لبنان.. ما الدافع وراء الإجراءات القضائية الأخيرة ضد البنوك؟

لأكثر من 3 سنوات، لم تكن البنوك اللبنانية خاضعة للرقابة القضائية، فعاثت فسادًا وسط الأزمة المالية – التي اتُهمت بالتسبب في تفاقمها – ما دمر حياة غالبية اللبنانيين، وبينما لا تلوح في الأفق أي بوادر لتراجع الأزمة الاقتصادية، تعامل القضاء اللبناني – الذي خضع طويلًا للضغط السياسي – في الأسابيع الأخيرة مع النظام المصرفي.

في الشهر الماضي جمدت النائب العام لمحافظة جبل لبنان القاضية غادة عون أصول 6 بنوك هم: بنك بيروت وبنك عودة وSGBL وBlom Bank وBankmed وCreditbank، بينما تحقق في معاملاتهم مع البنك المركزي.

كما أصدرت حظرًا للسفر ضد المديريين التنفيذيين لخمسة من البنوك، واتهمت محافظ البنك المركزي رياض سلامة بالكسب غير المشروع وهي أول تهمة تُوجه له في لبنان.

أنكر سلامة تلك الاتهامات، لكنه يواجه أيضًا تحقيقات في 5 دول أوروبية على الأقل بشأن غسيل الأموال واختلاس مئات ملايين الدولارات من البنك المركزي، كما أن رجا شقيق سلامة يخضع لتلك التحقيقات.

خضع تاريخ سلامة كمحافظ للبنك المركزي للتحقيق منذ انهيار النظام المالي في 2019 بعد عقود من الفساد وسوء الإدارة، تسببت الأزمة في فقدان العملة اللبنانية نحو 90% من قيمتها ومنعت البنوك سحب المودعين لأموالهم بالعملة الصعبة، بينما أصبح ما يقارب 80% من السكان يعيشون في فقر.

لم يقر البرلمان اللبناني بعد قانون ضبط رأس المال الذي يعد ضروريًا للبنان من أجل تأمين حزمة مساعدات صندوق النقد الدولي، ما يسمح للبنوك بإقرار ضوابط غير رسمية تعامل المودعين بشكل غير متساو.

وفقًا لرويترز، قدرت مسودة خطة الإنقاذ المالي الحكومية في بداية هذا العام وجود فجوة في القطاع المالي قدرها 70 مليار دولار، وحتى اليوم لم يخضع أي شخص للمساءلة بشأن الانهيار الاقتصادي.

قال بول مرقص – محامٍ ومؤسس شركة “Justicia Beirut Consult” – إن هناك عددًا هائلًا من الدعاوى القضائية ضد البنوك، لكن تأخر الإجراءات القانونية يرجع إلى عقبات تقنية من بينها جائحة كوفيد-19 وسلسلة من الإضرابات قامت بها نقابات المحامين والقضاة.

يضيف مرقص “تستغرق العملية القضائية بعض الوقت، كما أن القضاة يعانون لإصدار إخطارات ضد البنوك، يتردد بعض القضاة أيضًا في اتخاذ إجراءات جادة ضد البنوك لتجنب تداعياتها الاقتصادية لفترة معينة”.

القضاة يخضعون للضغط
أثارت التحقيقات المتزايدة في الأسابيع الأخيرة بعض التكهنات بشأن توقيت الدافع القضائي، وربطها بعض الخبراء بالتحقيقات الأوروبية، بينما يرى آخرون أن دوافعها سياسية.

يقول نزار صاغية، محامٍ لبناني ومؤسس مشارك لشركة “المفكرة القانونية” إن هناك ضغوطًا على النظام المصرفي اللبناني في أوروبا ولبنان، وأضاف “يخضع القضاة لضغوط بسبب التحقيقات الأوروبية، لم تتمكن المحاكم اللبنانية من العمل بشكل كامل لمدة عامين، لكن الموقف تحسن الآن”.

