كما كان متوقّعًا، لم يصادق مجلس الوزراء يوم الأربعاء الماضي على مرسوم مشروع القانون المتعلّق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي، أو المتعلّق “بإصلاح وضع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها”، وفقًا للعنوان المُلطّف الذي حملته آخر المسودّات. المنتظر حاليًا، هو إعادة طرح المسودّة من جديد على طاولة مجلس الوزراء، في جلسة مخصّصة لهذا الأمر يوم الثلاثاء المقبل، بعد أن يكون الوزراء قد اطلعوا على تفاصيل المسودّة. وخلال المناقشة المحدودة التي جرت في آخر الجلسات، كان من الواضح أنّ الاعتراضات جاءت من ثلاث جهات: جمعيّة المصارف التي أطلقت النار على فكرة إعادة الهيكلة نفسها، ووزير المهجّرين عصام شرف الدين الذي تماهى مع رؤية جمعيّة المصارف، بالإضافة إلى حزب الله الذي قدّم ملاحظات تقنيّة لا تمس بجوهر القانون أو أهدافه.
حتّى هذه اللحظة، لم يتّضح ما إذا كانت رسالة رئيس جمعيّة المصارف سليم صفير –الموجّهة إلى رئيس الحكومة- تعبّر بالفعل عن موقف القطاع من فكرة مشروع القانون. كما لم يتّضح ما إذا كان مضمون الرسالة يمثّل سقفًا مرتفعًا سيتم التراجع عنه لاحقًا، أو إذا ما كان يمثّل بالفعل الموقف النهائي الذي ستتمسّك به الجمعيّة خلال المرحلة المقبلة. لكنّ الأكيد حاليًا أنّ مضمون الرسالة يمثّل نكرانًا للواقع، فيما ستمثّل المواقف التي تحتويها عقبة أمام أي مشروع حل مالي في المستقبل. ببساطة، نحن أمام مصارف تقول بالحرف الواحد أنّها “ليست بحاجة إلى إصلاح”، كما تشير الرسالة بالحرف الواحد.
رسالة جمعيّة المصارف
كلمات معدودة، في رسالة رئيس جمعيّة المصارف لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، قبل أيّام من مناقشة المسودّة، كانت كافية لتلخيص موقف الجمعيّة من أصل فكرة إعادة الهيكلة. فالمصارف، كما تقول الرسالة، “ليست بحاجة إلى إصلاح، بل بحاجة إلى إعادة الدولة ومصرف لبنان” إلتزاماتهما. أقصى ما يمكن أن تقدّمه المصارف في هذا المسار، هو معرفة إمكانات الدولة، والتعاون (؟) لإعادة تفعيل القطاع المصرفي. بمعنى أوضح، أكثر ما نتوقّعه من المصارف هنا، هو صبرها وحلمها، بانتظار تسديد الدولة ومصرف لبنان الخسائر، التي لن يساهم أصحاب المصارف (التي لا تحتاج إلى إصلاح) بتحمّلها. لأن المصارف لا تحتاج إلى إصلاح، فلا يُعقل بحسب الرسالة “وضعها تحت مقصلة هيئة خاصّة تقرّر مصيرها منفردة”.
بالتأكيد، لا يحتوي هذا التشخيص، في الرسالة التي اقتصرت على صفحتين، على أي تعمّق أو فهم لتفاصيل أزمة القطاع. فهو يتجاهل حتمًا أنّ المصارف مسؤولة وحدها عن نحو 13 مليار دولار من الخسائر، التي لا ترتبط بأي شكل بتوظيفاتها لدى مصرف لبنان والدولة اللبنانيّة، بل بفجوة موجودة داخل ميزانيّاتها وحدها. وهو يتجاهل أنّ ما يعتبره إلتزامات على مصرف لبنان، هي في الواقع خسائر نتجت عن تداولات المصرف المركزي مع المصارف، بما أفضى في بعض العمليّات إلى تراكم كتلة من الأرباح التي استفاد منها كبار النافذين في القطاع المصرفي (كحال الهندسات الماليّة). وهذا تحديدًا ما يفرض اليوم البحث عن كيفيّة تراكم هذه الخسائر، وتحميل المساهمين في القطاع نصيبهم من الخسائر، تمامًا كما قضموا نصيبهم من أرباح العمليّات التي أفضت إلى الأزمة.
الجهة التي تحتج الرسالة على وجودها كمقصلة تحدد مصير المصارف، وهي الهيئة المختصّة بحسب مسودّة مشروع القانون، ليست سوى الهيئة المصرفيّة العليا، التي يعطيها أصلًا القانون حاليًا هذه الصلاحيّة. ما ينص عليه القانون الجديد، هو بعض التعديلات في تركيبتها، للحؤول دون تضارب المصالح، ناهيك عن تحديد مسار لتحديد المصارف القادرة على الاستمرار في ظل الأزمة النظاميّة التي تشمل القطاع ككل. وعلى أي حال، إذا كان هناك من إشكاليّة في كل هذا المسار، فهو أنّه ترك المجال أمام احتفاظ مجالس إدارات المصارف بسيطرتهم على القطاع، بوصفهم قائمين على مصارف زومبي، وليس في أصل وجود الهيئة المختصّة.
