بخلاف ما يعتقد كثيرون، بات التفاهم على مستوى الموظفين بين لبنان وصندوق النقد يرتبط بسقف زمني، لا يتخطّى حدود شهر أيلول المقبل. وعلى أساس هذا السقف الزمني، من المفترض أن ينجز لبنان الشروط المنصوص عنها في هذا التفاهم المبدئي، ليتمكّن من دخول برنامج القرض مع الصندوق، وتوقيع الاتفاق النهائي. بمعنى آخر، أمام لبنان مهلة لا تتجاوز الشهر، ابتداءً من اليوم، لإنجاز ثماني خطوات مطلوبة في إطار التفاهم المبدئي، التي يعتقد لبنان أنّه أنجز أحدها، أي قانون تعديل سريّة المصرفيّة. الأوساط المتابعة للمحادثات المستمرّة بين لبنان وصندوق النقد، تشير إلى تشاؤم بعثة الصندوق من تطوّرات الأسابيع الماضية، سواء في ما يتعلّق بصيغة تعديلات السريّة المصرفيّة التي تم إقرارها في مجلس النوّاب، أو بما يرتبط بكيفيّة مقاربة سائر الشروط الواردة في التفاهم المبدئي، ووتيرة التقدّم في تنفيذ هذه الشروط.
ببساطة شديدة، بات لبنان أمام خطر تطيير هذا التفاهم بأسره خلال الأسابيع المقبلة، لأسباب يرتبط معظمها بمصالح الكتلة النافذة سياسيًّا وماليًا في البلاد، وهذا تحديدًا ما رصده صندوق النقد في مسار العمل على تعديلات السريّة المصرفيّة، وسائر شروط التفاهم المبدئي.
مخاطر حرق المهل على التفاهم المبدئي
بعثة صندوق النقد راهنت على إمكانيّة إنجاز شروط التفاهم على مستوى الموظّفين بحلول شهر تمّوز الماضي، لعرض طلب القرض والاتفاق النهائي في اجتماعات المدراء التنفيذيين للصندوق التي تجري في هذا الشهر. لكنّ تباطؤ لبنان في تنفيذ الشروط، أدّى إلى انقضاء اجتماعات المدراء التنفيذيين خلال شهر تمّوز من دون إنجاز أي شرط من الشروط الثمانية، باستثناء تعديلات قانون سريّة المصارف، واستراتيجيّة الحكومة للنهوض بالقطاع المالي التي عاد رئيس الحكومة ليعلن اتجاهه لتعديلها. ولهذا السبب، لم تعرض بعثة صندوق النقد طلب الاتفاق النهائي على برنامج القرض على مدراء الصندوق التنفيذيين، بانتظار تنفيذ لبنان شروط التفاهم على مستوى الموظّفين، أو ما بات يُعرف محليًّا بالتفاهم المبدئي مع صندوق النقد.
مع انقضاء شهر تمّوز، بات على بعثة الصندوق انتظار اجتماعات المدراء التنفيذيين المقبلة خلال شهر أيلول، لعرض طلب الاتفاق النهائي مع لبنان أمامهم، بشرط أن يكون لبنان قد أنجز شروط الاتفاق المبدئي. مع الإشارة إلى أنّ عرض طلب الاتفاق النهائي خلال شهر أيلول سيستلزم تعديل العديد من مندرجات خطّة التعافي المالي، لتحديث أرقامها ومعطياتها. أمّا في حال بلوغ شهر أيلول من دون تنفيذ شروط التفاهم على مستوى الموظّفين، فسيكون لبنان قد بدد فرصة هذا التفاهم المبدئي، وسيكون على الوفد اللبناني المفاوض أن يعيد المحادثات لتجديد هذا التفاهم مرّة أخرى. وفي هذه الحالة، ستأخذ بعثة الصندوق بالاعتبار عدم جديّة النظام السياسي في تنفيذ الإصلاحات المنصوص عنها في التفاهم المبدئي السابق، والأسباب التي أدّت لتطيير ذلك التفاهم.
