أيّهما وقعه أهمّ وأقوى على سعر صرف الدولار: ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل الذي تحدّث عنه العالم بأسره؟ أم تشكيل حكومة “معوّمة” أثبتت ضعفها وعجزها عن إحراز أيّ تقدّم يُذكر؟
الجواب المنطقي والسريع على هذا السؤال هو الخيار الأول طبعاً. لكن على الرغم من ذلك، وعلى الرغم من الاحتفاء على مدى الأيام الماضية بـ”الانتصار الكبير”، لم يتزحزح سعر الصرف ولو 1,000 ليرة هبوطاً (ما يعادل 40 ليرة على حسابات السعر الرسمي قبل الأزمة)، بل بقي يتأرجح بين عتبة 39,500 للمبيع، ويلامس سقف 40,000 للشراء، لكن بخجل ومن دون أن يطاله.
إنّ تعويل الصرّافين، وبعض “المغامرين” بما يكتنزونه من دولارات، على “الانهيار الكبير” لسعر الصرف بُني على هذين العاملين. مرّ العامل الأوّل بلا أيّ تأثير، فيما يبدو أنّ العامل الثاني سيمرّ أيضاً مرور الكرام على سعر الصرف مع قرب تشكيل حكومةٍ باتت “على نار حامية” نتيجة الضغوط التي يمارسها الحزب على “حلفائه”، وذلك بحسب مطّلعين يحسمون أنّ الترسيم كما تشكيل الحكومة واقعان لا محالة قبل نهاية العهد وقعَ “القضاء والقدر”، بينما التأثير المباشر على سعر الصرف إلى الآن صفر.
ما لا يعرفه هؤلاء المغامرون، أو ربّما يعرفونه ويرفضون الاعتراف به، هو أنّ الهبوط الذي يتصوّرونه يحتاج إلى “باقة” من الظروف ما زالت حتى اللحظة غير متوافرة، وهي على الشكل التالي:
– أولاً، هبوط سعر صرف الدولار يحتاج إلى وفرة دولارات بيد المصرف المركزي تحديداً وخصوصاً، فيما الأخير يئنّ من شحّها في خزائنه. وفي هذا الصدد تشير آخر الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان إلى أنّ حجم احتياطات “المركزي” من العملات الأجنبية انخفض منذ بداية السنة الحالية حتى نهاية شهر أيلول إلى 9.9 مليارات بعدما كانت 12.8 مليار دولار، أي خسر المصرف المركزي ما قيمته 2.9 مليار من احتياطاته في غضون 9 أشهر فقط، وهو بالمناسبة رقم قريب جدّاً ممّا يعدنا به صندوق النقد الدولي في حال التزمنا مندرجات الاتفاق والشروط التي يرسمها لحالتنا المستعصية.
– ثانياً، القول إنّ الاقتصاد اللبناني يشوبه شحّ في الدولارات هو قول خاطىء وغير دقيق. بينما الصحيح هو أنّ الشحّ في الدولارات “الكاش” يصيب مصرف لبنان والمصارف حصراً، وذلك بخلاف المؤسسات التجارية والمواطنين اللبنانيين. ويمكن الاستدلال على ذلك عبر مقاربة بسيطة: تشير الأرقام الصادرة عن البنك الدولي إلى انكماش الاقتصاد اللبناني حتى العام 2021 إلى حدود 21 مليار دولار، في حين أنّ حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية الموجودة في السوق حتى نهاية شهر أيلول كانت نحو 74 تريليون ليرة لبنانية بحسب ما تُظهر أرقام مصرف لبنان، أي تعادل بسعر صرف الدولار اليوم 1.8 مليار دولار فقط. وهذا يعني أنّ الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية تغطّي نحو 8.5% من حجم الاقتصاد اللبناني، بينما الـ91.5% المتبقّية هي بالدولارات “الفريش”، ولا سلطان للمصرف المركزي عليها. هذا بدوره يعني أنّ اقتصادنا في لبنان بات “مدولراً” بعد 3 سنوات من الأزمة بما يقترب من 100%، وأنّ الدولارات الموجودة داخل الدورة الاقتصادية اللبنانية تقع ضمن نطاق القطاع الخاص، وهي الدولارات “الكاش” التي تفيض بها خزائن اللبنانيين بمختلف أعمالهم، وذلك بخلاف خزينة الدولة وخزائن المصارف. يدلّ هذا على أنّ الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، المقدّرة بنحو 1.8 مليار دولار، ما عادت تغطّي إنتاجية الاقتصاد على الإطلاق، وهو ما يفسّر ثبات أسعار السلع على الدولار، وارتفاع أسعار السلع نفسها بشكل مطّرد ومتواصل بالليرة اللبنانية.
– ثالثاً، هبوط سعر صرف الدولار لن يحصل أبداً في حضرة “السوق السوداء”، وغياب القطاع المصرفي. بمعنى آخر مبسّط، لن يأخذ سعر صرف الدولار مستوياته المعقولة ما لم “يُحرَّر ويوحَّد” أوّلاً، ويقتنع حَمَلَة الدولار من اللبنانيين وغير اللبنانيين بسحر ساحر بإعادة هذا الفائض لديهم إلى خزائن المصارف. بمعنى أدقّ وأوضح، إن لم يتمكّن أيّ مواطن من شراء الدولارات أو بيعها داخل المصارف مباشرة، وليس على شبابيك الصرّافين، فلن يهبط سعر صرف الدولار أبداً. بل على العكس، سيواصل الارتفاع أكثر وأكثر، وفق المنحنى البياني الذي يشير إلى ارتفاعٍ سنويّ بات معدّله نحو 20 ألف ليرة. وبالتالي فإنّ أيّ انخفاض يسجّله سعر الصرف نتيجة “طارىء” سياسي، مثل ترسيم حدود أو تشكيل حكومة، سيكون ظرفيّاً ومحدوداً جدّاً، وسيعود سعر الصرف بعده إلى الارتفاع.
في المحصّلة، ما دام “الأسود” هو اللون المهمين على سوق الدولار، وما دام المصرف المركزي يلجأ إلى السوق السوداء للحصول على الدولارات، فلا طائل من البحث عن أيّ سبل لوقف تحليق سعر صرف الدولار. خصوصاً أنّ مصرف لبنان بات جهة خاضعة لهذه السوق، يمدّ يده إليها مستفيداً من امتياز يتيم لا يملك سواه، وهو أنّه المصدر الوحيد للّيرات اللبنانية “الشحيحة” نسبة إلى حجم الاقتصاد مثلما ذكرنا.
هذا الشحّ المتعمَّد هو “العصا السحرية” التي تمكِّن “المركزي” من الإمساك بمفاتيح اللعبة المؤقّتة، لكن بأثمان باهظة على القدرة الشرائية وعلى التضخّم، من أجل الحصول على دولارات القطاع الخاص وشفطها من بين أيدي الناس وضخّها في شرايين القطاع العامّ وإدارات الدولة…