بسبب تلك الضغوط القضائية، عمدت البنوك المستهدفة إلى الانتقام من المودعين، ففي الشهر الماضي أغلق “Fransabank” كل فروعه بعد أن جمدت القاضية ماريانا عناني أصوله في أعقاب دعوى قضائية رفعها مودع مصري لإجبار البنك على إعادة فتح حسابه وإرجاع إيداعه نقدًا.

في الوقت نفسه أضربت البنوك الست التي خضعت لتجميد الأصول لمدة يومين (21 و22 مارس/آذار) بعد أن أعلنت رابطة البنوك اللبنانية “ABL” أن البنوك قد تُغلق بسبب تزايد الضغوط القانونية على القطاع المصرفي.

بعد ذلك تراجع المدعي العام اللبناني غسان عويدات عن قرارات عون لمنع البنوك من نقل الأموال خارج البلاد.

قالت محامية “اتحاد المودعين” زينة جابر إنها تعتقد بوجود رابط بين الإجراءات القضائية ضد البنوك والتحقيقات الدولية ضد محافظ البنك المركزي وشقيقه، وأضافت “بدأ المدعون العامون اللبنانيون في التحقيق بالقضايا التي تخضع الآن لتحقيق المحاكم الأوروبية، ورغم أن كل قضية تتبع مسارها بشكل مستقل، هناك رابط بين تلك الأحداث، لكننا لا نستطيع الوصول إلى تلك الملفات لنعلم المزيد، فلم يُكشف عن التحقيقات بعد”.

يقول بعض الخبراء إن الضغط القضائي على البنوك شرعي لأن البنوك قيدت وصول المودعين لحساباتهم البنكية بشكل غير شرعي، لكن بالنسبة للآخرين، فتلك القرارات التي اتخذها القضاة لملاحقة البنوك ذات دوافع سياسية.

أداة سياسية
قال رامي ريس – محلل سياسي ومستشار الزعيم الدرزي وليد جنبلاط -: “هناك دوافع سياسية لتلك الإجراءات القضائية”، مضيفًا “إننا نفتقر لاستقلال السلطة القضائية، لقد رأينا خطوات عديدة يتخذها القضاة ذات دوافع سياسية أكثر منها قضائية، حيث إنهم يخضعون للنفوذ السياسي”.

أضاف ريس أنه بينما يتحمل سلامة جزءًا من مسؤولية الانهيار الاقتصادي، فإنه ليس الوحيد الذي يجب أن يخضع للمحاكمة، كما سلط ريس الضوء على إجراءات مبادرة عون التي اتهمها النقاد بأنها مقربة من الرئيس ميشال عون الذي عينها.

يرغب التيار الوطني الحر بقيادة الرئيس في إقالة محافظ البنك المركزي من منصبه، لكن عون أكدت أنها تنفذ القانون فقط، ومع ذلك ردّ المحامي النقابي جابر بأنه بينما يعتقد الرأي العام أن العديد من القضاة لهم دوافع سياسية، فهناك العديد من القضاة المستقلين الذين يكافحون من أجل نظام قضائي مستقل.

في الوقت نفسه قال صاغية: “رغم خضوع المدعين العامين في لبنان بشكل أو بآخر للقوى السياسية، فهذا لا يعني أن إجراءاتهم القانونية غير قانونية، لأنها تستند إلى أدلة صحيحة”.

ازدادت الإجراءات القانونية ضد البنوك قبل شهرين فقط من الانتخابات العامة المقرر انعقادها في مايو/أيار 2022، ما دفع البعض للاعتقاد بأن لها تداعيات سياسية.

قال أمين صندوق رابطة الشفافية اللبنانية جمال بليك إن الأحزاب السياسية قد تستغل الضغوط على النظام المصرفي كطريقة لإظهار تعاطفها مع الناخبين، مضيفًا “مع اقتراب الانتخابات، يرغب السياسيون في أن يكونوا أبطالًا وأن يُظهروا لناخبيهم اهتمامهم بالمودعين، لكن المثير للسخرية أنهم نفس الأشخاص الذين سمحوا للبنوك بإغلاق حسابات المودعين لنحو 3 سنوات”.

