قُضي الأمر. التسعير في السوبر ماركت بالدولار الأميركي. كل السلع سيتمّ عرضها على الرفوف بالدولار، إنما سيتاح الدفع بالليرة على شبابيك المحاسبة بدءاً من الأسبوع المقبل. قرار ينظر إليه المستهلكون بعين مزدوجة من الرضى والنقمة. الرضى لمن يعيشون في حالة التكيّف، والنقمة يعتمرها الفقراء في قلوبهم وعلى ألسنتهم.
قد لا يكون غريباً أن يرحّب جابر، الموظف في القطاع الخاص، بدولرة السلع الغذائية، فهو يتقاضى راتبه بالدولار، وملّ التنقّل بين صرّاف وآخر بحثاً عن «نقطة أعلى» لتصريف دولاراته إلى ليرات لشراء حاجاته من السوبر ماركت. لكن اللافت «رحابة الصدر» التي يظهرها أحد موظفي القطاع العام الذين تحمّلوا العبء الأكبر من مفاعيل انهيار الليرة على القوّة الشرائية. فرغم أنه قلّص سلّته الغذائية وألغى منها جبنة القشقوان ومرتديلا الحبش والسكاكر والمكسرات، وخفض وجبات اللحوم الأسبوعية إلى واحدة مقارنة بـ 3 سابقاً، إلّا أنه يرى في التسعير بالدولار خلاصاً من التقلّبات اليومية في الأسعار ومن تلاعب التجّار بها.
تشريع إعلان السعر بالدولار على الرفوف، هو واحد من الأساليب التي اعتمدتها السلطة لإنهاك المواطن إلى حدّ جعله يرتضي «إدارة خدّه الأيسر» لها في قوت يومه، وسلبه مزيداً من قدراته الشرائية. هكذا تتهرّب السلطة من واجباتها، عبر ابتكار «حلول» خانقة للمواطن عوض تحمّل مسؤولياتها في الرقابة على الأسواق. وهكذا قرّر وزير الاقتصاد أمين سلام ورئيس لجنة الاقتصاد والتجارة والصناعة والتخطيط النيابية فريد البستاني، بالتكافل والتضامن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، الأخذ بـ«الحلّ الأمثل» الذي دعت إليه مراراً نقابة المستوردين وأصحاب السوبر ماركت، بتسعير السلع الغذائية بالدولار النقدي. مبررات سلام باتت مكشوفة للعيان؛ فهو مرّة يشير إلى وضع استثنائي يتطلب إعلان حالة طوارئ اقتصادية تستدعي تدخلاً ملحّاً لضبط الأسعار وحماية المستهلك… ومرّة يقول إن هذا الأمر سيعتمد كإجراء استثنائي مؤقت هدفه تفادي دولرة السلع بشكل دائم.
ورغم أن هناك قسماً من الأجراء في لبنان يتقاضون رواتبهم بالدولار النقدي أو يتلقّون تحويلات خارجية من أقاربهم تمدّهم بـ«أوكسيجين استهلاكي»، إلا أن الغالبية لن تتمكن من التكيّف مع قرار التسعير بالدولار، لما له من تداعيات على نمط استهلاكهم وسلّتهم الغذائية. فباستثناء أسر قليلة ذات قدرة شرائية مقبولة، فقدت غالبية الأسر قدرتها على تأمين السلع الغذائية الأساسية. لينا، مثلاً، التي تقطن في إحدى ضواحي بيروت، تدفع أربعة «سرفيسات»، ذهاباً وإياباً، إلى مركز عملها في إحدى مؤسّسات القطاع العام في الحازمية، ما يستهلك أقلّ من نصف راتبها على حساب شرائها المنتجات الغذائية المعتادة، وهو ما دفعها إلى استبدالها بنوعيات أخرى أقل جودة والاستغناء التام عن «ترف» الأجبان والـ«نسكافيه» مثلاً. وبدلاً من أن تمضي في السوبر ماركت ربع ساعة في ابتياع حاجاتها، باتت تضاعف وقت وجودها هناك وتجول بين الرفوف بحثاً عن بدائل أوفر؛ وعن دولرة الأسعار تقول، إنه إذا كان الأمر لا بدّ منه، فليثبّت سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية. تقطع عليها أمنياتها وتوصياتها شابة عشرينية تعمل مدرّسة لغة إنكليزية: «تثبيت الدولار (بلكنة بريطانية) مستحيل»؛ وبحسب رأيها، فإن التسعيرة بالدولار أفضل من تعديلها بالليرة تزامناً مع كل ارتفاع للدولار. وبحركة خفيفة، تعيد كرتونة عصير ماكاو، ثم تلتقط كرتونة مستر جوسي، وتقول ضاحكة: «كلّه عصير»، وتمضي.
