على مستوى عقد القرض الذي يطلب نوّاب الحاكم إقراره، لم يسفر اجتماع الحكومة اليوم سوى عن توجيه طلب من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى وزير المال يوسف الخليل، يقضي “بإجراء الاتصالات اللازمة من أجل اتخاذ كل الإجراءات التي تسهّل عمل حاكميّة مصرف لبنان”.
وعلى هذا الأساس، لم يشهد مجلس الوزراء إقرارًا لمرسوم مشروع القانون، الذي كان من المفترض أن تحيله الحكومة إلى المجلس النيابي، لتشريع تمويل الدولة بالعملات الأجنبيّة من احتياطات مصرف لبنان، بموجب عقد قرض. وفي مقابل طلب ميقاتي تشريع هذا الإنفاق بموجب مشروع قانون تقدّمه مجموعة من النوّاب، جاء موقف النائب علي حسن خليل بالأمس ليؤكّد صراحة موقف عين التينة، المُصر على إحالة مشروع القانون بموجب مرسوم من الحكومة.
هكذا، يستمر التقاذف ما بين الرئاستين الثانية والثالثة، من دون أن يتضح حتّى الآن أفق هذا التهرّب المتبادل من مسؤوليّة صياغة المسودّة الأولى من مشروع القانون، والتي ينتظرها نوّاب الحاكم –بحسب شروطهم- لتأمين التمويل بالدولار للدولة. الجديد الوحيد بالأمس، هو بدء مرحلة التهويل بالويل والثبور وعظائم الأمور، من خلال حديث ميقاتي عن اتجاه البلاد نحو انقطاع الدواء والرواتب في حال عدم إقرار هذا القانون، فيما سرّب نوّاب الحاكم انباءً عن اتجاههم لقطع التمويل عن الدولة ابتداءً من يوم الإثنين المقبل.
الاحتياطات: صنم من التمر؟
على هامش هذه السجالات، تطول لائحة الأسئلة التي تصب في مكان واحد: كيف نفهم الاستقطاب الحاصل اليوم؟ وماذا يطبخ برّي وميقاتي لحاكميّة المصرف المركزي؟ وأي ستصب “حركة” نوّاب الحاكم الحاصلة اليوم؟
فقائمة التطوّرات غير المفهومة لا حصر لها، وهي تبدأ من سر إصرار نوّاب الحاكم على تقييد الدولة بآليّة الاقتراض للحصول على العملات الصعبة من المصرف المركزي، بدل من لعب المصرف المركزي دوره في تنظيم وضبط عمليّة بيع وشراء الدولار مع الدولة اللبنانيّة، التي تكفل بدورها حصر استعمال الدولة للعملة الصعبة الموجودة بحوزة مصرف لبنان، ومن ضمن السياسة النقديّة الخاضعة –بشكل كامل- لسلطة المجلس المركزي لمصرف لبنان، أي نوّاب الحاكم مع مدير عام وزارة الاقتصاد.
بمعنى أوضح، كان من الممكن تنظيم وحصر استعمالات الاحتياطات الموجودة في مصرف لبنان، عبر السياسة النقديّة، من دون إعطاء الحكومة صك تشريعي يضع مفاتيح التمويل بيدها، وهو ما يعاكس النيّة المعلنة من شروط نوّاب الحاكم. مع الإشارة إلى أنّ الدولة تملك أساسًا إيراداتها بالعملة الصعبة، التي يتم إيداعها في مصرف لبنان، في حين أنّ المجلس المركزي قادر على التفاوض مع الحكومة على حجم الفارق ما بين الدولارات التي سيتشتريها من الدولة وتلك التي سيبيعها لها. وهذه التداولات يفترض أن تندرج من ضمن آليّة أو منصّة التداول بالعملات الأجنبيّة، التي ستستوعب تداولات السوق الموازية وتعوّم سعر الصرف، وبناءً على موازين العرض والطلب في السوق، مع الحفاظ على تدخّل المصرف المركزي عند الحاجة، وبقدر الحاجة. وهذا تحديدًا ما يمثّل مسار توحيد سعر الصرف، الذي يكثر الحديث عنه منذ بدء الانهيار في لبنان.
