انهمكت الأوساط الاقتصاديّة طوال الأسبوع الراهن بمناقشة احتمالات عودة بعثة صندوق النقد الدولي إلى لبنان، بمجرّد تشكيل الحكومة الجديدة. والهدف بطبيعة الحال، هو إحياء البرنامج التمويلي الموعود للبنان، وفقًا لمندرجات الاتفاق السابق على مستوى الموظفين الموقع بين الطرفين عام 2022، والذي لم يتحوّل إلى اتفاق نهائي بسبب عدم تنفيذ السلطات اللبنانيّة لشروطه. غير أنّ الجديد اليوم، كان تسريب أخبار عن احتمال زيادة التمويل الذي يُحتمل تقديمه من قبل الصندوق إلى 8 مليارات دولار أميركي، مقارنة بالمليارات الثلاثة التي نصّ الاتفاق عليها سابقًا. وترافقت هذه الأنباء مع حديث عن شروط إصلاحيّة أقسى، سيتم فرضها ضمن الاتفاق الجديد.
هذه الأجواء المتفائلة، جاءت في سياق الربط ما بين التحوّلات السياسيّة الأخيرة وموقف الصندوق إزاء لبنان. فإعادة تكوين السلطة التنفيذيّة، أنهت فترة الفراغ الدستوري الذي أعاق تنفيذ الإصلاحات المتّفق عليها. والمشهد السياسي الجديد بات أكتر اقترابًا من الانسجام مع تطلّعات المجتمع الدولي ومعظم الدول العربيّة المؤثّرة في الشأن اللبناني. لكن رغم أهميّة هذه التحوّلات، من المهم جدًا الحذر من هذا الإفراط في التفاؤل، من خلال الافتراض أن التحوّلات السياسيّة وحدها كفيلة بإطلاق عجلة مسار التصحيح المالي، أو بتمرير الاتفاق التمويلي مع صندوق النقد. أمّا الجانب المتعلّق بحجم التمويل نفسه، فيبدو تفصيلًا مقارنة بأهميّة الاتفاق النهائي نفسه، بوصفه شهادة يحتاجها لبنان قبل مخاطبة الدائنين وسائر الشركاء الدوليين.
احتمالات زيادة قيمة التمويل
لتقدير حجم التمويل المحتمل، من المهم العودة إلى أصناف البرامج التمويليّة التي يقدّمها صندوق النقد في العادة، للدول التي تمر بأزمات كحالة لبنان. التمويل الذي عرضه صندوق النقد على لبنان، في الاتفاق على مستوى الموظفين عام 2022، يندرج ضمن برنامج الـ Extended Fund Arrangement (EFF)، أي تسهيلات الصندوق المُمدّد. يسمح هذا البرنامج للبنان بالحصول على تمويل تصل قيمته إلى قرابة الـ 435% من حجم حصّة لبنان في صندوق النقد، وهو ما يوازي اليوم حدود الـ 3.6 مليار دولار أميركي. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم قيمة التمويل الذي اقترحه الاتفاق على مستوى الموظفين بين لبنان والصندوق، والبالغة قرابة الـ 3 مليارات دولار.
الاتفاق على مستوى الموظفين، وعرض التمويل المطروح من قبل صندوق النقد، لا يزالان على الطاولة. ما منع توقيف الاتفاق النهائي، وحصول لبنان على التمويل، كان سببه ببساطة عدم تنفيذ الشروط المتفق عليها. والوصول إلى الاتفاق النهائي الآن، لن يحتاج إلى أكثر من تحديث أرقام خطّة التعافي المالي، والاتفاق مع بعثة الصندوق على كيفيّة المضي قدمًا بتنفيذ الشروط السابقة، ومن ثم تنفيذها. والجزء الأهم من الشروط غير المنفّذة، يرتبط تحديدًا بعمليّة إعادة هيكلة المصارف، والتي يفترض تنفيذها في ضوء قانون طارئ لاستعادة الانتظام المالي. كما ثمّة إشكاليّة مرتبطة بتأخّر لبنان في بدء التفاوض مع الدائنين، من حملة سندات “اليوروبوندز”.
