فيما كان المبعوث الفرنسي بيار دوكين المكلف مواكبة تنفيذ مقررات “سيدر”، يوزّع نصائح لضرورة الإسراع بإعطاء إشارات إيجابية تؤذن للبنان النهوض من أزماته الإقتصادية، كانت بيروت منشغلة بحفلات “مكافحة الفساد” وحملات قادت المشهد العام إلى مستويات لا مبررات مقنعة لها.
فالداء الذي تعاني منه البلاد، أي الفساد الذي تفشى ليصبح منظومة متكاملة، هو أبرز الإصلاحات التي ستتيح تنفيذ سلة إصلاحات مالية وإدارية، وهو ما نالت حكومة سعد الحريري على أساسه ثقة البرلمان، حين تصدّرت مندرجات “سيدر” البيان الوزاري الذي أُعدّ على عجل ليمكّن السلطة التنفيذية من المباشرة بالعمل. وفيما كان يفترض أن تبدأ أولى الخطوات بـ”ترشيد الإنفاق والبدء بالإصلاحات ووقف الهدر وإبداء حسن النية في إدارة المال العام”، إنحرف أبناء السلطة إلى دوامة المحاسبة الكيدية ونبش دفاتر الماضي، على خلفية المطالبة بجلاء ملف حسابات الـ11 مليار دولار التي تبخّرت في دهاليز الإنفاق على قاعدة الإثني عشرية لأكثر من 11 عاما.
أجواء ثقيلة تخيّم على الداخل وسط رياح تهبّ من الخارج على بعض الداخل، أي “حزب الله”، الذي يتعرّض لهجمة بدأت بريطانية قد تتحوّل أوروبية، بإعتبار الحزب بجناحيه السياسي والعسكري تنظيما إرهابيا، مع ما يوجب القرار من فرض عقوبات مالية وإقتصادية عليه وعلى قادته ومناصريه، في لبنان والخارج. كل ذلك يتزامن مع أخبار ترددت عن إتجاه واشنطن للتشدّد أكثر فأكثر في تطبيقات ما طرأ من تعديلات على قانون العقوبات على “حزب الله” الصادر عام 2015، والتي أتاحت للحكومة الفيدرالية فرض عقوبات أوسع على دائرة المتورّطين مع الحزب حول العالم.
تخشى أوروبا تعريض مؤسساتها لعقوبات أميركا. لذا، تقود واشنطن مفاوضات مع باريس وبرلين لإقناعهما بضرورة إضافة “الجناح السياسي” للحزب إلى “الجناح العسكري”، والإمتناع عن التعامل معه ومع المتعاملين والمتصلين به، وحظر كل أنشطته على الأراضي الأوروبية. وتبدو المصارف الحلقة الأضعف إن بادرت إلى فتح حسابات لأشخاص تصنّفهم واشنطن “أعضاء” في الحزب، إذ ستكون مطالبة بتجميد الحسابات تحت طائلة تعرضها للعقوبات.
لن تكون مصارف أوروبا وحدها في دائرة القلق. فقد تداعت مصارف لبنان وعلى عجل، إلى إجتماع طارئ يعقد غدا الثلاثاء لمجلس إدارة جمعية المصارف بغية مناقشة القرار البريطاني ومفاعيله، فضلا عن خفض النظرة المستقبلية للبنان من “مستقر” الى “سلبي” بعد خفض تصنيفه السيادي، لما لذلك من تداعيات محلية، وتحديدا على الرساميل الواقعة تحت “ضغوط طارئة”.
يُقال إن المصارف تخشى من أن تكون مرغمة طوعا على إعادة الرسملة، كإحدى النتائج الطبيعية لخفض التصنيف السيادي، لأنها تغيّر في أحجام الأوزان والمخاطر المتعلقة بالدولة وبالزبائن، بالليرة وبالدولار على السواء. بالإرقام، يقدّر أن تكون المصارف ملزمة على رفع رساميلها بنسبة 50% وبالدولار. وإن أرادت تحويل كامل أرباحها خدمة لرفع رسامليها، فهي لن تشكل أكثر من 10% من المطلوب. فمن أين توفير نسبة الـ40% المتبقية؟ علما أن الإمتناع عن رفع الرسملة، قد يفضي، وبعلم المصارف، إلى إمتناع الخارج عن فتح إعتمادات لها، وهذا يعني عمليا، إنتفاء مبررات وجودها، لا قدّر الله.
