اعتدنا أن نرى الانتقادات والتهجّمات ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من قوى وجهات “ومحللين وخبراء” وإعلاميين وهؤلاء معروفو الأهواء والاتجاهات والأسباب.
لقد غدت هذه الحملات على مرّ السنوات جزءاً من عملية “النضال” التي يخوضها رياض سلامة ومن التحدّي الذي يواجهه، من دون أن تؤثر على ضميره أو تغيّر من قناعاته حرفاً…
ولكن لم نعتد رؤية انتقادات لحاكم مصرف لبنان تأتي من مصرفي عمل لسنوات ضمن السياسة التي رسمها هذا الحاكم وحقّق الأرباح للمصرف الذي يعمل به وأتت به الظروف وزيراً ليغيّر موقفه عند وصوله إلى الحكومة.
من هنا لقد كان من الطبيعي بعد البيان المكتوب الذي أذاعه وزير الاقتصاد المصرفي منصور بطيش والتصريحات “الصدمة” التي أطلقها، أن يثير موقفه الاستغراب وجملة تساؤلات للأسباب التالية:
– يجتاز لبنان وضعاً مالياً واقتصادياً صعباً ودقيقاً، لا يحتمل مزيداً من الخلافات والسجالات فكيف إذا كان الأمر يتعلّق بسجال يطال حاكمية مصرف لبنان، هذا الموقع المتقدّم الذي يشمل خط الدفاع الأول عن الاستقرار المالي والنقدي… فهل يعلم منصور بطيش أن الاستقرار النقدي، هو المتضرر الأول والمباشر من سجالات وتصريحات كهذه… وهل نسي السيد بطيش وهو مصرفي متمرّس أنه كان من الأعدل انتقاد السياسيين الذين أوصلوا البلاد إلى ما وصلت إليها من حالة مزرية نتيجة فسادهم وهدرهم للمال العام وأجبروا رياض سلامة على اتّخاذ هكذا قرارات صعبة ليجنّب لبنان الانهيار.
– للمفارقة فإن انتقاد وزير الاقتصاد منصور بطيش لرياض سلامة حصل في اليوم نفسه الذي كان اتّحاد المصارف العربية يكرّم سلامة ويمنحه جائزة “أفضل محافظ 2019” في العالم العربي، فجاء بطيش يخرق هذا الإجماع الوطني ويدخل استثناءً على القاعدة، وللتذكير فقط فإن اتّحاد المصارف العربية الذي يضمّ في عضويته 340 مصرفاً عربياً منح جائزته لسلامة لعام 2019 كما قال نظراً للنجاحات التي حقّقها على صعيد السياسة النقدية والحفاظ على استقرار أسعار الصرف في ظلّ أزمات متلاحقة أصابت العالم العربي ولبنان، والحروب المشتعلة في دول الجوار، ناهيك عن التعامل الحكيم مع المرجعيات الدولية بالنسبة للعقوبات.
– من الطبيعي أن تتعدّد الآراء وتسود نقاشات حول الأوضاع المالية والاقتصادية بما في ذلك حول سياسات حاكم مصرف لبنان، ولكن ليس من المألوف أن تصدر انتقادات عن وزير في الحكومة عبر وسائل الإعلام وأن يتّخذ وزير الاقتصاد من الإعلام منصة هجومية على حاكم مصرف لبنان، مجلس الوزراء هو المكان الطبيعي ليقول أي وزير ما يريد وليفرغ ما في جعبته مهما بلغت مواقفه من الحدّة سواء كان على حق وصواب فيها أم لم يكن، فكيف إذا تعلّق الموضوع بأمور مالية على جانب كبير من الدقة والحساسية ولا تُطرح إلا ضمن المؤسسات وعلى طاولة مجلس الوزراء وبكل جدية ومسؤولية.
– عندما يتناول وزير الاقتصاد أموراً ومواضيع هي في صلب صلاحية ومسؤولية حاكم مصرف لبنان، فإنه في ذلك يتجاوز موقعه ودوره ويفسح في المجال أمام التشكيك بدوافع وخلفيات موقفه وما إذا كان موقفه ينطوي على خلفيات وأبعاد سياسية وقطب مخفية أو يرمي إلى تصفية حسابات شخصية. إذا كانت أقوال الوزير بطيش أوجدت صدمة سلبية، فإن الإيجابية في ما حدث تكمن في الاحتواء السريع لهذه الصدمة من جانب رئيس الجمهورية ميشال عون وبالتعاون والتنسيق مع رئيس الحكومة سعد الحريري، ذلك أن رئيس الجمهورية مدرك تماماً لدقة الأوضاع المالية وأنها لا تحتمل أخطاء في التصرّف والممارسة وأن أخطاءً كهذه تُصيب العهد وتُلحق به أفدح الضرر، ولذلك فإنه لم يتأخر في معالجة وتطويق الاشتباك الذي بقي اشتباكاً من طرف واحد عبر تغريدة لمستشارته ميراي عون الهاشم بقولها: “الوضع المالي لا يحتمل التراشق والسجال، والمطلوب العمل الجدي والعملي ابتداء من خطة “رؤية لبنان” الاقتصادية.”
في الختام إنصافاً للحق والحقيقة، لا بدّ من القول إن رياض سلامه ليس حاكم المصرف المركزي السويسري، وانما هو حاكم المصرف المركزي اللبناني، وكل سياساته وهندساته المالية مبنيّة على الواقع اللبناني السياسي، دون أن ننسى الفساد المستشري في الدولة وإداراتها باعتراف جميع القوى السياسية دون استثناء..
نحن نعيش في وطن بائس وسياسات بعض من يتعاطى الشان العام هي من أجبرت رياض سلامة على القيام بالهندسات المالية وغيرها من الأمور التي ينتقدونها، ورياض سلامة يقوم مجبراً “بمسح إساءتهم وفسادهم ويحاول أن يحدّ من مساوئهم وارتدادتها على الوطن؟