من يراقب مشهد اليوم على الساحة اللبنانية يلمس زحمة مناظرات وتهجمات تصب جميعها في خانة سياسات الافرقاء ومصالحهم وليس ابداً لمصلحة الوضع الاقتصادي في البلاد الذي هو على موعد مع موازنة من نوع آخر أطلق عليها انها تقشفية ، موجعة … باختصار غير عادية في مرحلة غيرعادية.
دقت الساعة ، ولا رجوع الى الوراء .حان الوقت لمعالجة الخلل البنيوي في الميزان التجاري، الذي يشكل السبب الاول في عجز ميزان المدفوعات الذي تفاقم في الفترة الاولى من هذا العام حيث قارب الملياري دولار اميركي، وهو ناتج عن ارتفاع فاتورة الاستهلاك في اقتصاد استهلاكي مع ضعف مستوى الصادرات. لبنان يستهلك اكثر مما ينتج باضعاف ويتم تمويل هذا العجز من خلال الاستدانة. ان تفاقم العجز يخفض تصنيف لبنان ويرفع سعر الفوائد ويزيد الكلفة ويهدد الاستقرار.
المطلوب اصلاحات هيكلية لتحسين الميزان التجاري وليس الكلام النظري عن تخفيض الفوائد فيما يزيد تفاقم العجز من الاسباب التي تؤدي لرفعها. بالطبع هناك اتفاق بين الخبراء الاقتصاديين على هذه النقاط .
ان التصحيح المالي يستلزم خفض عجز الموازنة الى مستويات مقبولة جرى التعّهد بها في خطة “سيدر” اي تأمين التوازن المالي. والمشكلة اصبحت مكشوفة الا وهي ضرورة إعادة هيكلة القطاع العام وإعادة النظر بحجمه، اذ من غير المقبول ان يتجاوز نسبة 35 %من القوى العاملة في لبنان وترشيد انفاقه وتحديثه لزيادة فعاليته ومكافحة الفساد وتحسين الجباية.
ففي معظم اهم البلدان المتطورة لا تتعدى نسبة العاملين في القطاع الحكومي 30% مثل النروج ، في السويد 28%، في فرنسا 21% ، في بلجيكا 18% ، في بريطانيا 16%، في الولايات المتحدة الاميركية 15% ، في المانيا 10% وفي اليابان 5% .
ومن المؤكد ان أن ارتفاع نسبة القوى العاملة في القطاع العام يوضح اعتمادا أكبر على الخدمات العامة.ولكن في لبنان اين هي الخدمات العامة في الكهرباء التي تثقل اعباء الدين العام وحيث اسوأ أداء ؟ في المياه غير المتوفرة للمشتركين الذين يدفعون اكثر من فاتورة ؟ في الهاتف ؟ في مرافق الهدر ؟
ثمة سباق لإنجاز الإصلاح المنشود والوقت مكلف مع اقتصاد مشلول وأزمة مالية عامة متفاقمة يواكبها انحدار مجمل الأنشطة الانتاجية وتوّسع عجز الميزان التجاري الى نحو 17 مليار دولار وتراكم عجز ميزان المدفوعات الى مستويات مقلقة .
تغوص الحكومة اليوم في رحلة البحث عن حجم واردات يؤمن ارقام الانفاق . الابواب كثيرة ولكنها ليست مفتوحة . المس بمخصصات ورواتب وتعويضات هذه الفئات ممنوع . ومد اليد الى السلسلة مرفوض .
وفي غضون، ذلك يدور الحديث في الأروقة وعبر وسائل الاعلام عن قرار لرفع الضريبة على فوائد الودائع المصرفية من 7الى 10%.
استسهال التعرّض الى المصارف ليس بجديد . فالشجرة المثمرة تتعرض دائماً للرمي بالحجارة . ويبدو ان الرابح يدفع الثمن في كل جولة .
