تدحرجَ ملفّ الدواء في لبنان سريعاً نحو القعر، مدفوعاً بتداعيات الأزمة النقدية والاقتصادية. فبات حصول المرضى على الدواء الصحيح والمناسب محفوفاً بالمخاطر جرّاء ارتفاع أسعاره وتقنين وصوله إلى الصيدليات. وإثر ذلك، زاد الاعتماد على الأدوية المهرّبة أو المستوردة تحت عباءة ضعف الرقابة الرسمية. فانتشرت الأدوية ذات الفعالية الأقل وتلك التي تؤثّر سلباً على حياة المرضى. وإن كان الغشّ في ملفّ الدواء سابقٌ للأزمة، فقد انتعش خلالها. وبدل اتخاذ الدولة إجراءات حمائية، تراخَت إلى حدّ دَفَعَ المكاتب التمثيلية لكبريات شركات الأدوية العالمية إلى الخروج من لبنان، وهو قرار يحمل تداعيات سلبية جداً على سوق الدواء، ويزيد الخطر على المرضى، وتحديداً مرضى السرطان والأمراض المستعصية، ويضاعف حجم الفوضى والسمسرات.
انسحاب الشركات ليس مفاجئاً
آثَرَ نقيب مستوردي الأدوية وأصحاب المستودعات في لبنان، جوزيف غريب، التأخّر في تسليط الضوء على انسحاب المكاتب التمثيلية لشركات الأدوية العالمية. لكن تسارع الوتيرة حتَّمَ الإضاءة على الموضوع بقوّة، فأعلنَ أن هذه الخطوة تضع لبنان خارج خريطة الدواء العالمية، مما يجعل الشركات “تتوقف عن إعطاء لبنان الأولوية في الحصول على الأدوية الجديدة والمتطوّرة. كما لا يعود لبنان شريكاً في التجارب السريرية للأدوية الحديثة، وتحديداً في الأمراض السرطانية والمستعصية والمزمنة”.
الانسحاب ليس وليد قرار فوريّ، بل “يتواصل إقفال مكاتب الشركات منذ العام 2021″، وفق ما تؤكّده مصادر في القطاع الصيدلاني. وتداعيات الملف بدأت بالظهور “مع صرف أعداد كبيرة من موظّفي تلك الشركات وإعطائهم تعويضات مجحفة. لكن تزامن هذا الحدث مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي عاشها اللبنانيون منذ العام 2019، خفَّفَ من صخب الحدث على اعتبار أن هؤلاء هم ضحايا الأزمة على غرار أغلب اللبنانيين من موظّفي القطاعين العام والخاص”، تقول المصادر في حديث لـ”المدن”.
لكن المسألة لم تقف عند حدود صرف الموظّفين، لأن تخطّي معدّل المكاتب المقفلة نسبة الـ60 بالمئة، زادَ خطورة فقدان المزيد من الأدوية وارتفاع احتمالات استخدام أدوية ذات مخاطر عالية على صحة المرضى “لأن دور المكاتب التمثيلية لا ينحصر بإدارة عملية توفير الدواء في السوق، بل بالتأكُّد من المعلومات الصحية المرتبطة بالدواء وكيفية استعماله”. وتلفت المصادر النظر إلى أن “تلك المكاتب إسمها الكامل هو المكاتب العلمية التمثيلية. ومن الضروري التشديد على صفة “العلمية” لأن تلك المكاتب لا تبيع الأدوية بشكل مباشر، بل هذا الدور مناط بالوكلاء. وهنا تنفرد المكاتب في الإشراف على الجانب العلمي للدواء المستورَد إلى لبنان من شركاتها الأمّ. ولذلك، تحرص المكاتب على اتّباع الإجراءات نفسها المعتمدة في بلد المنشأ وفي أي بلد آخر. والمُلاحَظ، أن تلك المكاتب لا تعطي الوكيل الحق باستيراد كل الأدوية التي تنتجها الشركة التي يمثّلها المكتب في لبنان، كما انها لا تنغمس في لعبة تقديم العروضات وخدمات السفر والمؤتمرات للأطباء والصيادلة لمجرَّد أنهم اشتروا منتجاتها وأدويتها، فهذا الدور أيضاً مرتبط بالوكلاء”.
الانسحاب التدريجي تصاعَدَ مع انفلات سوق استيراد الدواء وتهريبه. ففي ظل الأزمة ورفع الدعم عن الدواء وارتفاع أسعاره “اتجهَ الكثير من المرضى نحو أدوية بديلة أرخص من الأدوية الأساسية العائدة للشركات التي تمثّلها المكاتب، وتالياً انخفض معدّل استهلاكها. فضلاً عن تراجع مستوى التقيُّد بالمحاذير والمعلومات التي تضعها المكاتب لاستعمال أدويتها، فهي معايير باتت غير مُلزِمة في ظل فوضى سوق الدواء. في حين أن المكاتب التمثيلية كانت تحرص على استعمال أدويتها وفق الإرشادات المعتمدة من الشركة. فمثلاً، إذا كان هناك دواء لمرض الأكزيما ويُستَعمَل لمناطق معيّنة من الجسم، لا يجوز استعماله على مناطق أخرى”. وتسرد المصادر حادثة نقاش حصل بين أحد أطباء الجلد وأحد الصيادلة حول استعمال أحد أدوية الأكزيما لمنطقة محيط العين، “ولحسم الجدل، تم الاتصال بمكتب الشركة التي تنتج ذلك الدواء، فقام مكتب لبنان بالاتصال بمكتب الشرق الأوسط، ليأتي الجواب بعدم استعماله في محيط العين. وهذا دليل على دقّة عمل تلك المكاتب”. ومن هنا، تجزم المصادر بأن “بقاء المكاتب العلمية التمثيلية في لبنان هو مسألة أساسية لضمان صحة المرضى”.
