب إنه “عندما نستطيع فصل الحماية الطائفية عن الفاسدين، لأي طائفة انتموا، نقول عندها إننا بدأنا على الطريق الصحيح في محاربة الفساد. لكن مدافعة النواب عن انفسهم واعتبارهم أنهم على صواب بعد الذي اقترفوه من مخالفة للقوانين بتلقي اللقاح من دون وجه حق، يبرهن ان العقلية اللاإصلاحية ما زالت هي المتحكمة، ولا أمل مرتجى بالتغيير من قبلهم”.
ولعل تقرير مدركات الفساد الذي وضع لبنان هذا العام في المرتبة 25/100 هو خير دليل على تجذر الفساد وانتشاره على أوسع المستويات.
لا مساعدات للدولة
هذا الواقع لن يستمر. فالمجتمع الدولي هذه المرة، حازم في ما خص عدم تقديم “الهدايا” المجانية للسلطة الحاكمة. وبحسب التقرير فان “الاصلاحات التي نفذت بعد آخر حزمة كبيرة من المنح والقروض الميسرة التي تم توفيرها في باريس 3، لم تكن مشجعة، حيث إنها لم تتجاوز 22 في المئة من جميع الاصلاحات الموعودة”. وعلى هذا الأساس علقت مساعدات “سادر” التي تتخطى 11 مليار دولار، وستعلق أي مساعدة مباشرة للدولة اللبنانية.
ينتظر أن يكون التوجه المستقبلي للمجتمع الدولي هو بتقديم المساعدات الإنسانية المباشرة والامتناع عن مشاريع التنمية المعقدة. وذلك عبر إيجاد طرق لتجاوز النخب السياسية، من خلال العمل مع المنظمات غير الحكومية. وعليه يجب، بحسب التقرير، أن “تكون الأولوية هي لتحسين التنسيق وتبادل المعرفة بين المانحين أنفسهم، وزيادة المشاورات مع المجتمع المدني. إذ يُعد هذا المجتمع الشاب والمتعلم والناشط سياسياً، بحسب التقرير، “من أعظم موارد لبنان”.