أقف خارج المدرسة الابتدائية التي التحقت بها في فترة الطفولة؛ تحديدا قرب البوابة الأمامية ومرأب سيارات المدرسين، في يوم مشمس، وحولي زملائي في الصف، ويزيد عددنا حتما على المئة.
وبداخلي شعور غامض بأن بعضا من مدرسيّ قريبون مني، لكن اهتمامي منصبٌ على شخصيْن بالغيْن لا أعرف أيا منهما.
أحدهما رجل رأيته بتفاصيل واضحة بل صارخة أيضا، من اللمعان المتوهج لشعره وصولا إلى العدسات ذهبية اللون لنظارته الشمسية. ويحمل الرجل جهازا ما يطلق صرخة حادة. سقطت على ركبتي ويداي فوق أذنيْ. وكل زملاء صفي فعلوا مثلي. لينطلق الرجل في ضحك جنوني.
رأيت هذا الحلم قبل نحو أربعين عاما، لكنني ما زلت قادرا على تذكر تفاصيله، كأنني رأيته أمس. رغم ذلك، فإذا طلبت مني تذكر أيٍ من تفاصيل حلم رأيته قبل أيام، سأعجز عن ذلك تماما.
وعندما أحلم فلا شيء من هذه الأحلام يعلق بذاكرتي بقدر كاف لأن أتذكره عند الاستيقاظ.
وبالنسبة للكثيرين منّا، فإن الأحلام شيء غير ملموس تقريبا. وإذا حالفنا الحظ، يمكننا تذكر لمحة عابرة لا أكثر منها في ضوء النهار. وحتى أولئك الذين يتمكنون من تذكر أحلامهم بتفاصيل مدهشة، قد يصحون من نومهم في بعض الأيام، ولا يتذكرون شيئا عما حلموا به خلال الليل.
لكن أسباب رؤيتنا للأحلام وتحديد ما إذا كنا سنستطيع تذكر تفاصيلها أم لا، تكمن كلها في المنظومة البيولوجية التي تحكم نوم أجسادنا والعقل الباطن لكل منّا.
على أي حال، لا بد من الإشارة إلى أن النوم أكثر تعقيدا مما كنا نحسب. فبدلا من أن يكون بالنسبة لعقولنا بمثابة مرحلة من اللاوعي تدلف إليها هذه العقول وتخرج منها؛ فإنه بالنسبة لنا يبدو أشبه بركوب قطار ملاهٍ دوار حافل بالتغيرات الذهنية، بعضها يكون غاصا بالنشاط العقلي.
وترتبط رؤية الأحلام بشدة بمرحلة النوم المعروفة باسم “نوم حركة العين السريعة”، والتي تُعرف أحيانا باسم “النوم غير المتزامن” وذلك لأنها تتضمن ملامح تحاكي تلك التي تتسم بها مرحلة الصحو والاستيقاظ. وفي هذه المرحلة من النوم، ترتعش العينان بسرعة، وتحدث تغيرات في التنفس والدورة الدموية، ويدخل جسد النائم في حالة شلل تُعرف باسم “أتونيا” باللاتينية و”الوَنَى” بالعربية. وتحدث هذه المرحلة على موجات تدوم كل منها نحو 90 دقيقة خلال النوم، وتميل عقولنا خلالها إلى تكوين الأحلام.
وفي مرحلة “نوم حركة العين السريعة”، تتدفق كميات إضافية من الدماء على مناطق حيوية من المخ، من بينها منطقة القشرة التي تُفعم أحلامنا بتفاصيلها، وكذلك منطقة “الجهاز الحافي” أو “الجهاز النطاقي” الذي تتم فيه معالجة حالتنا الشعورية. وعندما نمر – ونحن نائمون – بهذه المرحلة التي تشهد أحلاما على الأرجح، يندلع نشاط كهربائي عارم في الدماغ. أما الفص الجبهي – الذي يوجه مَلكاتنا وقدراتنا الحيوية – فيبقى ساكنا.
ويعني ذلك أننا نتقبل بشكل أعمى – في هذه الأوقات – ما يجري خلالها من أحداث لا معنى لها على الأغلب، إلى أن يأتي وقت نستيقظ فيه من النوم.
المشكلة تكمن في أنه كلما كان ما يدور في أحلامنا مختلطا ومائجا بالخيالات، ازدادت صعوبة إدراكه والاحتفاظ بتفاصيله. أما الأحلام ذات البنية الأكثر وضوحا، فيسهل علينا تذكرها بشكل أكبر، كما تقول ديدري باريت الأستاذة في علم النفس.
لكن الأمر لا يخلو من مركب كيمياوي، يشكل وجوده أمرا حيويا لضمان الإبقاء على تفاصيل الأحلام في الذاكرة، وهو عنصر يُعرف باسم نورادرنالين. ويمثل هذا العنصر هرمونا يهيئ الجسد والعقل للعمل والحركة، وتقل مستوياته لدينا – بشكل طبيعي – حينما نكون غارقين في نوم عميق.
وتقول فرانشيسكا سيكلاري، طبيبة وباحثة في مجال النوم في مستشفى جامعة لوزان، إن هناك حدودا واضحة تفصل بين الحالات التي نمر بها خلال اليقظة وتلك التي نشهدها أثناء النوم، مشيرة إلى أن ذلك ليس من قبيل المصادفة. وتؤكد أنه من الجيد على الأغلب أن “تكون حياة الحلم وحياة اليقظة مختلفتين تماما عن بعضهما بعضا”.
وتضيف: “أعتقد أنك إذا تذكرت كل التفاصيل مثلما يحدث وأنت مستيقظ، فستبدأ في خلط الأشياء (التي تراها في أحلامك) مع تلك التي تشهدها حياتك الواقعية”.