سوق أفقر وجودة أقل
أوَّلَ ما تتجه الأنظار نحوهم في ظل أزمة الدواء، هم مرضى السرطان والأمراض المستعصية والمزمنة. وهؤلاء يدفعون أثماناً كبيرة وسط الفوضى العلنية المستمرة منذ العام 2019، بعد أن كانت فوضى كامنة تحت ستار الحدّ الأدنى من انتظام عمل المؤسسات الرسمية، مع أن أروقة وزارة الصحة كانت وما زالت بيئة خصبة للفساد في ملفّ الأدوية، وخصوصاً السرطانية والمستعصية.
انفلات الأوضاع في لبنان جعلت مرضى السرطان والأمراض المستعصية أمواتاً مع وقف التنفيذ. فأدويتهم خضعت بشكل تام لفوضى السوق، وصولاً إلى وجود أدوية بفعالية أقل وأخرى بفعالية سلبية تفاقم المرض، في حين أن الأدوية المستوردة بدعم من الدولة، خرجت عبر طرق التهريب إلى سوريا وافريقيا واتجاهات أخرى. في حين لم تستطع الصناعات المحلية سد الفجوة. وبكل أسف، يقول رئيس “الهيئة الوطنية الصحية-الصحة حق وكرامة” الدكتور إسماعيل سكرية، أن “الأدوية ذات الصناعة المحلية تباع بأسعار مرتفعة في لبنان. وللمفارقة، تُباع نفسها بنصف السعر في دبيّ على سبيل المثال، مع أن سعرها هناك يفترض أن يشمل كلفة الشحن والضرائب وغير ذلك”. ما يعني أنه “لن يكون هناك مَن يعوِّض غياب المكاتب التمثيلية في السوق المحلّي. فالوكلاء لن يستطيعوا استيراد الأدوية الأصلية بالكميات والوتيرة نفسها”.
ومع أن الغياب سيؤثّر على استيراد الدواء الأصلي والفعّال، وسيقلّص عدد الدورات التدريبية والمؤتمرات التي كان يستفيد منها الأطباء والصيادلة، إلاّ أنه “في ظل مشاركة الكثير من تلك الشركات في فوضى ملف الدواء لثلاثة عقود، يمكن القول أنه لا أسفَ على غياب المكاتب لو أن الدولة اللبنانية تقوم بواجباتها”.
ولأن الدولة غائبة، سواء من خلال وزارة الصحة أو مجلس النواب أو مجلس الوزراء، فإن انسحاب المكاتب التمثيلية “سيصبح لبنان سوق دواء أكثر فقراً وأقل جودة. فلا حَرَجَ لدى الدولة في وجود أدوية هندية وسورية وإيرانية وغير ذلك. والمشكلة ليست في وجود تلك الأدوية بحدّ ذاتها، فللهند باع كبير في تصنيع الدواء، وإنما الأزمة تكمن في غياب الرقابة على ما يتم استيرداه، إذ يُترَك الأمر لـ”شطارة” التاجر اللبناني الذي استورَدَ سابقاً أبقاراً من الهند، ذُبَحَت بعد موتها، واستورَد أدوية أوروبية تنتهي مدة صلاحيتها بعد سنة، ووزّعت في لبنان ولا نعلم مَن استهلكها وكيف تم تغيير مدة الصلاحية”.
في الوقت عينه، لا يثق سكّرية بجدية تعامل وزارة الصحة مع هذا الملف، فالوزارة “تحوّلت منذ زمن إلى صدى لتهاوي وتدهور الأمن الصحي”. ويتساءل سكرية عن سبب “عدم استيراد الدواء من دولة لدولة، بل تركه للتجار، علماً أن الاستيراد بالصيغة الأولى فيه وفر بما لا يقل عن 50 بالمئة من سعر الدواء”. ويخلص سكرية إلى أن لبنان يتعامل مع الدواء، وخصوصاً أدوية السرطان، على أنه “سلعة مثل السيارات، نركض لاستيراد ما هو جديد وحديث، من دون الالتفات إلى جودته”. ولا يعني ذلك أن الادوية الجديدة ليست فعالة “بل في حالة لبنان، لا يمكن الركض نحو ما هو جديد ومكلف، في حين لدينا أدوية مستوردة ومجرّبة وأسعارها مقبولة، ولا يحتاج توفيرها لكل المرضى بانتظام سوى الرقابة ووقف الفساد”.
يحمل قرار إقفال الشركات مكاتبها، سحباً لاعترافها بأن لبنان سوقاً مهمّاً للأدوية. فرغم استفادة الشركات والوكلاء من غياب الرقابة، إلاّ أن حجم الاستهلاك يُعَدّ مؤشراً لقوة السوق. كما أن لبنان “كان سوق عبور لأدوية تلك الشركات نحو بعض الدول العربية”. وبهذا الانسحاب، يكرّس لبنان واقعَ أنه بات سوق دواء غير موثوق، لا من قِبَل مواطنيه ومرضاه، ولا من قِبَل زوّاره.