لبنان نحو الفقر المستدام

هناك كلام رائج في لبنان عن مبالغة في مؤشرات الفقر بالمعدلات الصادرة عن المنظمات الدولية مثل «إسكوا» التي تحدثت عن نسبة 82%. يستند مروّجو هذا الكلام إلى مشاهداتهم المباشرة في زحمة الطرقات والمطاعم وأماكن السهر والسوبرماركت وسواها من المشاهد التي لا يستنتج منها إلا نشاط في الحركة الاستهلاكية للأسر، مقابل غياب لمشاهد معبّرة عن الفقر. يردّد هؤلاء بأن فقراً بمعدل مرتفع كهذا لا بدّ أن يكون ظاهراً للعيان.

«صوت الفقراء لا يخرج إلا في المناسبات» وفق تعبير الأستاذ الجامعي أديب نعمة. هذا الأمر لا يتعلق بسلوك الإعلام الذي يتغافل عن فئات محدّدة في المجتمع فحسب، بل أيضاً مرتبط بحقيقة أن القدرات الشرائية لدى القلّة ما زالت مرتفعة، وهي الظاهرة حالياً للعيان فقط. ففي الغالب يُنظَر إلى المدينة لقياس الفقر. المدينة في هذه الحالة هي بيروت وبعض مناطق جبل لبنان. لكن هذه النظرة الجزئية لا تعكس ما يحصل فعلياً لأنها تغفل الأوضاع في المناطق الأخرى.

في مقابل ذلك، تظهر المدينة بحلّة «أفضل» نسبياً. ففي بيروت وبعض مناطق جبل لبنان «تعيش الفئات الميسورة أو تلك التي أصبحت ميسورة بفعل الأزمة» يقول أحد الخبراء الاقتصاديين. نسبة هؤلاء تصل إلى 10% من عدد السكان، أي أكثر من 60 ألف شخص ما زالوا يتنعمّون بقدرة شرائية مرتفعة، فضلاً عما تبقى من طبقة وسطى عليا، ممن لديهم مداخيل بالعملة الأجنبية، أو لديهم عقود جماعية تضمن لهم مداخيل مقبولة… هؤلاء هم الذين نراهم في أماكن السهر ويجرّون عربات السوبرماركت المحمّلة بالسلع، ويرتادون المطاعم وأماكن السياحة…
وبحسب إحصاءات «إسكوا»، فإن أغنى 10% في لبنان يملكون 90 مليار دولار، بمعدل ثروة لكل واحد يبلغ 360 ألف دولار. كما أنه بحسب تقرير world inequality database فإن أفقر 50% من السكان في لبنان يملكون 0.1% من الثروة وأغنى 1% يملكون 48.2% من الثروة. هذا يعني أن الهوّة بين الفقراء والأثرياء كانت قبل الأزمة كبيرة جداً في لبنان، لكنها اتسعت وأصبحت نافرة أكثر وظاهرة للعيان. والمشاهد المتناقضة مع الأزمة دلالة على حجم هذه الهوّة ومدى اتساعها انسجاماً مع سلوك الطبقات الاجتماعية.

أما الحركة الاستهلاكية الناشطة، فلا تعبّر عن مستوى الفقر حالياً لأسباب موضوعية أبرزها تحويلات المغتربين. كانت هذه التحويلات تأتي إلى الطبقات الوسطى بشكل أساسي، لكنها اليوم باتت تتركّز في الطبقات الفقيرة وبمبالغ مالية متدنية لا تتجاوز 100 دولار شهرياً. مبلغ كهذا يعني الكثير لعائلة محتاجة. كذلك، لا يغفل نعمة أن عشرات ملايين الدولارات التي أتت إلى لبنان على شكل مساعدات للأسر، وخصوصاً بعد انفجار 4 آب، وهناك مبالغ كبيرة تقدر بأكثر من مليار دولار سنوياً تأتي على شكل مساعدات للأسر السورية النازحة. بهذا المعنى، لا يمكن تقدير الفقر تبعاً للقواعد المتعارف عليها المتعلقة بالدخل. «فالتدهور شديد، وكل ما يحصل الآن يأخذنا نحو تدهور أشدّ. هناك تحوّل اجتماعي وتفاوت شديد في الدخل سيتحول إلى ظاهرة دائمة وثابتة في لبنان بين قلّة محدودة مستفيدة، وغالبية ساحقة وضعها سيئ وستبقى بحاجة للمساعدة».

أقلّ ما يقال عن تعاطي الدولة مع هذا الأمر أنه كارثي. فالأكثر فقراً ونسبتهم كما هي لدى الجهات المعنية والذين سيتقاضون مساعدات مباشرة، تبلغ 20% بينما هناك 80% بحاجة للمساعدة، أي أن نسبة الـ60% ليست على جدول أعمال السلطة. هذا النوع من المساعدات قد يتحوّل إلى مشكلة في ظل ارتفاع الأسعار الحالي. فالأسعار تواصل الارتفاع لتصبح موازية لسعر الدولار في السوق الحرّة وشرائح العمل في لبنان تسمح لنفسها بزيادة أسعار الخدمات المحلية ليس انسجاماً مع كلفة الإنتاج، إنما قياساً مع تعزيز قدراتها على الاستمرار للحفاظ على مستوى معيشة معين.

مصدرجريدة الأخبار - محمد وهبة
المادة السابقةكنعان: لجنة المال أقرت اقتراح قانون يفتح السرية المصرفية للتدقيق الجنائي بمصرف لبنان لحين الانتهاء من التدقيق
المقالة القادمةpcr المطار: خفض الكلفة يورّط الوافدين