قبل ثلاثة أيّام من نهاية السنة، تتقاطع مجموعة من المعطيات لتشير إلى حقيقة واحدة: أجمع أقطاب النخبة الماليّة والسياسيّة على التخلّص من مسار التفاهم مع صندوق النقد، بخطوات متعمّدة ومدروسة، وعن سبق إصرار وتصميم. أمّا البديل، فهو تحديدًا ما جرى طوال السنوات الثلاث الماضية، أي السقوط الحر، وترك الاقتصاد المحلّي يعيد هندسة نفسه خلال الأزمة، مع مجموعة من الإجراءات الماليّة والنقديّة المتفرّقة، التي تحمّل أقسى الأكلاف على جميع المقيمين.
إنّه الجحيم إذًا، إذا ما توقّعنا أن ما يجري منذ 2019 سيستمر على مدى السنوات المقبلة، كرمى لمصالح معروفة الوجهة والعنوان. وما عُرف سابقًا بخطة الظل، أي الخطّة المضمرة التي تم اعتمادها خلال السنوات الثلاث الماضية، سيشرّع قريبًا بمجموعة من القوانين والإجراءات، تحت مظلّة خطّة التعافي المالي بعد تعديلها.
تعديل خطّة التعافي
المُعطى الأوّل والأخطر، هو قيام رئيس الحكومة بتشكيل لجنة خاصّة لإعادة صياغة خطة التعافي المالي، مع ضم وجوه جديدة من خارج فريق عمله التقليدي، بهدف توسيع الشق المرتبط بصندوق استعادة الودائع داخل الخطّة. وبخلاف آخر التعديلات التي جرت على الخطّة، من المفترض أن تسعى التعديلات الجديدة إلى ربط الصندوق بإيرادات مرافق ومؤسسات عامّة بشكل واضح وصريح، بدل الاكتفاء بوعد رفده ببعض الإيرادات العامّة في حال تحقيق فائض وازن في الميزانيّة العامّة كما كان الحال في آخر نسخ الخطّة.
وعلى هامش هذا التطوّر، تلقّت العديد من الكتل النيابيّة تعليمات واضحة من مرجعيّاتها السياسيّة، تقضي بالاستعداد لتلقي لجنة المال والموازنة مشروع قانون هذا الصندوق، من أجل العمل على تعزيز إيرادات الصندوق بما يلزم من رسوم وموارد المرافق العامّة، بدل أن يكتفي مشروع القانون بوعود تمويليّة فضفاضة. مع الإشارة إلى أن لوبيات مقرّبة من جمعيّة المصارف عملت خلال الأسبوعين الماضيين على الضغط على مختلف المرجعيّات السياسيّة من دون استثناء، لتحضير الأرضيّة اللازمة لهذه الفكرة في مجلس النوّاب، قبل تلقي مشروع القانون.
وفوق كل ذلك، ضجّت الأسواق خلال الأسبوعين الماضيين بالحديث عن مفاوضات تجري لشراء أسهم في العديد من المصارف “الصغيرة والمتوسّطة الحجم”، لمصلحة رجال أعمال ينشطون لحساب بعض المرجعيّات السياسيّة، حيث من المفترض أن تظهر نتائج هذه المفاوضات خلال الأسابيع القليلة المقبلة. ولفهم خلفيّة هذه العمليّات، تكفي الإشارة إلى نوعيّة وحجم الأرباح التي يمكن جنيها من شراء الأسهم اليوم في مصارف متعثّرة تمتلئ ميزانيّاتها اليوم بالخسائر، وبأسعار زهيدة للغاية، قبل التعويم المرتقب لهذه المصارف، بعد نقل الإلتزامات المترتبة لمصلحة المودعين إلى ميزانيّة “صندوق استرداد الودائع”.
وداعًا صندوق النقد
تشير مصادر متابعة لمسار المفاوضات مع صندوق النقد أن تعديل خطّة التعافي المالي على هذا النحو سيعني الإطاحة النهائيّة بالتفاهم السابق الموقّع على مستوى الموظفين مع الصندوق. فبعثة الصندوق لم تبتلع أساسًا دس فكرة صندوق استرداد الودائع في الخطة، بعد تعديلها في شهر أيلول الماضي (راجع المدن)، رغم أن التعديلات لم تربط الصندوق بإيرادات أي من المرافق أو المؤسسات العامّة، بل اكتفت بالإشارة إلى إمكانيّة تغذية الصندوق من إيرادات الخزينة في حال تحقيق فوائض كبيرة، وبعد القيام بالإنفاق اللازم على شبكات الحماية الاجتماعيّة والبنية التحتيّة. أمّا ربط الصندوق بإيرادات محددة كما هو الحال اليوم، أو بعوائد استثمار بعض المرافق العامّة، فسيعني إشهار الصندوق “الفيتو” في وجه الخطّة والتعديلات الجديدة.
خطورة هذه التعديلات –من وجهة نظر صندوق النقد- تبدأ أوّلًا من حجم الإلتزامات التي ستترتّب على الدولة اللبنانيّة، وكديون لمصلحة المودعين، بعد نقل ودائعهم من ميزانيّات المصارف لتصبح ديوناً مترتبة على صندوق استرداد الودائع. وهذه الفكرة، ستعني تعويم المصارف حتمًا، بعد أن تتخلّص من إلتزاماتها بالعملة الصعبة لمصلحة المودعين، لكنّها ستخنق في المقابل الدولة اللبنانيّة لعقود من الزمن.
