لم يسبق أن نجحت حكومة في لبنان، مثل الحكومة الحالية (قبل وخلال تصريف الأعمال)، في استنهاض وتحريض العاملين في ملاكاتها المختلفة في الإدارات والمؤسسات العامة وفي التعليم والقضاء والقوى العسكرية، سواء أكانوا أجراء أم متعاقدين أم متقاعدين. دفعتهم إلى التوقف عن العمل والنزول إلى الشارع لمنع انعقاد مجلس الوزراء أكثر من مرّة، دفاعاً عن لقمة عيشهم وعن أدويتهم وأقساط مدارس أولادهم، وعن حقّهم في الحصول على الخدمات الأساسية. خلقت لديهم شعوراً عميقاً بالخطر المباشر على القطاع العام وديمومة العمل فيه. وبذلك، تكون هذه الحكومة، هي الأسرع في تنفيذ توجهات صندوق النقد والبنك الدوليين، الرامية إلى الإنهاء التدريجي للقطاع العام، وتطبيق مشروع التعاقد الوظيفي الذي سبق لهيئة التنسيق النقابية أن أسقطته.أمام هذه الوقائع، تلجأ الحكومة وأبواقها من المستشارين وأزلامها في الهيئات الاقتصادية والمصرفية، إلى تضليل الرأي العام، إذ يقول هؤلاء إن سلسلة الرتب والرواتب ستشكّل خطراً على المالية العامة والاقتصاد، واسترجعوا حملاتهم السابقة في تحميل القطاع العام مسؤولية الانهيار، بعدما سرقوا المال العام والخاص. يحاول هؤلاء، إظهار أركان السلطة ومافيات المصارف والاحتكارات والصفقات ومهربي أموال الدعم وسارقي الودائع، بوصفهم حمائم النزاهة والشفافية، في مقابل شيطنة أي تصحيح للرواتب وفقاً لمؤشرات غلاء الأسعار متغافلين أن كلفة السلسلة في 2017 لم تتجاوز 1.8مليار دولار، بينما خدمة الدين العام تجاوزت 90 مليار دولار، وحجم الإنفاق والهدر تجاوز 300 مليار دولار.
في هذا السياق، أقرّت الحكومة المرسوم 13020 المبني على التضليل والمعايير المزدوجة والتمييز، للجم التحركات التصعيدية وكسب الوقت بزيادات غير منصفة وتمييزية واستنسابية وإرضائية في آنٍ. بل ضربت بعرض الحائط كل العروض التي قدّمها المتقاعدون المتظاهرون بالموافقة على إقرار زيادة أولى بنسبة بين 40% – 50% من قيمة الرواتب عشية الأزمة، وتقسيط الباقي على مراحل. إذ إنه بحسب الإحصاء المركزي، ارتفع مؤشّر التضخم من 115 في 2019 إلى 6150 في نهاية كانون الثاني 2024، أي إن الأسعار ازدادت 60 ضعفاً. وفي المقابل، جرت زيادة الرسوم والضرائب الواردة في الموازنة بين 24 ضعفاً و50 ضعفاً. وبدلاً من أن تبادر الحكومة إلى معالجة جذور الأزمة، قرّرت الاعتماد على سياسة المسكنات والبدع والإغراءات والاستنسابية والعشوائية والتمييز. وبالتدرّج، تخلّصت من حقوق المتقاعدين المتمثّلة بمحسوماتهم التقاعدية وتعويضاتهم المدخرة في خزينة الدولة طوال سنوات خدمتهم (85 %من أساس راتبهم الأخير)، فرغم كل الإضافات على المعاشات التقاعدية، إلا أنه في النتيجة خسرت 84% من قوّتها الشرائية في 2019، وذلك تمهيداً لقطعها نهائياً وقذف المتقاعدين المدنيين والعسكريين تدريجاً إلى الشارع بلا معاشات ولا ضمانات.