وتقول إن من يعانون من اضطرابات النوم، مثل ما يُعرف بـ “الخُدار”، يمكن أن تصعب عليهم التفرقة بين ما يجري لهم خلال اليقظة وما يرونه في أحلامهم أثناء النوم، ما قد يجعلهم يشعرون بالارتباك والحرج كذلك. وتضيف أن “هناك من يتذكرون أحلامهم بشكل أفضل من اللازم، وهم يبدؤون فعليا في جلب ذكريات تلك الأحلام” إلى حياتهم الواعية خلال اليوم.
وليس من قبيل المصادفة أيضا أن تكون الأحلام التي نتذكرها على نحو أكبر، هي التي تحدث في فترات بعينها من دورة النوم لدينا، تلك التي تتأثر بمواد كيمياوية تتدفق في أجسادنا النائمة. وتقول سيكلاري: “عادة ما تحدث أكثر أحلامنا وضوحا لنا، خلال مرحلة ‘نوم حركة العين السريعة ‘ التي يكون فيها مستوى مادة نورادرنالين متدنيا في المخ”.
المفارقة أننا قد نحلم في الفترة السابقة مباشرة لاستيقاظنا من النوم، لكن ما نقوم به من أنشطة صباحية بشكل روتيني، يحول في الواقع دون أن نتذكر تفاصيل هذه الأحلام.
ومن بين العوامل التي تزيد من صعوبة تذكرنا لهذه التفاصيل، كوننا نستيقظ من نومنا في الأغلب على صوت جهاز مُنَبِه، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع كبير في مستويات الـ “نورادرنالين” لدينا.
ويتبنى هذا الرأي روبرت ستيكغولد، باحث في مجال النوم بكلية هارفارد للطب، الذي يقول: “يسألني بعضهم عن سبب عجزهم عن تذكر أحلامهم، فأجيبهم بالقول إن ذلك يحدث لأنهم يستغرقون في النوم بسرعة أكبر من اللازم، وبعمق أكثر من اللازم، ويستيقظون على صوت المُنَبِه، ويكون رد فعلهم عادة متمثلا في القول `كيف عرفت هذا؟`”.
ويضيف أن الكثيرين يتذكرون الأحلام التي يرونها في الفترة الأولى من النوم، حينما تبدأ عقولهم في الشرود والانفصال عن الواقع تدريجيا، وتتراءى لهم الأطياف الشبيهة بما يرونه في الأحلام، خلال اقترابهم من مشارف النوم أو ابتعادهم عنه. ويطلق على ذلك اسم “فترة الأحلام الشبيهة بالهلاوس”.
ويضيف أنه أجرى دراسة قبل سنوات، تم فيها إيقاظ أفراد العينة من الطلاب في المختبر، بُعيد بدئهم الدخول في هذه المرحلة من النوم، وكانت النتيجة أن “كلاً منهم تذكر ما رآه في أحلامه”.
وتابع: “هذه المرحلة تتمثل في الدقائق الخمس أو العشر الأولى من النوم. إذا غرقت في نوم عميق – على الشاكلة التي نتمناها جميعا – فلن تتذكر شيئا مما رأيته من أحلام خلال هذا الجزء من دورة نومك”.
لكن ماذا إن كنت ترغب في أن تتذكر أحلامك؟ هناك نصائح عامة ربما تساعدك على ذلك، بالرغم من تسليمنا بأن لكل شخص نائم طبيعة مختلفة عن أقرانه.
ويقول ستيكغولد: “تتسم الأحلام بهشاشة لا تصدق في المرحلة التي تلي الاستيقاظ مباشرة، وهو أمر لا نعرف له سببا. فإذا كنت من أولئك الأشخاص الذين يقفزون من الفراش وينخرطون في ممارسة شؤون يومهم، فلن تتذكر أحلامك. عندما تنام لوقت أطول صباح يوم العطلة الأسبوعية، يمثل ذلك وقتا ممتازا لتذكر هذه الأحلام”.
ويشير إلى أنه يقول لطلابه: “عندما تستيقظون من النوم حاولوا البقاء في وضع الاستلقاء، ولا تفتحوا أعينكم حتى. حاولوا أن تشعروا بأنكم في وضع `الطفو` وبالتزامن مع ذلك حاولوا تذكر ما رأيتموه في أحلامكم. ما تفعلونه في هذه الحالة هو استعادة الأحلام واستعراضها في الوقت الذي تدلفون فيه إلى حالة اليقظة، وعندئذ ستتذكرونها تماما كأي ذكرى أخرى”.
ويضيف ستيكغولد أن هناك طرقا ذات فرص مؤكدة بشكل أكبر للنجاح على صعيد تذكر الأحلام، تتمثل في شرب ثلاثة أكواب كبيرة من الماء قبل أن يأوي أحدنا إلى فراشه، محذرا من احتساء الجعة مثلا بدلا من ذلك، وذلك لأن الكحول من المواد المثبطة للدخول في مرحلة “نوم حركة العين السريعة”.
ويشير إلى أن تناول هذه الكمية من الماء، سيجعل المرء يستيقظ ثلاث أو أربع مرات خلال الليل، ومن المرجح أن يحدث ذلك، في نهاية كل موجة من موجات “نوم حركة العين السريعة”.
وهناك نصيحة أخرى يسديها بعض الباحثين في مجال النوم، تتمثل في أن تكرار المرء لنفسه وهو يستغرق تدريجيا في النوم أنه يرغب في تذكر أحلامه، يعني أنه سيستيقظ وهو يتذكر هذه الأحلام بالفعل.
وفي تعليقه على هذه النصيحة، يقول ستيكغولد ضاحكا: “إنها تؤتي أُكلها بالفعل. إذا فعلت ذلك فستتذكر أحلاما أكثر”.