وكما هو معلوم، لن يوافق الصندوق حتمًا على التورّط في برنامج قرض مع لبنان، مع ما يعنيه ذلك من إعطاء شهادة حسن سلوك، إذا لم تمتلك الدولة فعلًا مقوّمات النهوض. مع الإشارة إلى أنّ مجرّد الإبقاء على هذه الإلتزامات بهذا الشكل، ستعني إبقاء فجوة الخسائر قائمة في ميزنيّة صندوق استرداد الودائع نفسه، ما سيحول دون دخول الاقتصاد اللبناني في مسار تصحيح مالي جدّي.
الإشكاليّة الثانيّة، تكمن في الاستنزاف المالي الذي ستعاني منه الدولة لأجيال مقبلة، بعد خسارة إيرادات رسوم المرافق العامّة، لتغذية صندوق تترتّب عليه ديون ضخمة بالعملة الصعبة لمصلحة المودعين. وهذا الاستنزاف سيحول دون تمكين الدولة من إجراء أي تصحيح في نفقات الحماية الاجتماعيّة والبنية التحتيّة أو حتّى تصحيح رواتب العاملين في القطاع العام. أمّا أخطر ما في الموضوع، فهو أن تعديلات خطّة التعافي الأخيرة نصّت على تحويل إلتزامات الصندوق إلى سندات دين، ما قد يهدد حتّى بمصادرة هذه الأملاك والمرافق العامّة في المستقبل.
أخيرًا، لن يقدّم الصندوق كفكرة أي معالجة فعليّة لأزمة المودعين، كما يسوّق البعض، نظرًا لمحدوديّة قيمة المؤسسات والمرافق العامّة وإيراداتها المستقبليّة، مقارنة بحجم الفجوة الماليّة القائمة اليوم، ما يجعل الفكرة أقرب إلى مبدأ تأجيل التعامل مع الخسائر، بدل معالجتها اليوم. وهكذا، سيكون الاقتصاد المحلّي والدولة قد دفعا ثمن هذه الفكرة لعقود من الزمن، مقابل إعفاء المصارف من استحقاق توزيع الخسائر بشكل جدّي اليوم، بما يشمله ذلك من شطب لرساميلها.
في خلاصة الأمر، ما يجري من تعديلات اليوم سيعني الإجهاز على إمكانيّة توقيع اتفاق نهائي مع صندوق النقد. وهو ما يتكامل مع ما قامت به المنظومة السياسيّة منذ شهر نيسان الماضي، عبر التملّص من كافة الشروط التي نص عليها التفاهم على مستوى الموظفين مع صندوق النقد.
جحيم السقوط الحر في 2023
كل هذا المشهد، يقودنا إلى توقّع المسار الذي سيقبل عليه لبنان خلال العام 2023، وهو تحديدًا مسار السقوط الحر، المتفلّت من أي خطّة إنقاذ فعليّة. وفي هذا المسار، سيُترك لحاكميّة المصرف المركزي، كما هو الحال اليوم، أمر تحويل سوق القطع إلى كازينو تتلاعب به تعاميم المصرف المركزي ومضاربات السوق الموازية، كما سيترك للحاكميّة أمر التلاعب بأسعار الصرف المعتمدة للسحوبات المصرفيّة، والتي تحدد فعليًّا نسبة “الهيركات” التي يتم فرضها على كل شريحة من شرائح المودعين. وفي هذا المشهد أيضًا، ستستمر السياسة النقديّة بتحمّل كلفة المعالجات المعتمدة لأزمة الودائع الصغيرة، عبر خلق النقد لدفع هذه الودائع، أو عبر خلق النقد لشراء الدولارات من السوق الموازية وتغذية الاحتياطات.
أمّا على المدى الطويل، فستكون الدولة ودورها ضحيّة فكرة صندوق الاسترداد المقترح، تمامًا كما سيدفع الكلفة أصحاب الودائع التي ستنتقل إلى ميزانيّة الصندوق، والتي لن يتم سدادها حتّى بعد عقود طويلة. وفي كل هذه التطوّرات، لن يشهد لبنان قريبًا أي من الإصلاحات التي نص عليها تفاهمه مع صندوق النقد، والتي كان من المفترض أن تبدأ بتدقيق ميزانيّات القطاع المصرفي لتحديد حجم الفجوة والمسؤوليّات، ومن ثم وضع مسار واضح وشفاف لتوحيد أسعار الصرف وتعويمها بشكل مضبوط ومتوازن، وصولًا إلى إعادة هيكلة الدين العام وتصحيح السياسة الضريبيّة، وغيرها من الخطوات.
هنا، يصبح من المفهوم سعي المصارف خلال الأسابيع الماضية لإطلاق أوسع حملة “علاقات عامّة” تقوم بها منذ بدء الانهيار، بهدف إعادة تسويق الحلول التي تقترحها لمعالجة الأزمة، وعلى رأسها فكرة “الصندوق السيادي” الذي طرحته منذ بداية الأزمة، والذي دخل خطّة التعافي اليوم تحت عنوان “صندوق استعادة الودائع”. فمن يدفع البلاد باتجاه سيناريوهات جهنميّة من هذا النوع، سيحتاج حتمًا إلى ما يكفي من دعم إعلامي، قبل أن يخنق المجتمع بطروحاته القاسية.