وأطلّت الحكومة علينا، ببدعة غير مسبوقة في المرسوم 13020، إذ ينصّ على منح موظفي الإدارة العامة «بدل بنزين مادي»: هل سمع أو قرأ أحدكم، مثل هذا البدل على سطح الكرة الأرضية؟
إلى جانب ذلك، حصل العاملون في القطاع العام، على وعد بمنحهم «بدل مثابرة» يُراوح بين 15 مليون ليرة و25 مليون ليرة إذا تجاوز دوام عمله أكثر من 14 يوماً شهرياً: هل يستطيع أحد تفسير تعريف هذه «المثابرة»؟ هل يذهب الموظف إلى مركز العمل للتسلية أو التنزّه وإضاعة الوقت؟ وما الهدف الوظيفي من مخالفة قانون الموظفين بخفض أيام العمل الشهري المحددة قانوناً بـ 22 يوماً كحدّ أدنى معمول به منذ قيام الوظيفة العامة، إلى 14 يوماً بقرار من وزير؟
كذلك سيمنح المرسوم تعويضاً شهرياً مؤقتاً بقيمة راتبين، ويعطي المتقاعدين ثلاثة أضعاف معاشاتهم التقاعدية: هل هذا لتوحي الحكومة للمتقاعدين أنها ساوت بينهم وبين من في الخدمة بعدد الأشهر الإضافية لتصبح تسعة للجميع؟ لماذا حُرم السلك القضائي والتعليمي من هذا التعويض؟ هل هذا أيضاً لتوحي إلى الموظفين والإداريين والمتقاعدين أن القضاة، إضافة إلى معاشاتهم المضروبة بسبعة أضعاف يتقاضون تعويضات إضافية من صندوق التعاضد تصل إلى حدود 1560 دولاراً شهرياً، وأن المتقاعدين منهم يحصلون على 330 دولاراً، وأن أساتذة الجامعة اللبنانية يتقاضون تعويضات إضافية لرواتبهم السبعة تصل إلى حدود 1648 دولاراً منها 1000 دولار من صندوق التعاضد و648 من وزارة التربية، وأن المتقاعدين منهم يحصلون على 400 دولار من صندوق التعاضد إضافة إلى رواتبهم؟ وكذلك الحال، فالأساتذة والمعلمون الرسميون يتقاضون إضافة إلى رواتبهم السبعة 300 دولار شهرياً. أما ما يُعطى إلى عناصر الضابطة الجمركية من بدل ساعة العمل النهارية (8 ساعات) ما بين 400 ألف ليرة للفئة الخامسة، ومليون ليرة للفئة الثانية، وبدل ساعة العمل الليلية (8 ساعات)، ما بين 600 ألف ليرة للفئة الخامسة وصولاً إلى 1,500,000 ليرة للفئة الثانية، فيحتاج إلى قراءة مختلفة.
كل هذه البدلات والتعويضات والحوافز، مهما كان اسمها وشكلها، والممنوحة بالجملة والمفرق، لا تتصف بالديمومة والثبات، كونها وردت في مراسيم أو قرارات لتسدّد من خارج أساس الراتب، ولا تُحتسب في المعاش التقاعدي ولا في تعويض نهاية الخدمة. وعند احتساب هذه الزيادات الجديدة المكوّنة من الرواتب المستحدثة، مضافاً إليها كامل التعويضات والحوافز والمنح والبدلات لمن هم في الملاك، فإن نسبتها مجتمعة تُراوح بين 23% و36% من أساس رواتب 2019، مع خسارة تُراوح بين 77% و64% وفقاً للفئة الوظيفية. وتظهر هذه الخسارة بشكل أكبر عند المتقاعدين المدنيين والعسكريين لأنهم حصلوا على 9 رواتب فقط من دون أي حوافز أو بدلات لتصبح قيمتها تُراوح بين 15% و18% مقارنة مع رواتبهم في 2019.
ضخامة الخسارة إلى جانب الخروقات العميقة لقانون الموظفين هما أهمّ دوافع انتفاضة المتقاعدين المدنيين والعسكريين التي لن تهدأ. فالمتضررون مقبلون على تصعيد في الأيام والأسابيع المقبلة يتضمن إضرابات وتظاهرات نوعية حتى تحقيق الآتي:
1 – حماية القطاع العام ومؤسّساته مما يحاك ضدّه من مشاريع تفريغه وخصخصته.
2 – الخروج من دوامة البدع والعطاءات الفارغة والمراهم السطحية لعلاج أمراض مستعصية، وصولاً إلى تصحيح حقيقي للرواتب والمعاشات التقاعدية وفقاً لمعايير موحدة ومتوازية وفقاً لمؤشر الغلاء والتضخم لإعادة القدرة الشرائية للرواتب والمعاشات التقاعدية كما كانت عليه عشية الأزمة.
3 – استعادة الحقّ المكرّس قانوناً باحتساب نسبة المعاش التقاعدي على أساس 85 %من الراتب الأخير خلال الخدمة.
فلتتحمل الحكومة مسؤولياتها، ولتكفّ عن سياسة المناورات وتقطيع الوقت بإغراق الموظفين وجميع العاملين في القطاع العام والمتقاعدين بالأوهام، وآخرها وعد تصحيح الأجور مطلع حزيران القادم.