تختلف وجهات النظر حول كيفيّة تقييم نتائج اجتماعات الربيع، التي نظّمها البنك الدولي وصندوق النقد في واشنطن، والتي شارك فيها لبنان بوفد مالي واقتصادي رفيع. إذ يعتمد تقييم كل شخص لنتائج الاجتماعات على الزاوية التي ينظر منها، والتي يقيّم على أساسها ما إذا كانت النتائج “إيجابيّة” أم لا. فكما هو معلوم، تشهد الساحة اللبنانيّة حاليًا اشتباكًا إعلاميًا وسياسيًا حاميًا، بخصوص عدّة ملفّات ماليّة ترتبط بمسار التعافي المالي. وتعارض المصالح يفضي إلى تعارض كبير في كيفيّة تقييم أثر الضغط الخارجي، وخصوصًا من جهة صندوق النقد، صاحب الوصفة التي تتبنّاها معظم الدول المانحة –حتى في ملف إعادة الإعمار– كشرط قبل تقديم المساعدات.
الأكيد حتّى اللحظة، هو أنّ المسارات الإصلاحيّة، المرتبطة بالوضع المصرفي والمالي، تلقّت زخمًا كبيرًا بفضل هذه الاجتماعات، وهو ما تجلّى في طريقة إقرار قانون رفع السريّة المصرفيّة، ثم من خلال الدعوة لبدء مناقشة مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف بمجرّد عودة رئيس لجنة المال والموازنة من واشنطن. لا شيء من كل هذه التطوّرات يسرّ خاطر ما بات يُعرف محليًا بـ “اللوبي المصرفي”، أي تحديدًا أصحاب المصارف الأكثر مشاكسة، والأكثر تدخلًا في الشأنين السياسي والإعلامي لعرقلة هذه الإصلاحات أو تفخيخها. ومن يتابع خطاب هذا اللوبي، المسيطر عمليًا على قرار جمعيّة المصارف، يستطيع تلمّس القلق المتصاعد خلال الأيّام الماضية.
زخم إصلاحي مستجد
كثيرٌ مما جرى في بيروت، كان يعكس كمرآة وقائع ونتائج اجتماعات واشنطن. بموازاة اجتماعات واشنطن، لم يكتفِ البرلمان اللبناني بإقرار قانون رفع السريّة المصرفيّة، بل حرصت الهيئة العامّة على إضافة تعديلات لم يكن متوقعاً إقرارها في الصيغة النهائيّة للقانون: إعطاء صلاحيّة رفع السريّة لشركات التدقيق بناءً على تفويض مصرف لبنان أو لجنة الرقابة على المصارف، وتخصيص صلاحيّة تطبيق القانون عبر مراسيم يصدرها مجلس الوزراء مجتمعاً، بدل حصر الصلاحيّة بقرارات وزير الماليّة، ما يمنع التساهل في تفخيخ الجانب التطبيقي من القانون. الضغط الخارجي كان واضحًا في طريقة إقرار القانون، من دون ألاعيب تشبه ما جرى عام 2022، حين جرى تفخيخ القانون بمكائد ماكرة ومتعمّدة.
وحملت طريقة إصدار القانون دلالات لا يمكن تجاهلها: حرص رئيس المجلس النيابي على ختم محاضر الجلسة الصباحيّة، قبل استكمال الجلسة المسائيّة بمحاضر منفصلة. وذلك للسماح بإرسال مشروع القانون لرئيس الحكومة، الذي وقّعه في اليوم نفسه، قبل أن يوقّعه ويصدره مساءً رئيس الجمهوريّة. لم يضيّع الرؤساء الثلاثة يومًا واحدًا، قبل إصدار القانون. وهذا ما جعل قانون رفع السريّة المصرفيّة القانون الأسرع في تاريخ الجمهوريّة، لجهة كيفيّة مناقشته برلمانيًا ثم توقيعه ثم إصداره ونشره في الجريدة الرسميّة. ومن يعلم تاريخ المعارك التي خيضت منذ العام 2020 للتحايل والحؤول دون إقرار قانون كهذا، يدرك أبعاد تسهيل مرور القانون بما يشبه “الخط العسكري” الآن.
ولإصدار القانون بهذه السرعة مفاعيل تتجاوز الجانب الرمزي أو المعنوي. فالقانون ينص على مفعول رجعي لرفع السريّة، يمتد إلى عشر سنوات، أي ما يطال عمليّات العام 2015 الذي شهد بداية عمليّات الهندسات الماليّة. واحتساب أثر المفعول الرجعي، يبدأ من تاريخ الإصدار، أي من تاريخ توقيعه من رئيس الجمهوريّة. وبذلك، كانت سرعة إصدار القانون تعني عدم خسارة أي يوم إضافي من الأيّام التي يغطّيها المفعول الرجعي للقانون، من العام 2015. ومجددًا، كانت مسألة المفعول الرجعي تحديدًا موضوع معارك ساخنة، داخل المجلس النيابي وفي الفضاء الإعلامي، نظرًا لحساسيّة العودة بالزمن إلى الوراء والتدقيق في ارتكابات المرحلة السابقة.