خلافاً للينا، تدخل سناء إلى المتجر معرضة عن التجوال بين أقسامه. تتناول مرطباناً من الصلصة يكاد لا يكفي طبخة واحدة، ثم تهرول إلى الصندوق لتسديد ثمنه، وتحمله بيدها دون كيس. أرادت هي بهذه الحركة أن توفر على صاحب المتجر كلفة الكيس؛ لكنها تقول إنها امتنعت عن إرسال أحد ولدَيها إلى السوبر ماركت حتى لا «تفتح شهيته» على شراء السكاكر أو العصير، وهذا ما لا تتحمّله طاقتها المالية بشكل يومي؛ حتى إنها لم تعد تقوى على التموين الشهري كما كانت قبل ثلاث سنوات: «عايشين كل يوم بيومو».
سلّة أم قاسم الغذائية الشهرية تزيد أو تنقص بحسب لوازم صيانة «تاكسي» أبي قاسم من غيار زيت وغيره. تتألف هذه السلّة من كيلوغرام واحد من اللحم البقري، واثنين من الدجاج أو السمك، بالإضافة إلى أصناف محدودة من الخضر والفاكهة، وفوقهم أرزّ وملح وصلصة وبيض ولبنة وشعيرية وزيت وشاي وقهوة وبعض أنواع الحبوب. ثم تأتي ربطة الخبز. تعلّق على دولرة السلع وهي تزمجر بالبائع اعتراضاً على سعر بضعة غرامات من الفلفل الأسود: «يثبتولنا هالدولار السايب ويسعّروا البضاعة بالاسترليني ونحنا راضيين، شو رأيك إنت يا صلاح؟».
صلاح لديه قصّة، ككثيرين، مع اللبنة والبيض. سابقاً كان يشتري ثلاث كراتين من البيض مرّة واحدة ويستهلكها شهرياً مع عائلته المؤلّفة من خمسة أشخاص، إلا أنه صار يشتري البيض بالحبّة. وكان يشتري أيضاً كيلوغراماً واحداً من اللبنة أسبوعياً عندما كان سعره يصل إلى 9 آلاف ليرة، أما اليوم فاستبدل اللبنة البلدية ذات الـ 250 ألف ليرة للكيلوغرام، بصنف آخر من اللبنة «مش معروف من أيّ بقرة عم يحلبوها» إنما سعره 100 ألف ليرة. وهذه كانت السلّة الأخيرة التي يموّلها صلاح بأموال المساعدة التي يحصل عليها بواسطة بطاقة «أمان» والتي استفاد من خلالها من مبلغ 125 دولاراً شهرياً على مدى 12 شهراً.
جولة صغيرة على المتاجر ودقائق معدودة عند صناديق المحاسبة، توجز حال المستهلكين؛ قدراتهم الشرائية متدنّية جداً، ونظامهم الغذائي مختلف كمّاً ونوعاً. لعلّ آخر ما يفكر به سلام والبستاني تعابير أولئك المستهلكين، وتحسّس أيديهم لجيوبهم، وبؤس آباء يتعلّق أطفالهم بثيابهم توسّلاً لكيس «شيبس». قد يكون أكثر ما يريح معاليهم، إصدار تسعيرة بالدولار لم يرفضها الرأي العام جهلاً بخطورة القرار، أو لامبالاة واستياء وإقرار بالعجز، وانعدام الجدوى من الاعتراض.