ما بعد حرب غزّة: إعادة رسم خرائط الطاقة الإقليميّة

قبل لحظات قليلة من عمليّة طوفان الأقصى، كان المشهد مختلفًا بشكلٍ كامل، على مستوى الخيارات المرتبطة برسم خرائط الطاقة الإقليميّة. في تلك اللحظة، كانت إسرائيل تفاضل بين خياراتها المتاحة لتصدير غاز شرق المتوسّط إلى أوروبا، انطلاقًا من الفرص التي سيفتحها مشروع الممر الاقتصادي، الذي كان سيعبر عبرها من الهند ومنطقة الخليج إلى أوروبا. وكان الإسرائيليّون يتخيّرون ما بين الاحتمالات المختلفة، في ضوء سعي الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان لوصل حقول غاز إسرائيل بأوروبا عبر بلاده.

وفي كل هذا المشهد، كان الجميع يترقّب احتمالات انضمام قطاع غزّة ولبنان إلى نادي منتجي الغاز في المنطقة، بعد إنجاز ترسيم الحدود اللبنانيّة الإسرائيليّة في أواخر تشرين الأوّل الماضي، وموافقة إسرائيل على تطوير حقل مارين للغاز الطبيعي في مياه غزّة البحريّة، بالتنسيق مع السلطة الفلسطينيّة ومصر.

الغاز والممر الاقتصادي والشرق الأوسط الجديد

قبل نحو شهرٍ واحد من اندلاع أحداث غزّة الأخيرة، كان رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يجتمع مع نظيره اليوناني والرئيس القبرصي في قمّة ثلاثيّة في نيقوسيا، للبحث في مشاريع “إيصال غاز المتوسّط إلى أوروبا”. يومها، كان الحديث عن أنابيب الغاز جزءًا من سلّة من المشاريع المقترحة المتكاملة في قطاع الطاقة، التي شملت –بالإضافة إلى أنابيب الغاز الطبيعي- الربط الكهربائي وإمدادات الطاقة المتجددة. والأهم في كل هذا، هو حديث القادة –من ضمن مداولات القمّة- عن ربط كل هذه المشاريع بالهند، عبر دول الخليج، بالاستفادة من “اتفاقيّات ابراهام” التي تمّ توقيعها عام 2020 بمباركة أميركيّة.

بعد أيّام قليلة فقط، تم الإعلان عن مشروع الممر الاقتصادي، على هامش لقاءات قمّة مجموعة العشرين، وهو ما شمل مجموعة كبيرة من الاستثمارات في البنية التحتيّة والسكك الحديديّة وربط الموانئ وأنابيب الهيدروجين وكابلات البيانات الرقميّة والربط الكهربائي. وكانت الغاية النهائيّة من هذا المشروع وصل سوق الهند شرقًا بالإمارات والسعوديّة، ثم إسرائيل، وصولًا إلى أوروبا.

على هذا النحو، كانت اتفاقيّات مشروع الممر الاقتصادي التي وقّعها الزعماء الغربيون مع زعماء الإمارات والسعوديّة والهند، هي الوجه الآخر، أو الجزء المكمّل، لسلسلة المشاريع التي ناقشها نتنياهو مع زعماء قبرص واليونان في نيقوسيا قبل أيّام قليلة. ببساطة، كنّا أمام خط متكامل يدمج إسرائيل اقتصاديًا بمحيطها العربي، وخصوصاً الخليجي، بل ويحوّلها إلى جزء أساسي من سلسلة توريد مصادر الطاقة، بما فيها الهيدروجين والغاز الطبيعي، باتجاه أوروبا. بعد أيّام قليلة، كان نتنياهو يحمل بيده خريطة رُسم عليها هذا الممر أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، للإشارة إلى الدور الذي سيلعبه هذا المشروع في إعادة بناء “شرق أوسط جديد” كما سمّاه حرفيًا.

وغنيٌ عن القول أنّ هذا المشروع كان يفرض المراهنة على تحقيق خطوتين قبل دخوله حيّز التنفيذ: أولًا استكمال مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي، وثانيًا القفز فوق طموحات أطراف إقليميّة أخرى كانت ترغب بلعب دور مركزي في مجال إعادة تصدير غاز المنطقة إلى أوروبا، ومنها تركيا ومصر.

وقد يحتاج المرء هنا إلى التذكير أن مشروع نتنياهو يسلب من مصر الدور الذي تقوم به حاليًا، من خلال تسييل غاز شرق المتوسّط الإسرائيلي والمصري في محطاتها، قبل شحنه بالبواخر إلى أوروبا. كما يسلب من أردوغان حلمه التاريخي، بتجميع غاز شرق المتوسّط –ومنه الإسرائيلي- ومن ثم ضخّه إلى أوروبا بالأنابيب القائمة أساسًا بذلك الاتجاه. أمّا بالنسبة لإيران وحلفائها في المنطقة، فالمشروع كان سيعني ببساطة تحييد مكامن القوّة الإيرانيّة في منطقة المشرق، وخلق محور اقتصادي موازٍ لا يعبر بمساحات النفوذ الإيرانيّة.

بالنسبة إلى الفلسطينيين بالتحديد، كان المشروع يعني القفز فوق أي تسوية يمكن أن تفضي إلى إقامة دولة فلسطينيّة فوق أراضي الـ67، والمضي قدمًا إلى تطبيع عربي شامل من دون تحقيق أي مكسب فلسطيني. ويكفي أن نتذكّر هنا أنّ الخريطة التي رفعها نتنياهو أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، التي رسم عليها مشروعه الاقتصادي و”الشرق الأوسط الجديد”، لم تلحظ أي كيان فلسطيني على أراضي فلسطين التاريخية، وهو ما ينسجم أصلًا مع عقيدة نتينياهو المعروفة الرافضة لإقامة دولة فلسطينيّة على حدود العام 67.