عدم الجديّة في تنفيذ الشروط الثمانية
لا يوجد حتّى اللحظة ما يوحي بوجود الحد الأدنى من الجديّة لدى الجانب اللبناني، لتنفيذ شروط التفاهم المبدئي الثمانية، قبل شهر أيلول المقبل. تقدّم لبنان في تنفيذ الشروط الثمانية المطلوبة من الصندوق، يمكن تلخيصه على الشكل التالي:
1- الشرط الأساسي الذي يعتبر لبنان أنّه أنجزه، كان تعديلات السريّة المصرفيّة التي مررها مجلس النوّاب، والتي امتعضت بعثة الصندوق بشدّة من الألاعيب التي جرت لتفريغها من أهدافها الأساسيّة. وحتّى اللحظة، لا يوجد ما يؤكّد أنّ بعثة الصندوق ستعتبر أن هذه التعديلات كافية، أو متناسبة مع ما طلبته في إطار المحادثات التي سبقت صياغة التفاهم المبدئي. وبذلك، من المحتمل أن يعتبر الصندوق أن لبنان لم ينفّذ هذا الشرط، ما سيفرض إعادة العمل على مشروع قانون جديد لتعديلات السريّة المصرفيّة بصيغة مختلفة. أما المخرج هنا، فيمكن أن يتم من خلال رئيس الجمهوريّة، الذي يملك صلاحيّة رفض توقيع التعديلات الحاليّة وإعادتها إلى مجلس النوّاب.
2- استراتيجيّة النهوض بالقطاع المالي، التي صادقت عليها الحكومة قبل الانتخابات النيابيّة، والتي تمثّل أحد شروط التفاهم المبدئي مع الصندوق، عادت إلى نقطة الصفر بعد أن أعلن رئيس الحكومة اتجاهه إلى تعديلها وصياغتها من جديد. مع الإشارة إلى أنّ التعديلات التي تحدّث عنها ميقاتي تتعارض بشكل كبير مع رؤية صندوق النقد لعمليّة توزيع الخسائر، وتحديدًا من جهة تخصيص المال العام للتعامل مع الخسائر.
3- موازنة 2022، مازالت أسيرة الأخذ والرد بين مجلس النوّاب ووزارة الماليّة، على خلفيّة سعر الصرف المعتمد فيها. لكنّ بعثة صندوق النقد لحظت هنا تذاكي المجلس النيابي، وعمله على تمرير اعتمادات إضافيّة لنفقات غير محددة بوضوح وشفافيّة، ومن خارج هذه الموازنة.
4- القانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، لم يبصر النور بعد كمرسوم مشروع قانون يمكن إرساله من الحكومة إلى المجلس النيابي. مع الإشارة إلى أنّ هذا الشرط بالتحديد يُفترض أن يكون الأصعب والأكثر حساسيّة، بالنظر إلى ارتباطه بمصالح المساهمين الكبار داخل القطاع المصرفي. وحتّى اللحظة، لا يوجد ما يوحي بقرب إنجاز المسودّة الأولى منه، خصوصًا في ظل وجود حكومة تصريف أعمال. أما الأكيد، فهو أن مهلة الشهر التي يملكها لبنان لتنفيذ شروط التفاهم المبدئي (أي قبل أيلول المقبل)، لن تكون كافية لتمرير القانون في دهاليز المجلس النيابي.
5- تدقيق ميزانيّات أكبر 14 مصرفاً، وإعادة تقييم موجودات هذه الميزانيّات، لم يتم بعد، ولا يوجد حتّى اللحظة أي معلومة بخصوص مدى تقدّم الحكومة في إنجاز هذا الشرط.
6- توحيد أسعار الصرف خارج البحث. أما مسودّة مشروع قانون الكابيتال كونترول، التي يفترض أن تتجه لتحقيق هذا الشرط، فتتم مقاربتها بشكل سطحي وبدائي، بعيدًا عن هدف توحيد أسعار الصرف، وبصيغة تحصر مفاعيل الكابيتال الكونترول بتشريع عمليّة حبس الودائع في القطاع المصرفي. وهنا، سيمثّل الكابيتال كونترول دافعاً لتكريس الوضع المتأزّم، بدل العمل باتجاه معالجته، من خلال إعطاء المصارف الغطاء التشريعي والأبدي للامتناع عن سداد الودائع، من دون وجود أي عامل ضاغط باتجاه معالجة الخسائر واستعادة الانتظام في القطاع المصرفي.