وما نقوله هنا ليس اختراعًا للبارود ولا طلاسم غريبة في علم المال والنقد، بل يمثّل الدور البديهي والطبيعي لأي مصرف مركزي في العالم، وإلا فما هو مبرّر الدمج بين دور المصرف المركزي كمنظم للسياسة النقديّة، ودوره كمصرف للقطاع العام؟ وكيف يمكن للدولة أن تستحصل على العملة الصعبة اليوم، أو في المستقبل إذا اقترضت العملة الصعبة الآن، طالما أنّها ممنوعة بحكم القانون من العمل في السوق السوداء مباشرة؟ من سيبيع الدولة الدولارات الآن أو مستقبلًا، إذا لم يفعل ذلك المصرف المركزي؟
ومخاطر الآليّة التي يطلبها نوّاب الحاكم، لا ترتبط فقط بمراكمة الديون بالعملة الصعبة على الدولة، بدل دمج عمليّات بيع وشراء الدولارات لمصلحة الدولة بسياسة تعويم وتوحيد سعر الصرف، التي يفترض أن تشمل شراء الدولارات للإدارات الرسميّة. بل تشمل مخاطر ما يجري توثيق الترابط ما بين ميزانيّة المصرف المركزي والديون السياديّة، التي تفتح المجال بدورها أمام مطالبة كبار المودعين بوضع أصول الدولة تحت “الحجر المالي”، أو حتّى استملاكها في المستقبل، لتحصيل قيمة أموالهم التي أودعتها المصارف لدى مصرف لبنان.
في خلاصة الأمر، وبدل العمل على سياسة نقديّة مستدامة على المدى البعيد، بما يؤمّن حاجة الدولة للعملة الصعبة من المصرف المركزي بأقل كلفة ممكنة على الاحتياطات، يحول نوّاب الحاكم دون ذلك بحجّة “قدسيّة الاحتياطات”، التي ينبغى تشريع الإنفاق منها بحسب شروطهم، ما يحوّل هذه الاحتياطات إلى صنم من تمر، يقدّسه اللبنانيون اليوم ويأكلونه غدًا!
طبخة برّي وميقاتي؟
هكذا، ثمّة ما هو غير مفهوم في حركة نوّاب الحاكم، وكذلك الأمر بخصوص تقاذف المسؤوليّات ما بين برّي وميقاتي. فعلى أي أساس مثلاً لم يتم تذكير نوّاب الحاكم بمسؤوليّتهم الأولى والأساسيّة في ما يخص مسار توحيد أسعار الصرف، بعدما ذكروا البرلمان والحكومة معًا بمسؤوليّاتهم بخصوص سائر الإصلاحات المطلوبة من لبنان؟ وعلى أي أساس يسلّم الجميع بمعادلة ربط تأمين العملات الأجنبيّة بالاقتراض حصرًا، بدل ربطها بالسياسة النقديّة كما يفترض أن يكون الحال؟ وإذا اقترضت الدولة اليوم هذه الدولارات، فكيف ستسدد غدًا، بوجود مصرف مركزي مستقيل من مهمّة بيع الدولارات للقطاع العام؟
كل هذه التساؤلات، توحي بأنّ ثمة طبخة ما تفوح رائحتها ما بين الرئاستين الثانية والثالثة، وهو ما يحيلنا مجددًا إلى السجالات التي سبقت نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان، والتي أصر خلالها الرئيسان على تعيين حاكم جديد للمصرف المركزي الآن، ولو في ظل حكومة تصريف أعمال. وهذا المسعى، لا ينفصل عن رغبة برّي بسحب ورقة حاكميّة مصرف لبنان من المفاوضات الدائرة بين النائب جبران باسيل وحزب الله، بخصوص الملف الرئاسي و”سلّة” التعيينات والحصص. ومن هذه الزاوية أيضًا، يمكن فهم اعتراض باسيل وحزب الله الشديد، على فكرة تعيين حاكم للمصرف المركزي قبل انتخاب رئيس للجمهوريّة، وفي ظل حكومة تصريف الأعمال.
فهل تندرج سلّة مطالب نوّاب الحاكم، وعلى رأسهم النائب الأوّل المحسوب على برّي، من ضمن مسعى ما لتعقيد الوضع الراهن ماليًا ونقديًا، وفرض الاتجاه نحو تعيين حاكم للمصرف المركزي بأقصى سرعة؟ وهل تندرج كل هذه المناورات المتبادلة من ضمن توزيع للأدوار، بين برّي وميقاتي، للوصول إلى هذه النتيجة؟ من المبكر الإجابة على السؤالين في هذه اللحظة، كما من المبكر التسرّع وإساءة الظن بما يفعله نوّاب الحاكم، وتحديدًا نائب الحاكم الأوّل. لكن الأكيد هو أنّ ما يتم طرحه اليوم لا يؤسّس لحل نقدي على المدى، كما من الأكيد أيضًا أن ثمّة الكثير من الإلتباسات التي تحيط بالكباش الدائر حاليًا على خط رئاسيتي الحكومة ومجلس النوّاب.