مبادرات تؤجل اليأس: البحث عن حليب أطفال وعلبة دواء

الصدمات المتداخلة مالياً وسياسياً واجتماعياً، ولّدت ضغوطاً هائلة، فانخفضت قيمة العملة وارتفعت معدّلات التضخّم، ما أدى إلى تدنّي المستوى المعيشيّ وانتشار الحرمان بين اللبنانيين. لم ينته الأمر هنا. فقد شكّل رفع الدعم عن حليب الأطفال والأدوية، خطراً يهدّد حياة المواطنين الذين باتوا غير قادرين عن تأمين قوت يومهم، واعتبروا أن الدواء “لمن استطاع إليه سبيلاً”. وبات مقتصراً على الأثرياء والميسورين فقط.

وفي جولة قصيرة في الضاحية الجنوبية وبيروت، نجد أن المعاناة واحدة وأن المطالب تصبّ في الاتجاه نفسه. فمعظم السكان عاجزون عن تأمين أدنى حقوقهم كالطعام، واللباس والطبابة. وأمام عجز الدولة ومؤسساتها عن تأمين احتياجاتهم، لجأوا إلى بعضهم البعض لطلب المساعدة، وعبّروا عن سخطهم من الحكومات المتتالية، اللامباليّة. وعليه، فقد برزت الكثير من المبادرات الفرديّة لمساعدة أكثر الفئات تضرّراً، عن طريق تأمين الدواء، الغذاء، وحليب الأطفال وغيره.. ولاقت هذه المبادرات اهتماماً كبيراً من الناس، الذين حاولوا مساعدة بعضهم البعض بشتى الطرق.

يروي ماهر لـ”المدن” أنه اعتمد مبدأ المقايضة، والتي تعني أنه يقدم الدواء بالمجان في المرة الأولى، وفي المرة الثانية يطلب من المستفيد التبرع بقدر استطاعته وما يتوفر لديه. فإحدى السيدات تبرعت بالسكر لعدم قدرتها على تقديم المال، بينما أخرى تبرعت بالخبز. وبالتالي، يجمع هذه التبرعات في حصص غذائية ويوزّعها على عائلات أخرى. وإلى جانب الدواء، يقوم بتوزيع حليب الأطفال. ولأنه من أصحاب الثقة، فإن الميسورين باتوا يرسلون له المال لتأمين حصص غذائية أو حفاضات للأطفال. كما أن بعض الأشخاص قدموا له حليباً إيرانياً. أما آخرون فقدموا مئة ربطة خبز لتوزيعها أسبوعياُ.

وبشكل يومي، يعرض على صفحته على “الفايسبوك” وعبر “الواتساب” صوراً للأدوية الموجودة. كما يعرض صوراً لعلب حليب الأطفال المختلفة الأسماء. يقسّم عمله مع فريقه المنتشر في صور، النبطية، جزين، بترون، كسروان، بيروت، الضاحية وغيرها من المناطق.. وأخيراً، يقوم بنفسه بخدمة توصيل الأدوية مجاناً وذلك للتعرف عليهم، وللتأكد من أنهم فعلاً بحاجة لهذا الدواء، وأن أوضاعهم متردية.

حسن بزي ناشط ضمن مجموعة الشعب يريد إصلاح النظام، متزوج، في العقد الرابع، يعمل في المحاماة ويختص في ملفات مكافحة الفساد والملفات المصرفية، ويسعى لتأسيس جمعية ليديا للدعم النفسي والاجتماعي . عن طريق الصدفة، علم بأن طفلاً يدعى حيدر، بحاجة لإجراء عملية جراحية تكلفتها حوالى 42 ألف دولار أميركي، وأهل هذا الطفل عاجزون عن تأمين هذا المبلغ. فوضع منشوراً على صفحته، بغية محاولة جمع بعض المال له.. ففوجئ كيف تم خلال أسبوع واحد فقط جمع هذا المبلغ وأجريت العملية. ومنذ ذلك الحين عمد على مساعدة الأطفال وكبار السن في متابعة حالتهم المرضية وجمع التبرعات لهم. لدى حسن مجموعة من الناشطين المتوزعين في أقضية متعددة، الذين يعاونونه على متابعة نحو 150 حالة مرضية شهرياً من مختلف المناطق والأديان.

أما رنا نجم، فهي من أحد الأعضاء في صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي للنساء، تضم حوالى 23 ألف شخص. وتروي لـ”المدن” تفاصيل مبادرتها داخل مدرسة الرابية في حارة حريك. فهي تملك دكاناً في المدرسة. ومنذ بداية العام الدراسي وضعت رأس مالها لشراء السكاكر والأصناف التي يحبّها الأطفال ويرغبونها. ولكنها فوجئت بأن الكثير من الأطفال كانوا يختارون ألواحاً من الشوكولا والسكاكر ولا يملكون سوى 500 ليرة أو 1000 ليرة. ولأن الأطفال لا ذنب لهم بالأزمة المالية، وتجنباً لكسر خاطرهم وإبقائهم جياعاً، كانت تقبل منهم هذه المبالغ الصغيرة. وخلال فترة قصيرة كادت أن تقفل دكانها، فاستعانت بصديقاتها في المجموعة وقمن بمبادرة صغيرة بدأت بـ250 ألف ليرة. اشترت علب تحضير الحلويات كالجلو والكاسترد، وتم وضعها في علب صغيرة وبيعها في المدرسة بـ1000 ليرة. كما ساعدتها المجموعة وتبرع أعضاؤها بالسكر، والحليب، والعلب البلاستيكية..

هذه المبادرات الثلاث مجرد أمثلة لعدد لا يُحصى من المبادرات الفردية والمجموعات الكثيرة التي تنشأ في كل أنحاء لبنان التي تبدو كأنها حبة دواء تمنع احتضار المجتمع. إنها ظاهرة تؤجل اليأس.