بعيدًا عن المناورات، توضح الرسالة في مقطع آخر الهدف الفعلي من التحفّظ على فكرة القانون، وهي رفض تحميل كبار المساهمين في المصارف وأعضاء مجالس الإدارة والإدارة العليا “مسؤوليّة الأزمة”، المرتبطة -بحسب تشخيص المصارف السطحي- بتخلّف الدولة عن سداد ديونها. وهذا التشخيص يتجاهل حتمًا حقيقة أنّ الدولة لم تتخلّف عن سداد إلتزاماتها لأوّل مرّة إلا في آذار 2020، أي بعد أشهر من توقّف القطاع المصرفي عن توفير السحوبات والتحويلات للمودعين.
على النحو نفسه، جاءت رسالة وزير المهجّرين عصام شرف الدين لرئيس الحكومة وسائر الوزراء، لتتماثل مع منطق رسالة جمعيّة المصارف، معتبرًا أن المطروح هو مشروع إفلاس للمصارف وليس إعادة هيكلة. إذ عادت الرسالة لتسأل أولًا عن موجبات الدولة اللبنانيّة أولًا في إعادة الودائع، ما يضع الوزير –الذي يفترض أن يمثّل السلطة التنفيذيّة- في موقع مواجه لمصالح الدولة اللبنانيّة، بدل أن يمثّل المصلحة العامّة كما يفرض موقعه الوزاري.
وفي جميع الحالات، جاءت ملاحظات نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي داخل الجلسة الأخيرة نفسها، لتصوّب للوزير وتوضح أنّ المصارف “هي مفلسة بالفعل”، والقانون يفترض أن يفضي إلى إنعاشها لا العكس. أمّا معالجة مسألة الودائع، فيفترض أن يعالجها مشروع قانون التوازن المالي، لا قانون إعادة الهيكلة، الذي تقتصر مفاعليه على الجانب التنظيمي ووضع آليّات لتقييم المصارف وتحديد كيفيّة التعامل معها.
ملاحظات حزب الله
على المقلب الآخر، ظلّت ملاحظات حزب الله عند حدود المقترحات التقنيّة، من دون أن تنسف أصل الفكرة أو المسار. إذ يقترح الحزب مثلًا إناطة مهمّة الإشراف على إعادة الهيكلة بهيئة مستقّلة وجديدة، بدل أن تقتصر مفاعيل القوانين على تعديل تركيبة الهيئة المصرفيّة العليا واعتبارها لجنة مختصّة بإدارة المسار. بهذا الشكل، تكون هيئة إعادة الهيكلة كيان موسّع يملك الشخصيّة الاعتباريّة، لا مجرّد لجنة تبت بمقترحات لجنة الرقابة على المصارف. كما يطلب الحزب ربط تمويل الهيئة بالدولة اللبنانيّة لا مصرف لبنان، حرصًا على استقلالها عن إدارة المصرف المركزي خلال فترة إعادة الهيكلة. وطلب الحزب ربط عمليّة تقييم أصول المصارف بسعر صرف الدولار السوقي والواقعي، بدل أن يُترك لمصرف لبنان تحديد سعر الصرف. أمّا في حال تحديد مدير مؤقّت لأي مصرف، فلا يجب أن يتم اختيار المدير من مساهمي المصرف، أو من المدراء الذين تولّوا مناصب فيه خلال السنوات الخمس الماضية.
في خلاصة الأمر، من المفترض أن يبت مجلس الوزراء في جلسة يوم الثلاثاء المقبل في مصير مشروع القانون، بعد أن تتم مراجعة المسودّة المطروحة حتّى ذلك الوقت. الأكيد حتّى اللحظة، هو أن المجلس سيكون قادرًا على تبنّي بعض المقترحات التي قدّمها الوزير إبراهيم بيرم، الذي يمثّل حزب الله داخل الحكومة، خصوصًا أن الكثير من هذه المقترحات قد لا تمس أصل القانون أو جوهره. أمّا الحرص على أولويّات جمعيّة المصارف، كما تم تقديمها في رسالة رئيسها، فيفرض الإطاحة بالمسودّة كاملة، كون الرسالة تفرض أصلًا معايير إعادة الهيكلة المطروحة، أو ربما الحاجة إلى إعادة الهيكلة نفسها.
أي بصريح العبارة: مصالح بعض المصرفيين، لا تنسجم مع متطلّبات الحل لأزمة القطاع.