ولكن هذا التدبير ان تم اللجوء اليه سيترك تداعيات وخيمة ومؤذية ؛فهو يشلّ قدرة المصارف على جذب الودائع وتنفيذ التسليف الميّسر للاقتصاد فيما ان الدولة هي بأ مس الحاجة الى التمويل المصرفي إسوة بالمجتم
طبارة
وفي هذا السياق ، يقول رئيس جمعية رجال الاعمال المغتربين اللبنانيين ، نائب رئيس المجمع الدولي للمحاسبين القانونيين وعضو مجلس امناء المنظمة العربية لمكافحة الفساد الدكتور أسامة طبارة ” للاقتصاد” : ” لايجوز ابداً اللجوء الى التدابير المساعدة على طرد اصحاب الودائع الى الخارج ، وخصوصاً المغتربين اللبنانيين الذي يفضلون وضع اموالهم في المصارف اللبنانية بدل التوّجه الى بلد آخر .
كما ومن المعيب التعرّض الى ودائع المقيمين من متقاعدين وغيرهم الذين يعتاشون من فوائد هذه الودائع . اي قرار عشوائي يصب في هذا الاطار وينص على رفع الضريبة على فوائد الودائع المصرفية من 7الى 10% سيكون بمثابة صفعة قوية للقطاع المصرفي ، وايضاً للاقتصاد الوطني برمته. انها خطوة تضر بمستقبل القطاع المصرفي وبثقة المغتربين خارج لبنان ، فيما انه من المفترض ان يتم الاعتماد على قوانين إعفاءات ضريبية لجذب الاموال ومساعدة الاقتصاد على النهوض والتطوّر.
الحل الوحيد البديل هو القضاء على الفساد المستشري ؛ فالكل يدرك هذه الحقيقة المرة.ولا خلاف بين الافرقاء على ضرورة وقف الفساد ، ولكن لا احد يريد المباشرة . كانت هناك وزارة لمكافحة الفساد في الحكومة السابقة ، الا انها لم تعطى التسهيلات اللازمة للقيام بعملها . لذلك من الضروري إنشاء هيئة مستقلة اعضاءها من غير الطبقة السياسية ، تجمع الخبراء والاختصاصيين المتطّوعين تضع التقارير اللازمة حول الفساد امام المجلس الدستوري وليس الحكومة لتصبح نافذة .
للأسف، كل ما عملت عليه الحكومة لغاية تاريخه هو تأجيل النفقات في الموازنة الى الاعوام 2020و2021،اي تم إيقاف تمويل مشاريع استثمارية مفيدة وانتاجية تخلق فرص عمل وذلك لصالح تأمين دفع الرواتب.
وهنا ، لا أفهم ما هو التصوّر الذي تم اللجوء اليه عند إقرار سلسلة الرتب والرواتب وتطبيق الزيادات. ”
ويعتبر طبارة اننا في مأزق اقتصادي كبير بالنسبة لمحفظة سندات الخزينة بالليرة والفوائد على الدين العام التي تسجّل المزيد من التراكم وهي تتجاوز ال 100مليار فيما لا تقل خدمة الدين عن ال10مليارات دولار في السنة. ويقول :” لا يوجد اي رؤية او استراتيجية اقتصادية ل 5سنوات اقله. منذ سنة واكثر والكل منهمك في تحضير الاجواء التنفيذية لمقررات مؤتمر “سيدر” ، ولكن لغاية تاريخه لم ينفذ اي شيء على ارض الواقع”.
ودعا طبارة الى :
اولاً: الإسراع في تخفيض نسبة الفساد .
ثانياً: وضع الاقتصاد اللبناني على السكة الصحيحة .
