لماذا يحتاج العالم إلى نظام نقدي أكثر عدلاً وشمولية؟

في العام 1920 إنعقد في العاصمة البلجيكية بروكسل مؤتمر لدرس سبل تمويل إعادة بناء ما هدّمته الحرب العالمية الأولى، في ضوء تراجع مخزون الدول الاوروبية من الذهب. التوصية الأهم والأولى في التاريخ التي اتفق عليها كانت الدعوة الى إنشاء مصرف مركزي في كل دولة لا يوجد فيها مصرف بعد، تكون مهمته إصدار أوراق نقدية لها قوة إبرائية قانونية، ولا يمكن لأصحابها صرف قيمتها ذهباً. فكان ذلك أول اعتراف دولي بأهمية هذه المؤسسات لقيادة مرحلة إنتقال البشرية من «النظام النقدي السلعي» حيث كان للذهب موقع الصدارة وتميز بثبات نسبي في أسعار صرف العملات، الى «النظام النقدي الورقي» الذي انتقل فيه إصدار النقد وإدارته من التلقائية الى إدارة المصارف المركزية الناشئة.

مؤتمر «بريتون وودز»

في الأول من تموز 1944 عقد مؤتمر»بريتون وودز»، عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية للبحث في اعتماد نظام نقدي ومالي عالمي، وانحصرت الاقتراحات التي عرضت على المؤتمر في ورقتين:

الاولى، قدمها البريطاني جون مينارد كينز، وتقضي بانشاء صندوق مقاصة تشارك فيه الدول بحيث يمكنها من خلاله تسوية التزاماتها بوحدة القياس المصدرة من هذا الصندوق، وانشاء مصرف مركزي دولي يدير عملة عالمية «BancOr» غير مرتبطة بدولة محددة وترتبط بها عملات الدول ضمن آليه تتضمن إعادة تقييم مستمرة لكل واحدة منها.

والثانية، قدمها المندوب الاميركي هاري دكستر وايت وتتضمن اقتراحاً، وهو الذي أخذ به، يقضي باعتماد الدولار الأميركي عملة وفاء وتسوية في الإلتزامات الدولية، على أن تحدد قيمته بنسبة معينة من الذهب كما هو الأمر بالنسبة الى كل عملات العالم، وتستبقى الاحتياطيات الذهبية الأجنبية في الولايات المتحدة الأميركية، على ان يكون للدول حرية رد ما تحوزه من دولارات الى الاخيرة ومطالبتها بما يقابلها من الذهب.

محاولات الفكاك من القيد

التطورات التي تتالت في ما بعد ترتيبات «بريتون وودز» ضغطت في اتجاه تعديل ترتيباتها وحتى التحلل منها، فكان ظهور أسواق اليورودولار في المصارف الاوروبية وتضخم حجم عملياتها نتيجة الضخ الكبير لأموال عمليات بيع روسيا ودول الشرق الاوسط للنفط والغاز باليورودولار.

المؤشر الجدي الأول على خطورة هذه الاسواق على الدولة الأميركية، ظهر عندما بادر الرئيس الفرنسي شارل ديغول الى مطالبة الادارة الاميركية بتسليم مبلغ ضخم من الدولارات في مقابل إيداع مصرف فرنسا ما يقابله ذهباً تنفيذاً لاتفاقية «بريتون وودز».

وبعدها كانت الخشية من طلبات أخرى مماثلة واستنفاد الولايات المتحدة لقسم من مواردها في حرب فيتنام، ما حمل الرئيس نيكسون على الإعلان، من جانب واحد، في 15 آب من عام 1973 عن فك ارتباط الدولار بالذهب، مطلقاً بداية ما اتفق على تسميته نظام «سعر الصرف العائم»، وباتت اسعار العملات تحدد ليس استناداً الى «السعر القانوني» المحدد لكل عملة بالنسبة للاحتياطي المقابل من الذهب بل نتيجة عمليات البيع والشراء في أسواق الصرف. وهذا الأمر أدى عملياً الى انتقال تسعير عملات غالبية الدول من الذهب الى الدولار.

فشل محاولات منافسة الدولار

وجاء التحدي الأول لريادة الدولار بعد سيادة «سعر الصرف العائم» من أوروبا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعودة الألمانيتين دولة واحدة ومن ثم اتفاق عدد من الدول الاوروبية على اعتماد عملة واحدة يصدرها مصرف مركزي موحد.

وفي حينه توقع كثير من المحللين بأن العالم سيشهد «ثنائية نقدية» بعد هذا الحدث، نظراً الى الثقل الاقتصادي لمنطقة الـيورو، لكن البعض الآخر تحفظ منذ البداية على تمكن اليورو من لعب دور عالمي منافس للدولار في عمليات الوفاء وتسوية الالتزامات الدولية، وحجتهم عدم اندماج مالية دول اليورو الأمر الذي يحول دون إصدار سندات خزانة مقوم باليورو ينافس سندات الخزانة الأميركية.

