كَسَرَت مشاهد المياه التي اجتاحت مطار بيروت، نمطية الصورة المرافقة لموسم الأمطار في لبنان. ففي هذه الفترة من السنة، لا يستغرب اللبنانيون إغلاق المياه الفائضة للطرقات والأنفاق. لكن أن تتدفّق المياه إلى موقف السيارات في المطار وإلى الطريق الرئيسي لقاعة الوصول، وتتابع سيرها إلى داخل القاعة وتغمر الأرضية وتصل إلى المقاهي.. فهذه صورة عجيبة لمطارٍ في عاصمة.
بالتوازي مع هذا المشهد، يسجّل المطار حركة ركّاب نشطة. هُم في الغالب مغتربون لبنانيون يريدون قضاء عطلة عيديّ الميلاد ورأس السنة وسط أهلهم وأصدقائهم. وهؤلاء ليسوا سيّاحاً، لكنّ المؤسسات السياحية تعتمد عليهم لتحقيق أرباح في هذا الموسم. وعلى ضوء هذه المعطيات، يتحوَّل لبنان ومطاره وسياحته إلى سلسلة تناقضات تصل بمأساويّتها إلى حدّ الضحك.
المغتربون يواصلون العودة
بعد تراجع حركة المطار إثر مخاوف امتداد تبعات الحرب على غزة إلى الداخل اللبناني، شجّعَ اقتراب عيديّ الميلاد ورأس السنة تنشيط الحركة، فزادت شركة طيران الشرق الأوسط عدد رحلاتها بعد أن قلّصتها وسحبت جزءاً من أسطولها من لبنان، وبدأت بعض الشركات الأجنبية تسيير رحلاتها إلى بيروت، فاستعاد المطار كثيراً من رّكابه وصولاً إلى تسجيل وصول نحو 8 آلاف راكب يومياً، ومن المتوقّع ارتفاع العدد إلى نحو 12 ألف راكب، مع الاقتراب من الفترة الممتدة بين 22 و29 كانون الأول.
واللافت للنظر أن فيضان المياه إلى داخل المطار، لم يؤثّر على حركة الركاب رغم امتعاض الواصلين من مشهد المياه التي اجتاحت قاعة الوصول ومداخلها حيث وقفت السيارات وسط المياه التي منعت وصول الناس إليها بسهولة. وتقول مصادر في مطار بيروت أنه “من المؤكّد أن لا تؤثّر هذه الحادثة رغم صعوبتها، على وصول المسافرين، سيّما وأنها حصلت فجأة وليس هناك ما يمكن فعله سوى انتظار سحب المياه. فعودة المغتربين عبارة عن قرار يتّخذونه مسبقاً بغضّ النظر عن المفاجآت الطارىء، فهُم يعرفون بلدهم وأحواله، وطالما أن الأوضاع مستقرّة من الناحية الأمنية، فإن المغتربين سيواصلون قدومهم”.
وتشير المصادر في حديث لـ”المدن”، إلى أن “مثل هذه الحوادث، وإن لم تكن العامل الأساس، إلا أنها قد تقدّم حجة جديدة للسيّاح العرب والأجانب لعدم التوجّه إلى لبنان، وهم الذين غضّوا الطرف عن زيارة لبنان لأسباب كثيرة في مقدّمتها الأسباب السياسية”. وتربط المصادر بين حادثة اجتياح المياه للمطار، بأحوال البلاد العامة. “فلوّ أن الحادثة حصلت في سنوات سابقة للأزمة الاقتصادية والسياسية، لكان وَقعها أخفّ ممّا كان عليه اليوم. ومع أن المديرية العامة للطيران المدني أوضحت يوم أمس أن السبب هو كمية الأمطار غير المسبوقة التي تساقطت فوق المطار، إلاّ أن النظرة العامة لفشل الدولة وإداراتها في التخطيط والاستباق وتوقُّع الأزمات، يحيل إلى تبرئة الطبيعة وتحميل المسؤولية للدولة والجهات والشركات التي تتعهَّد الأشغال العامة وتصميم وتنفيذ المشاريع، سواء في المطار أو غيره”.