يُقال إن ما يعيشه لبنان من أخطر مفاصل تاريخه، وهو لا يزال يخاطر باللعب بـ”الأوراق الصعبة”. المخاطر السياسية والمالية إلى ارتفاع مضطرد لا سقوف له. وفق تقرير “ستاندرد أند بورز” الصادر نهاية الأسبوع، فإن العجوزات المالية وخدمة الدين ﻤﺭﺘﻔﻌﺔ. يجب أن يؤثر تشكيل الحكومة على تحسين ثقة المستثمرين التي ستدعم حاجات التمويل الحكومي في 2019″. وتبعا لذلك، بدّلت الوكالة توقعاتها المستقبلية للبنان من “مستقرّ” إلى “سلبي”، بينما أبقت على التصنيف السيادي الطويل والقصير الأمد عند B/B-، متوقعة إستمرار المخاطر الأمنية الخارجية. “لقد خفت حدة الصراع السوري لكن لم يحلّ بعد، وستبقى المسارات السياسية والأمنية والاقتصادية اللبنانية متداخلة مع جارتها. هناك أيضا خطر متزايد من تصعيد التوتر بين “حزب الله” وإسرائيل. الى ذلك، تخاطر المصارف اللبنانية بالتأثر إذا فرضت واشنطن عقوبات إضافية ضد “حزب الله”. مع ذلك، فإن سيناريو قضيتنا لا يشمل زعزعة إستقرار الصناعة المصرفية في البلاد أو العودة إلى الحرب الأهلية”.
هكذا، تجد المصارف اللبنانية نفسها بين فكّي كماشة. فمن الخارج تواجه إتساع دائرة العقوبات على “حزب الله”، وتقع في الداخل تحت ضغط قصور رسمي عن القيام بالإصلاحات اللازمة ﻟﻟﺣد ﻣن عجز اﻟﻣوازﻧﺔ الذي ﺳﯾؤدي إﻟﯽ تراجع ﺛﻘﺔ اﻟﻣﺳﺗﺛﻣرﯾن. “ونتيجة لذلك، قد تتباطأ ودائع غير المقيمين، وقد يستمر احتياطي النقد الأجنبي بالإنخفاض، مما يضعف قدرة لبنان على خدمة ديونه العملات الأجنبية”.
وبالنظر إلى المستوى المرتفع والمتزايد للديون الخارجية قصيرة الأمد، توقعت “ستاندرد أند بورز” أن يواجه لبنان ضغوطاً متزايدة للحفاظ على مستويات كافية من الإحتياطات الأجنبية إذا إستهدف الحفاظ على الثقة باستقرار الليرة. ورغم أن الوكالة تتوقع أن تنجز الحكومة موازنة 2019 في الشهرين المقبلين مع تضمينها بعض إصلاحات مؤتمر “سيدر”، رأت أن تنفيذ تلك الإصلاحات لا يزال “غير مؤكد”.
ما الذي يقلق مصارف لبنان؟
كل المؤشرات لم تنجح في إقناع المجتمع المالي بأن لبنان يسير بوثوق نحو النهوض. لذا، لوّحت “ستاندرد أند بورز” بإقدامها مجددا على خفض تقييمها للبنان في الأشهر الـ12 المقبلة “إذا تسبب الركود السياسي بارتفاع العجز، واذا تباطأت تدفقات ودائع النظام المصرفي -مصدر التمويل الرئيس للحكومة- أكثر من ذلك. يمكن أن يؤدي السحب المستمر للاحتياطات الاجنبية في مصرف لبنان لتلبية حاجات الحكومة من تمويل العملات الأجنبية إلى اختبار قدرة البلاد على الحفاظ على إستقرار العملة”. ويمكن أن تعيد الوكالة نظرتها إلى “مستقر” إذا تمكنت الحكومة “من تحقيق إصلاحات إقتصادية ومالية كبيرة من شأنها تعزيز النمو وخفض مستويات الدين على الأمد المتوسط، بما فيها معالجة الفجوات وعدم الكفاية في قطاع الكهرباء وخفض خدمة الدين”.
خفض التصنيف السيادي يعني بداية الطريق نحو الإفلاس. فهل تتسع دائرة المدركين لخطورة المسار الذي يسلكه لبنان قبل فوات الأوان؟