وبعدها كرت سبحة التحديات: انفجار أزمة الرهونات العقارية الاميركية عام 2008 واصابة شظاياها دولاً أوروبية عديدة مثل اليونان وقبرص وايطاليا وفرنسا والبرتغال وايسلندا… الكشف عن معوقات أخرى أمام إمكان تحول اليورو عملة عالمية أهمها هشاشة الأنظمة المالية لعدد من دوله.

ولم تنجح أيضاً تجربة دول الـ»بريكس» في إقامة نظام أو صندوق تسوية لحقوق والتزامات الأطراف المالية، توطئة للعب دور عالمي في هذا المضمار مستقل عن النفوذ الاميركي، وأحد الأسباب في ذلك هو أن اقتصاديات هذه الدول تعتمد على تصدير المواد الأولية والمنتجات الى الأسواق الخارجية، والأولى عرضة للتغيرات في الأسعار كما حصل في النفط، والثانية عرضة للتقلبات في الطلب.

اليوم كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا واتساع رقعة العقوبات المتبادلة مع الغرب هشاشة النظام النقدي الدولي، وضرورة التفكير بالدعوة الى ما يمكن تسميته بـ»بريتون وودز 2» للتوافق على تعديلات هذا النظام بدلاً من «حرب العملات» المستعرة.

فمؤتمر «بريتون وودز» عام 1944 لم يكن دولياً بكل معنى الكلمة، فالمشاركون الأساسيون كانوا فقط دولتين، هما الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا. أما روسيا (الناطقة باسم الاتحاد السوفياتي) فقد شاركت كمراقب متوجسة منه كـ»أداة خبيثة» مبتكرة من الرأسمالية، كذلك كان موقف الصين. أما مندوب فرنسا فكان تخوفه من عملة «AMGOT» جديدة مبتكرة من قبل الولايات المتحدة الاميركية على غرار ما حاولت فعله عشية التحضير للانزال على شواطئ النورماندي، بتجهيز حاويات من العملة المذكورة لترويجها بين الفرنسيين. ولم تتمثل في هذا المؤتمر دول المحور المنهزمة: المانيا والنمسا وإيطاليا وتركيا واسبانيا واليابان.

النتيجة التي تمخض عنها المؤتمر كانت تنصيب الدولار عملة عالمية للدفع وللمقاصة. وهو أمر أزعج روسيا والصين اللتين ما انفكتا تجهدان لإنزال الدولار عن عرشه وقد ساهم مرض كينز أثناء المؤتمر في إضعاف عزمه بدعم مشروعه.

عملة واحدة وحقوق الإنسان

وكان إرساء قواعد إصدار عملة عالمية دغدغ حلم قادة كبار في مقدمهم قداسة البابا الراحل جان بول 2، الذي ذكر في معرض تقييمه للنظام الرأسمالي، أن الاخير يتضمن انحرافات بعضها أشد خطورة مما كان سائداً في المجتمع الشيوعي، في مقدمها النظام النقدي. وكان رأيه بأولوية العمل لإخراج نظام عادل للنقد تسوى به الحقوق والالتزامات.

حاكم «البوندسبنك» (البنك المركزي الألماني) من 1980 حتى 1991 الدكتور كارل أوتوبول كان أكثر وضوحاً، فقد دعا الى تعديل شرعة حقوق الإنسان، وإضافة حق الإنسان باستقرار النقد اليها، مع ما يستتبع ذلك من دعوة لنظام نقدي يحقق الاستقرار المنشود.

دور لبنك التسويات الدولية

وهذا الهدف يمكن تحقيقه بتطوير إطار عمل بنك التسويات الدولية (BIS) الذي انشئ في البدء عام 1930، بهدف مواكبة دفع المانيا لالتزاماتها ما بعد الحرب العالمية الاولى، ولاحقاً جهد الاميركيون لإلغائه بعد استنفاده أهدافه، وهذا أمر حال دونه رأي راجح يرى في تكليفه بدور مصرف المصارف المركزية يرفدها بتوجيهات مثلى لتحقيقها مهماتها، كما يقوم بتسوية عملياتها المالية في ما بينها من خلال ميزانيته وتعاملاته التي ينظمها بحقوق السحب الخاصة.

تتعاظم الحاجة اليوم للدعوة الى «بريتون وودز 2» لمناقشة إمكان استصدار قرار دولي يتبنى فكرة تكليف بنك التسويات الدولية إصدار عملة نقدية عالمية «BancOr»، تستند لا الى عملات مكونة لها بحسب اقتراح كينز، بل في صورة أساسية الى الذهب الذي تحول اليه الدول والهيئات التي تنوي المشاركة باطلاق العملة الجديدة، ما يكسب الأخيرة استقراراً راسخاً يصب في مصلحة جميع الدول.

مصدرنداء الوطن - توفيق شمبور
المادة السابقةمسوّدة مشروع قانون الكابيتال كونترول
المقالة القادمةإنتشار إستهلاك البيض النباتي في أميركا