زيادة حجم التمويل بنسبة وازنة، سيحتاج إلى تغيير نوعيّة البرنامج التمويلي نفسه. ويمكن الانتقال عندها إلى برنامج الاستعداد الإئتماني، الذي بات يسمح للدول المأزومة بالحصول على تمويل يوازي الـ 600% من حصّتها في الصندوق. وفي حالة لبنان، يمكن أن توازي قيمة التمويل هنا حدود الـخمسة مليارات دولار، إذا ما أخذنا بالاعتبار قيمة حصّة لبنان في صندوق النقد الدولي. غير أنّ مشكلة هذا البرنامج، مقارنة ببرنامج الصندوق المُمدّد المقترح حاليًا، تكمن في فترة السداد القصيرة نسبيًا، وهو ما قد يعرّض لبنان إلى ضغوط في عمليّة تسديد القرض في المستقبل.
أخيرًا، يفتح الصندوق في العادة زيادة قيمة التمويل، فوق هذه السقوف المُحدّدة أصلًا، وفق قاعدة دراسة “كل حالة على حدة”. غير أنّ الموافقة على هذه الزيادة تفترض شروطاً خاصّة، مثل وجود احتمالات عالية لنجاح البرنامج، ما يعني انخفاضًا استثنائيًا لاحتمالات تعثّر البلد المقترض في المستقبل. وعلى هذا الأساس، من المفترض ترجمة “احتمالات النجاح العالية” بشروط تصحيحيّة قاسية، وهو ما يفرض إجراءات جذريّة مقارنة بتلك التي نصّ عليها الاتفاق السابق على مستوى الموظفين. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم التقديرات التي وضعت رقم 8 مليارات دولارات كهدف يمكن الوصول إليه، في إطار البرنامج التمويلي المرتقب مع صندوق النقد الدولي.
محاذير قبل التفاؤل
ثمّة ما ينبغي الحذر منه، قبل المبالغة في هذه الأهداف، إزاء حجم التمويل أو سرعة الوصول إلى الاتفاق النهائي. فما عرقل الوصول إلى الاتفاق النهائي مع الصندوق، منذ بداية الأزمة، ارتبط بمصالح مصرفيّة وماليّة عميقة، ومتجذّرة داخل النظام السياسي اللبناني. وبعبارة أوضح، تقاطعت طوال السنوات الماضية الغالبيّة الساحقة من الكتل النيابيّة، السياديّة والممانعة على حدٍ سواء، على عرقلة الإصلاحات الماليّة التي طالب بها الصندوق، وخصوصًا تلك التي تطال مصالح أصحاب المصارف. وبهذا الشكل، قد يكون من المبكر الافتراض أن لبنان سيتمكّن من تجاوز هذه العراقيل، بمجرّد حصول تغيير سياسي على مستوى رئاستي الجمهوريّة والحكومة، وخصوصًا أنّ صورة المشهد الحكومة المقبل لم تتضح بعد.
في الوقت نفسه، من المبكر الجزم أن لبنان يملك مصلحة جديّة في زيادة قيمة التمويل بالشكل الذي يتم الحديث عنه، خصوصًا إذا توازى ذلك مع شروط “أقسى” بكثير من جانب الصندوق. فما يهم لبنان من برنامج صندوق النقد الدولي، ليس حجم التمويل بحد ذاته، والذي يُعتبر زهيدًا قياسًا بالفرص الاستثماريّة المُتاحة، أو بحجم الخسائر التي يُفترض أن تتم معالجتها (حتّى إذا تمّ رفع قيمة التمويل). بل المهم هو حجم التمويل الذي يمكن استقدامه من شركاء آخرين، عبر استثمارات أو مساعدات أو شركات متعددة الأطراف، بعد الحصول على شهادة الثقة من صندوق النقد. وبذلك، قد يكون من المستغرب أن يُصعّب لبنان على نفسه شروط الاتفاق مع صندوق النقد، لزيادة القرض الممنوح من الصندوق، في حين أن المكسب الأساسي من البرنامج هو الاتفاق نفسه لا القرض.
أخيرًا، سيبقى التحدّي الأهم قدرة الحكومة على إيجاد توافق سياسي جامع على مقاربات خطّة التعافي الماليّة، بعد تحديثها وتعديلها، وعلى الأرقام التي تستند إليها. وهذا ما يبدو حتّى اللحظة مسألة صعبة (لكن ليست مستحيلة طبعاً)، بل وتستلزم قيادةً سياسيّة صلبة من جانب رئاستي الجمهوريّة والحكومة. أمّا البديل عن مقاربات الحل الشامل، فهو الاستمرار بمسار السقوط الحر، الذي شهده لبنان منذ العام 2020. هذا ما فرضته المصالح الماليّة المتجذّرة داخل النظام السياسي، وهذا ما ستحاول فرضه مجددًا بالتأكيد.