مطارٌ بمعضلة هندسية
قلّلت المديرية العامة للطيران المدني من أهمية ما حصل يوم أمس، طالما أنه من فعل الطبيعة. فبحسب المديرية، هطلت “كميات امطار طوفانية غير مسبوقة مترافقة بتساقط كثيف لحبات البرد المتوسطة الحجم، حيث بلغت كمية الأمطار المتراكمة ضمن محيط مطار رفيق الحريري الدولي-بيروت خلال نصف ساعة من الوقت 53 ملم، أي ما يعادل 10 أيام من معدل شهر كامل، من ضمنها 42 ملم هطلت خلال 20 دقيقة، وكذلك تجاوزت سماكة كميات البرد 20 سم في محيط مبنى محطة الركاب جهة مواقف السيارات”.
نفت المديرية أن يكون انسداد مجاري التصريف هو سبب الفيضان، إذ “بعد مراجعة الاستشاري دار الهندسة وشركة MEAS الملتزمة أعمال الصيانة، تبيَّن أن مجاري التصريف ومضخات مياه الأمطار تعمل بشكل طبيعي، وانما تخطت كميات الأمطار الهائلة وغير المسبوقة خلال وقت قصير جداً، القدرة الاستيعابية لتلك المجاري والمضخات”.
التبرير لم يُقنِع الخبير الهيدروجيولوجي سمير زعاطيطي الذي يقول أن “المطار يحتوي على محطة مناخية تقيس معدلات الأمطار، وسجّلت المحطة سابقاً هطول كميات هائلة من الأمطار في بيروت، ولذلك، فإن مستوى المتساقطات التي انهمرت أمس لم تكن مفاجئة”. ويذهب زعاطيطي أبعد من مشكلة عدم تجهيز المطار بمجاري تصريف كبيرة قادرة على استيعاب المياه، فتعتبر أن “المخطّط الهندسي للمطار خاطىء، وهو مبني ضمن أرضٍ منخفضة تجذب المياه إليها. ولمزيد من المصاعب، أحيطَ المطار بالإسمنت والزفت بكميات كبيرة ولم يترك مهندسوه مساحات طبيعية كافية تسمح للأرض بامتصاص المياه”. ويجزم زعاطيطي أن الأخطاء الهندسية وقعت بسبب “عدم إعارة الاهتمام لجيولوجيا المنطقة التي شيّد عليها المطار، ليأتي الإهمال المتعلّق في عدم صيانة مجاري التصريف بالشكل المطلوب، ليزيد الوضع سوءاً”. ويستغرب زعاطيطي “كيف يضع المسؤولون عن المطار اللوم على الطبيعة، في حين يجب عليهم هُم التأقلم مع الطبيعة وليس العكس. فعلى أقل تقدير، كان يفترض بمهندسي إنشاء المطار، إجراء دراسة هيدرولوجية، أي دراسة المياه السطحية، ليعرفوا كيف سيكون الوضع مستقبلاً، بناءً على حجم المتساقطات وكيفية امتصاص الأرض لها وكيف تجري المياه من السطح إلى الباطن، وبناءً على تلك الدراسة، يمكن لمصمم المطار أن يعرف كيف يوسِّع المساحات ويزيد المساحات الخضراء والمفتوحة”.
فاض المطار مياهاً وركّاباً قُبَيلَ موسم الأعياد. لكن ذلك ذكَّرَ اللبنانيين بنهج مشاريع الطرقات والجسور والسدود والأبنية. فمبنى المنصورية الشهير، سقط على سكّانه بسبب حبس المياه داخل أساساته بفعل خطأ هندسي لم يراعِ مسار المياه. أما الجسور والطرقات، فتُبنى وتُشَقُّ وفق حسابات الربح والخسارة الماديان، وليس المصلحة العامة والعِلم. ناهيك بالسدود التي لم تجمع المياه بسبب طبيعة الصخور التي لا تحبس المياه على سطحها بل تشربه إلى جوفها. وعلى هذا النحو، من غير المستبعد أن يتكرّر دخول المياه إلى المطار لأن أرضه عبارة عن مسار طبيعي للمياه. ومع ذلك، لن يتوقَّف تدفّق المغتربين عبر هذا المطار الذي يشكِّل البوابة الوحيدة لهذا البلد.