ومع ذلك يعتقد بليك أن التحقيق لن يؤثر على الانتخابات، فيقول: “يعلم جميع الناس أن المؤسسة السياسية بأكملها والنظام المصرفي بأكمله جزءًا من الانهيار الاقتصادي للبلاد”.

تدخل الحكومة
لكن بينما يستهدف القضاة البنوك، تحاول الحكومة موازنة تلك الإجراءات القانونية بممارسة الضغط السياسي على القضاء، ويعتقد صاغية أن رئيس الوزراء نجيب ميقاتي يحاول التدخل لصالح سلامة.

في يناير/كانون الثاني أفادت عدة منافذ إخبارية محلية أن ميقاتي اتصل بعويدات وهدد بالاستقالة إذا واصل القاضي جان طنوس الضغط على البنوك من أجل معلومات متعلقة بالتحقيق في اختلاس سلامة ومخالفات أخرى في البنك المركزي، وبينما أنكر ميقاتي تدخله في عمل القضاء، دعا سلامة يوم 24 مارس/آذار لحضور اجتماع مجلس الوزراء كطريقة لإظهار الدعم.

يقول صاغية: “تحاول الحكومة الإبقاء على الوضع الراهن، وفي هذا السياق، سيفقد المودعون جزءًا كبيرًا من أموالهم، إن الافتقار إلى قانون ضبط رأس المال يعني تعويض تلك الخسائر بأموال المودعين فقط، وتتوقع الحكومة أن يتبع القضاء الوضع الراهن”.

“من خلال قانون ضبط رأس المال، ترغب الحكومة في السماح للبنوك بمواصلة ممارساتها دون مواجهة أي إجراءات قضائية”، ووفقًا لصاغية فإن ميقاتي يرغب في تمرير قانون ضبط رأس المال لإيقاف جميع الإجراءات القانونية ضد البنوك التجارية.

في يوم 23 مارس/آذار وافق مجلس وزراء ميقاتي على اقتراح وزير العدل بتشكيل لجنة تضم قضاة ومصرفيين لمناقشة الوضع القضائي المصرفي.

يقول صاغية: “أرى أن هناك خرقًا لقواعد فصل القوى في تلك المبادرة، يجب أن يكون الحل وضع خطة حكومية لإصلاح القطاعات المصرفية والاقتصادية”.

ورغم أن بليك يرى أن القضاة يطبقون القانون باتخاذهم إجراءات قانونية ضد سلامة والبنوك، فإنه يقول إن اتخاذ تلك الإجراءت ضد جميع البنوك اللبنانية يعرض البلاد للخطر.

ويضيف “قررت الحكومة عمدًا عدم تمرير قانون ضبط رأس المال، لترسل رسالة مفادها أنه إذا قررت البنوك تحويل الأموال إلى الخارج من خلال الحسابات القائمة، فإنها لا تخرق القانون”.

في الوقت نفسه، قالت جابر إن البنوك لن تتوقف عن مقاومة الإجراءات القانونية، وأضافت “لقد أخبرنا المحاكم بأن تلك الإضرابات تعيق حقوق المودعين لسحب أموالهم من أجل الاستخدام اليومي”.

“بصفتنا اتحادًا للمودعين، فإننا نطالب بتلك الإجراءات القانونية منذ بداية الأزمة الاقتصادية، وهكذا فإننا نقف في صف أي تحقيقات تفيد المودعين”.

 

 

مصدرالمصدر: ميدل إيست آي - نون بوست: داريو صباغي - ترجمة: حفصة جودة
المادة السابقةثغرة «الكابيتال كونترول» تسمح بإقامة دعاوى ضد المصارف في نيويورك
المقالة القادمةلجنة المال تستكمل درس قانون موازنة ٢٠٢٢