ما جرى في موضوع دفع رواتب موظفي القطاع العام على سعر 60 ألف ليرة للدولار، عبر منصة «صيرفة»، هو نوع من أنواع ربط الرواتب بالدولار وتثبيتها. فكيف سينعكس هذا الواقع على الوضع العام؟ وما هي إيجابيته وسلبياته؟
لا شك في انّ الاقتصاد الوطني يحتاج الى القطاع العام لكي يستمر بالحد الأدنى القائم حالياً، لا سيما أننا في دولة مركزية ترتبط كل المعاملات التي يحتاجها القطاع الخاص والافراد بمؤسسات القطاع العام. وبالتالي، إن المعادلة بسيطة: من دون قطاع عام سيسقط القطاع الخاص، ولو بعد حين، وسينتقل الوضع الى مشهد أشدّ تعقيداً.
هذا الواقع يعني انّ حماية موظفي القطاع العام، وتأمين القدرة على صمودهم واستمراريتهم للابقاء على المرفق العام شغّالاً، من المسلمات التي لا نقاش فيها. بالاضافة طبعاً، الى القسم المتعلق بالقوى العسكرية والامنية، حيث تصبح الحاجة الى ضمان الحد الأدنى للعناصر والضباط والمؤسسات العسكرية والامنية واجب الوجوب.
وبالتالي، فإن ربط رواتب القطاع العام بتسعيرة ثابتة للدولار، هو إجراء مطلوب في هذه المرحلة، طالما اننا لا نزال بعيدين من الحل الشامل الذي سيعالج اساس الأزمة وينفي الحاجة الى كل الاجراءات الاستثنائية، وبعضها شاذ، التي يتمّ اتخاذها مؤقتاً.
لكن مثل هذا الاجراء يحتاج الى عناية خاصة لئلّا يتحوّل الى عبء اضافي على البلد، من خلال دراسة هادئة للكلفة اولاً، ولكيفية تأمين الاموال. اذ انّ ما قيل قبَيل صدور قرار الدفع على سعر 60 الف ليرة للدولار، هو انّ وزارة المال ستتحمّل الفرق من خلال الدولارات التي تدخل الى الخزينة من ايرادات دولارية. (الموظفون لم يوافقوا على الرقم بعد، ويطالبون بدولار على سعر 45 الف ليرة). هذه الايرادات الدولارية ضئيلة طبعاً، والدولة تحتاج كل دولار منها لتسيير الضروريات القصوى. وبالتالي، لا بد من احتساب هذه الايرادات الدولارية بعناية، وضمان عدم تكبير فجوة العجز في الموازنة، لأنّ ذلك سيزيد الضغط على الاقتصاد الوطني المهترئ اصلاً، وسيتسبّب بتكبير فجوة الديون التي لا يبدو حتى الان انّ الحكومة تخطّط لتسديدها يوماً ما. وبالتالي، سيدفع المجتمع مجدداً ثمن هذا الانحدار.
في حسبة مبدئية لا ترتكز على ارقام دقيقة بسبب غياب الارقام في البلد، بما فيها ارقام اعداد موظفي القطاع العام، واستناداً الى بند الرواتب، يتبيّن انّ مجموع ما تدفعه الدولة من رواتب حالياً يصل الى 36 الف مليار ليرة. وهذا يساوي حوالى 350 مليون دولار وفق السعر الحقيقي للعملة الخضراء في السوق الحرة. هذا الرقم زهيد جدا قياسا بحجم الرواتب قبل الانهيار. وهو يساوي حوالى 490 مليون دولار اذا احتسبناه على «صيرفة» الـ60 الف ليرة. في المقابل، فإنّ حجم الايرادات المقدّرة في موازنة 2022 تبلغ 39 الف مليار ليرة، أي حوالى 380 مليون دولار. وتصل النفقات المقدرة الى حوالى 47 الف مليار ليرة، اي حوالى 460 مليون دولار. واذا أخذنا في الاعتبار ان الانفاق في موازنة 22 كان محتسباً وفق الرواتب السابقة، اي قبل زيادة اساس الراتب ثلاثة اضعاف، وزيادة بدل النقل والتوابع، فهذا يعني ان الانفاق في العام 2023 سيصل الى 60 الف مليار من دون احتساب الزيادات التي ستطرأ جرّاء الخطأ في تقدير الواردات وكذلك في تقدير الانفاق.
هذه الارقام، تقود الى حقيقة واحدة، وهي انّ استمرار الامور كما هي اليوم سترفع نسبة العجز في الموازنة الى مستويات قياسية لم تشهدها الموازنات قبل الانهيار، وهي موازنات كانت تدفع خلالها الدولة فوائد على الدين العام بما يُقارب الـ5 مليارات دولار، اي ما يوازي 10 موازنات من الحجم الحالي!
في الاستنتاج، لا بد من ربط رواتب القطاع العام بسعر ثابت للدولار للحفاظ على حد أدنى يضمن استمرارية العمل في القطاع، ولكن لا بد من إجراءات مواكبة تضمن ألا يتحول هذا الاجراء الى فجوة تتم ترجمتها من خلال الاستعانة مجدداً بالدولارات الاحتياطية العائدة الى المودعين، والتي لا تزال موجودة في مصرف لبنان. وبالمناسبة، هذه الدولارات، والتي تعتبر ملكية خاصة للمودعين، تصرّفت بها الحكومات منذ الانهيار وكأنها ملكٌ عام، وهي بذلك أمّمت اموال الناس وأنفقتها بلا حسيب او رقيب، بحيث فقد المودعون حوالى 20 مليار دولار من الاموال العائدة لهم، والمودعة قسراً في بنك الدولة المركزي.
تثبيت دولار رواتب القطاع العام سيرتّب خسائر لا تقل عن 20 الف مليار ليرة، وعلى الحكومة ان تتخذ اجراءات مواكبة تؤمّن مثل هذا المبلغ، لا ان تَستسهِل مدّ يدها مجدداً على اموال الناس، وبقوة الأمر الواقع. وهذا هو المطلوب اليوم لضمان الحد الادنى من حقوق الموظفين، والمحافظة على الحد الأدنى من حقوق المودعين.