بمجرّد عودة الوفد اللبناني إلى بيروت، دعا رئيس لجنة المال والموازنة لجنته النيابيّة للاجتماع غدًا الأربعاء لمناقشة مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، بعدما أنجزت الحكومة –قبل سفر الوفد- مشروع القانون وأحالته إلى البرلمان. وكانت سرعة الدعوة إلى الجلسة غدًا إشارة إضافيّة تعكس الزخم المستجد، خصوصًا أن القانون واجه محاولات مستميتة من قبل اللوبي المصرفي لعرقلة مناقشته. ومن المعلوم أن هذا اللوبي بات متحسّسًا من قدر الصلاحيّات التي ستُمنح للجنة الرقابة على المصارف، في إطار هذا القانون، ومن فكرة إبعاد جمعيّة المصارف عن التمثيل داخل الهيئة المصرفيّة العليا، التي ستبت بأمر المصارف المتعثّرة وتحسم إمكانيّة تصفيتها أو خضوعها لعمليّة “إصلاح الوضع”.
قلق المصارف
بات معلومًا أن صندوق النقد حدّد ثلاثة مسارات لا يمكن التغاضي عنها قبل توقيع الاتفاق النهائي مع لبنان: رفع السريّة المصرفيّة، وقانون إصلاح أوضاع المصارف، وقانون الانتظام المالي (معالجة الفجوة). وأصبح الاتفاق مع الصندوق لازمًا قبل الانتقال إلى مؤتمر المانحين، المخصّص لإعادة الإعمار، وقبل الشروع بالتفاوض مع الدائنين الأجانب على إعادة هيكلة الدين العام. مع الإشارة إلى أنّ الصندوق وضع كذلك شروطًا ترتبط بموازنة العام المقبل، وإجراءات التحصيل الضريبي في وزارة الماليّة، غير أنّ القيام بهذه الخطوات بات مرتبطًا بمسارات تفصيليّة يجري العمل عليها في وزارة الماليّة. وهذا الكلام، هو خلاصة ما سمعته الوفود اللبنانيّة في واشنطن.
في لبنان، استشعر اللوبي المصرفي قسوة هذه الضغط. وهذا ما انعكس في اشتداد الحملات الإعلاميّة التي تحاول التصويب على هذه المسارات الإصلاحيّة: ضد رفع السريّة المصرفيّة، وضد المفعول الرجعي لرفع السريّة. وكذلك ضد توسيع صلاحيّات لجنة الرقابة على المصارف، وإخراج جمعيّة المصارف من الهيئة المصرفيّة العليا. كلما ازداد الضغط الخارجي، سعى هذا اللوبي إلى فرض ضغوط إعلاميّة وسياسيّة أقسى لدفع مجريات الأمور بالاتجاه المعاكس. وكجزء من هذه الضغوط، تستمر الحملات ضد الخطاب المحلّي الذي يحمل أبعادًا إصلاحيّة، والقادر على كشف مناورات هذا اللوبي في الحياة السياسيّة والإعلاميّة اللبنانيّة.
في افتتاحيّة نشرة جمعيّة المصارف هذا الأسبوع، التي يكتبها الأمين العام للجمعيّة فادي خلف، ما يعكس هذا القلق المتنامي. عادت الجمعيّة لتعداد أولوياتها بالنسبة لمعالجة الشأن المصرفي، والتي ركّزت على عناوين مثل: خلق أدوات ماليّة مرنة قابلة للتداول، مع آليّة لتعويض المودعين “تدريجيًا”، من إمكانات مصرف لبنان وعائدات الدولة الحاليّة والمستقبليّة. وبهذا الشكل، ما زالت جمعيّة المصارف متمسّكة بالفكرة التي طرحتها منذ العام 2020، والتي تقوم على إصدار سندات دين تستحق على الدولة اللبنانيّة، لتعويض المودعين، ما يعني تحويل الودائع إلى ديون عامّة. في هذا الطرح، ما يطيح عمليًا بحقوق المودعين، الذين يعلمون ضآلة قدرة الدولة على سداد ديون بهذا الحجم. لكنّه الطرح الوحيد الذي يعيد التوازن إلى الميزانيّات المصرفيّة، من دون تحميل أصحاب المصارف نصيبهم من الخسائر.