7- بالنسبة إلى التدقيق المحاسبي في ميزانيّات مصرف لبنان، من قبل شركة KPMG، وهو غير التدقيق الجنائي، تشير أوساط المصرف المركزي إلى أن عمليّة التدقيق تم إنجازها، لكن تقرير الشركة لم يبصر النور بعد، ولا يوجد ما يدل على صدقيّة ادعاءات أوساط مصرف لبنان.
8- لم تنجز الحكومة استراتيجيّتها لإعادة هيكلة الدين العام، وهي عمليّة يُفترض أن تجري بالتوازي مع التفاوض مع الدائنين وحملة سندات اليوروبوند. ومن المستبعد أن تتمكّن الحكومة من إنجاز هذا الشرط قبل شهر أيلول.
خطورة التلاعب بتعديلات سريّة المصارف
باختصار، جميع مسارات العمل على شروط التفاهم على مستوى الموظفين متعثّرة. أما قانون تعديلات سريّة المصارف، فمثّل المؤشّر الأكثر خطورة بالنسبة إلى بعثة الصندوق، لكونه أشّر إلى مدى استعداد المجلس النيابي للمخاطرة بالتحايل على شروط الصندوق والتلاعب بطريقة تطبيقها، كرمى لمصالح الفئة النافذة ماليًّا وسياسيًّا. بالنسبة إلى الصندوق، لن يحقق القانون الذي تمّ إقراره الأهداف الأساسيّة المطلوبة منه، من عدّة نواحي:
1- حسب تفاهم صندوق النقد المبدئي، يُفترض أن تسمح تعديلات السريّة المصرفيّة “بإزالة العوائق التي تحول دون إعادة هيكلة القطاع المصرفي والإشراف عليه بشكل فعّال”، وهو ما يمثّل الهدف الأهم للتعديلات. وهذا الهدف بالتحديد، لن تحققه الصيغة التي مررها البرلمان لقانون تعديلات السريّة المصرفيّة، بعدما جرت إزالة لجنة الرقابة على المصارف من قائمة الجهات المختصّة التي تستفيد من حق تجاوز ستار السريّة المصرفيّة.
2- حسب تفاهم صندوق النقد المبدئي، يفترض أن يسمح تعديل سريّة المصارف باستعادة “الأموال المتأتية من عمليّات فساد وإثراء غير مشروع”، وهو ما يحول دونه عدم تضمين القانون أي بند ينص بصراحة على تمكين القضاء من طلب معلومات مصرفيّة يسبق تاريخها تاريخ إقرار القانون. وهكذا، سيكون بإمكان المصارف التحجج بهذه المسألة للامتناع عن تسليم معلومات مرتبطة بالمراحل السابقة، خصوصًا أنّها حاولت التلميح إلى عدم قانونيّة هذه المسألة في نقاشات لجنة المال والموازنة.
3- لن يحقق القانون هدف “مكافحة الجرائم الماليّة بفعاليّة”، كما طلب التفاهم المبدئي المعقود مع الصندوق، بعدما تم حصر نطاق تطبيقه بالجرائم الماليّة المنصوص عنها بقانون أصول المحاكمات الجزائيّة، وهي تحديدًا الجرائم التي تقع من ضمن صلاحيّات المدعي العام المالي علي إبراهيم.
هكذا، مثّل تفخيخ قانون تعديلات السريّة المصرفيّة خير دليل بالنسبة إلى بعثة صندوق النقد، لجهة انعدام الجديّة المطلوبة للشروع بمسار التصحيح المالي. أمّا تأخّر تنفيذ جميع الشروط الأخرى، فبات دلالة أخرى على حجم المخاطر التي تحيط بالتفاهم على مستوى الموظفين، وإمكانيّة تطيير هذا التفاهم بحلول شهر أيلول. وفي حال حصول هذا السيناريو، فالمسألة ستعني ببساطة استكمال مسار السقوط الحر، تمامًا كما جرى بعد إسقاط مسار المحادثات اللبنانيّة مع صندوق النقد منذ عامين.