خلط الأوراق بعد عمليّة طوفان الأقصى

أمام كل هذا المشهد، قد يبدو من المجحف للغاية ربط عمليّة حماس منذ أسبوعين ببعض المصالح الإقليميّة التركيّة أو المصريّة أو الإيرانيّة، خصوصًا أن الكلفة التي تدفعها الحركة –وأهل غزّة- اليوم كبيرة للغاية، مقارنة بدعم هذه الأطراف للحركة ماليًا وسياسيًا ولوجستيًا. بل ويمكن التذكير هنا أنّ المشاريع الإقليميّة الاقتصاديّة المستجدة كانت تحمل أساسًا كلفة باهظة على القضيّة الفلسطينيّة، وعلى مكانة الحركة نفسها، بمعزل عن حسابات الإطراف الإقليميّة الداعمة لحماس ونشاطها، وهو ما يجعل خلط الأوراق مصلحة فلسطينيّة قبل أن تصب في مصلحة أي طرف آخر.

لكن في الوقت نفسه، من الأكيد أن حماس استفادت من المشهد الإقليمي وحساباته المتشعّبة، ومن تداعيات المشاريع الاقتصاديّة السلبيّة على الدول التي ترتبط بحماس، بعلاقات تتراوح بين التحالف والتنسيق الإيجابي. وبهذا الشكل، جاءت عمليّة طوفان الأقصى قبل أسبوعين لتفرمل هذا المسار بأسره، بانتظار تبيان نتيجة العمليّات العسكريّة في قطاع غزّة. وأصبح من الواضح أن قاطرة التطبيع التي بدأت منذ ثلاث سنوات، باتت اليوم رهينة الحلول المرتبطة بالوضع الفلسطيني.

لكن في الوقت نفسه، من المهم القول أنّ كل ما سبق ذكره لا يعني الإطاحة بالمسار السابق كليًا، والذي سيعتمد اليوم على مجموعة من المتغيّرات، وأهمها مآل العمليّة البريّة في قطاع غزة، ومدى قدرتها على فرض أي تغيّرات في واقع سيطرة حماس على القطاع. أمّا الأهم، فهو المخارج السياسيّة التي ستذهب نحوها الحركة في حال تمكنها من الحفاظ على سيطرتها في القطاع.، وبصورة أوضح: سيعتمد ذلك على كيفيّة استثمار كل ما جرى خلال الأيّام الماضية، في مشروع سياسي محلّي فلسطيني بنّاء، يحقق مكاسب ملموسة لأبناء القطاع والضفّة الغربيّة، كي لا تخرج القضيّة الفلسطينيّة خالية الوفاض –مجددًا- من بازار التسويات الإقليميّة.

حسابات تطور حقول الغاز

على هامش كل هذه الأحداث، تبقى الإشكاليّة المتعلّقة بتطور حقول الغاز في منطقة شرق المتوسّط، ومدى تأثّر هذا المسار بالحسابات الأمنيّة والعسكريّة. فمنذ اندلاع أحداث غزّة الأخيرة، توقّف الإنتاج بشكل كامل في حقول الغاز الإسرائيليّة، بالنظر إلى المخاطر الأمنيّة المرتبطة بهذه العمليّات. وحتّى مع استئناف عمليّات الاستخراج بعد توقّف الأعمال القتاليّة، من المتوقّع أن تترك الأحداث الراهنة أثرها على شهيّة الشركات الدوليّة للعمل في إسرائيل، خصوصًا أن الاستثمارات البتروليّة ترتبط بتكاليف باهظة لا يمكن استرداد قيمتها إلا بعد سنوات طويلة من عمليّات الاستخراج المستقرّة والمستدامة.

إلا أنّ الأثر الأكبر في منطقة شرق المتوسّط سيكون على حقول لبنان وغزّة، التي لم يدخل مرحلة الاستخراج بعد. ففي الوقت الراهن، من الواضح أنّ ما يجري على حدود لبنان الجنوبيّة سيؤثّر حتمًا على وتيرة عمليّات الاستكشاف، وعلى استعداد شركة توتال لضخ المزيد من الاستثمارات لتسريع عمليّاتها في البلوكات الجنوبيّة، قبل إيجاد معادلات تضمن الاستقرار الطويل الأمد في تلك المنطقة. أمّا بالنسبة لحقل مارين في غزّة، فمصيره سيرتبط حتمًا بمآل العمليّات العسكريّة الراهنة في غزّة، وعلاقة السلطة الفلسطينيّة –الطرف الذي يقوم بالتلزيم- بقطاع غزّة في المرحلة المقبلة.

في خلاصة الأمر، من المبكر حاليًا حسم الإجابة عن أي من التساؤلات، المرتبطة بشكل خرائط الطاقة الإقليميّة، قبل معرفة النتيجة النهائيّة للحرب القائمة، وتحديدًا من جهة وضعيّة حركة حماس في القطاع، والتسويات الأمنيّة والسياسيّة التي ستنتج عن هذه الحرب. أمّا الأهم، لحسم هذه الإجابة، فهو ترقّب أدوار الأطراف الإقليميّة في التسويات التي ستنتج عن النزاع القائم، وخصوصًا تلك التي سترتبط بوضعيّة القطاع في المستقبل. لكن بغض النظر عن كل هذه التطوّرات، من الأكيد أنّ المشهد اليوم على المستوى الإقليمي، ومنه صورة خرائط إمدادات الطاقة، لم يعد يشبه المشهد الذي ساد في المنطقة قبل أسبوعين.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةوزير الصحة يدحض المخاوف.. ويطمئن
المقالة القادمةالتأمينات على البواخر لم تتغيّر ورفع الأسعار غير مبرّر