ثالثاً: إعادة النشاط الى القطاع العقاري الذي سجل تدهوراً لافتاً باكثر من 50%؟
ويكشف طبارة عن ان كل دول العالم تبحث عن خطوات لاستقطاب رؤوس الاموال في الداخل والخارج ولإعطاء اعفاءات للقطاعات الانتاجية مثلا ً تساعد الصناعة على التطوّر كاراض مجانية وغير ذلك…
ولكن في لبنان هناك ارتجال في القرارات . وما يزيد الطين بلة اليوم الاضرابات المنفذة لاسيما اضراب موظفي مصرف لبنان الذي يشلّ حركة المقاصة الضرورية في حركة التداول وسائر الاعمال المصرفية . والغريب ان هذا النوع من الضرائب غير موجود في اي بلد في العالم ، لابل هو ممنوع إلا في لبنان.
ولم يخف طبارة تخوفه من انهيار الليرة اللبنانية رغم كل التطمينات. فالتضحم المالي سريع في الشرق الاوسط . وهذا يذكرنا بما حصل خلال التسعينات في كل من الارجنتين والبرازيل. ليس من أسس في التطمينات في مجال الاقتصاد ، بل هناك ارقام تعكس الواقع.
الجنون الاقتصادي
ماذا يعني ايضا الضرائب في القطاع المصرفي ؟
انه باختصار ، اقفال الاسواق المالية العالمية والمحلية امام الدولة في وضع تستمر فيه حاجتها للاستدانة مجدداً.
يقول رئيس جمعية المصارف في لبنان الدكتور جوزف طربية :” لا يجب ان يشعر المجتمع المالي، ومن خلاله المودعون في المصارف، او حاملي سندات الدين السيادي اللبنانية، ان البلاد مطية للشعبوية، اشارة الى الاصوات التي ترتفع بين حين وآخر، مطالبة بصورة مباشرة او غير مباشرة بجدولة الدين العام او اعادة هيكلته او ما شابه ذلك من آليات عدم التسديد عند الاستحقاق، او مخالفة القواعد المتبعة في الاسواق المالية الدولية. ان ايفاء لبنان بالتزاماته المالية هي ركن اساسي من سياسته المالية، وهو من اكدته اعلى مراتب السلطة في لبنان ومنها البيان الرسمي لوزير المالية الصادر عن اجتماع بعبدا بتاريخ 13/1/2019 والذي ورد فيه بالحرف : “إن الدولة اللبنانية ملتزمة تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً المحافظة على حقوق المودعين والمصارف وحاملي مختلف سندات الدين السيادية وذلك تقيداً بتسديد الاستحقاقات والفوائد في التواريخ المحددة لذلك من دون أي إجراء آخر”.
كلفة تمويل الاقتصاد اللبناني كبيرة والقطاع المصرفي هو اللاعب الاساسي فالمحافظة عليه من الثوابت التي لا يستهان بها .
إن هدف تحقيق الربح وتعظيمه هو أول ماتصبو اليه المصارف التجارية ولكي يحقق المصرف هذه الأرباح يتوجب عليه توظيف الأموال التي يحصل عليها من المصادر المختلفة وان يخفض نفقاته وتكاليفه لأن الأرباح هي الفرق بين الإيرادات الإجمالية والنفقات الكلية ، حيث تتكون الإيرادات الإجمالية لمصرف بشكل رئيسي من نتائج عمليات الإقراض والاستثمار التي يقومبها ، بالإضافة إلى الأرباح الرأسمالية التي تنتج عن ارتفاع القيمة السوقية لبعض أصوله. وهذا ما تقوم به المصارف في لبنان فاين الخطأ في ذلك ؟
أكّد رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس “لا تتّكلوا فوق اللزوم على المصارف اللبنانية”، مشيرًا إلى أن “إذا اهتزت المكانة المالية للمصارف اللبنانية، سيكون لها تأثيرات غير حميدة على القطاع الخاص”.
ولفت شمّاس إلى أنه “يتم نشر كلام خطير وشائعات كثيرة”، موضحًا أن “الخطر الذي يهدد القطاع المصرفي لا يأتي من العقوبات الخارجية إنما من الجنون الاقتصادي من الداخل”.
فهل يتجاوز المسؤولون مرحلة الجنون الاقتصادي بحكمة وباقل كلفة ممكنة ؟