أعادت الصناعات الغذائية اللبنانية ترتيب أوضاعها، بعد وضوح مسار الأزمة التي انفجرت في العام 2019. فالتخبّط الذي عاشته مجمل القطاعات الاقتصادية وسط تسارع الانهيار وما رافقه من سحق تام لسعر صرف الليرة، هدأ قبل حلّ الأزمة نهائياً، نظراً لدولرة الأسعار. لكن استعادة ما كان قبل الـ2019، لم ينجح تماماً، بل جزئياً، نظراً لعوامل كثيرة منها “ارتفاع كلفة الإنتاج والدورة المالية الطويلة للصناعات الغذائية مقارنة بقطاعات أخرى مثل التجارة مثلاً”. على حدّ تعبير نقيب أصحاب الصناعات الغذائية منير البساط.
بالتوازي، تظهر بوادر مساعدة خارجية عبر تمويل بعض المبادرات التي تقوم بها مؤسسات صناعات غذائية لبنانية لتطوير إنتاجها، وتحديداً تلك التي تعتمد سبل إنتاج صديقة للبيئة، أو ما يسمّى بالاقتصاد الأخضر أو الاقتصاد التدويري، وما إلى ذلك من تسميات. لكن تلك المساعدات تبقى محدودة ومشروطة، ومن غير المنتظَر توسيع آفاقها ما دام لبنان لا يزال خارج مظلّة صندوق النقد الدولي.
واقع لا بأس به
نشطت حركة الصناعات الغذائية رغم تضرّر القطاع بشكل عام، بفعل الأزمة التي كان لها في الوقت نفسه بعض الانعكاسات الإيجابية على تلك الصناعات، إذ أن تراجع حجم الاستيراد شجّع على استهلاك الصناعات المحلية من دون تغيير واقعها جذرياً. ومع الوقت “تمكّنا من تطوير أنفسنا وتنمية صادراتنا وتعزيز موقعنا في السوق المحلّي، خصوصاً في مرحلة انتشار فيروس كورونا”، وفق ما يقوله البساط لـ”المدن”.
ولمزيد من المحاولات لتعزيز قدراتها، علّقت مؤسسات الصناعات الغذائية آمالاً على الدعم الخارجي الذي تقدّمه بعض الجهات الدولية، وفي الغالب عبر مؤسسة “كفالات”، وهي مؤسسة مساهمة لبنانية مالية تعمل على مساعدة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، للحصول على تمويل مصرفي. ويوضح البساط أن ذلك الدعم بات ضئيلاً “وهو في جزء كبير منه عبارة عن قروض. فيما الجزء المجّاني يكون أحياناً عبارة عن مساعدة في تدقيق الحسابات وكيفية تحديث العمل والتوصية بضرورة الاعتماد على الطاقة الشمسية.. وما إلى ذلك. في حين أن تنفيذ الدراسات والتوصيات، يحتاج إلى أموال لا تقدَّم على شكل هبات، وإنما قروض، كان الحصول عليها في السابق سهلاً في ظل الثقة الدولية بالشركات اللبنانية وبالمصارف”.
الآمال لم تتحقَّق على قدر تطلّعات المؤسسات اللبنانية. لكن جزءاً منها كان لا بأس به، سيّما بالنسبة للمؤسسات الصغيرة والمتوسّطة التي يستفيد بعضها من مشاريع مموَّلة من الاتحاد الأوروبي، على غرار مشروع CIRCULAR 2 الذي قدمته للاتحاد، منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية – يونيدو، في حزيران الماضي، بهدف دعم المؤسسات اللبنانية لتعزيز استثماراتها في مجال كفاءة استخدام الموارد وتقنيات الإنتاج الأنظف، كوسيلة لخفض تكاليفها. على أن تستفيد أكثر من 50 مؤسسة صناعية تعمل في قطاع الأغذية والمشروبات، من منح عينية غير مالية، قيمتها الإجمالية 3.7 مليون يورو.
ضرورة التحرّك نحو صندوق النقد
المبادرات الرسمية للدولة، والمتمثّلة بوزارة الصناعة، تحاول مساعدة القطاع. لكن إحداث تغيير فعّال لا يكون إلا بعد استعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني وبالقطاع المصرفي الذي كان يشكِّل بوابة تمويل للمؤسسات، إما بقروض ميسَّرة عبره، أو استقباله للأموال التي تقدّمها المؤسسات الدولية، التي بدورها لن تعيد إغداق أموالها إلا على ضوء اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي. والاتفاق النهائي مع الصندوق مغيَّب حالياً. والصندوق نفسه لم يعد متفائلاً بالتوصّل إلى اتفاق، وهذا رأي البنك الدولي أيضاً، لأن المنظومة الحاكمة غير مستعجلة لإنجاز الاتفاق، بل تريد انتشال نفسها من مأزقها بطرقها وشروطها الخاصة، التي تقع مفاعيلها على رأس الناس والاقتصاد.
ومحاولات وزارة الصناعة تظهر من خلال الترويج للصناعات اللبنانية في المؤتمرات الإقليمية والدولية، وعبر مباحثات ثنائية بين لبنان ودول أخرى. وآخر المبادرات، تمثّلت بعرض المديرة العامة لوزارة الصناعة شانتال عقل، رؤية الوزارة لـ”ضرورة تطبيق الاقتصاد البيئي والدائري في حلقة الإنتاج والتصنيع اللبناني، وانعكاس ذلك على تطوّر الصناعة اللبنانية”، وذلك خلال جلسة نقاش دعت إليها منظمة الإسكوا تحت عنوان “الحوار الإقليمي حول الإسراع في الانتقال إلى الاقتصاد الدائري من أجل مرونة المناخ في الدول العربية”، والتي عقدت يوم الجمعة المنصرم في الأردن. وتتمحور رؤية الوزارة حول احترام المعايير البيئية وتخفيض الاعتماد على الموارد النفطية، وتشجيع استخدام الطاقة البديلة “الأمر الذي يفتح الأسواق الأوروبية أمام المنتجات اللبنانية”.
ومنذ نحو أسبوعين، وعلى هامش مشاركة لبنان في معرض الغذاء العالمي WFI 2023 الذي أقيم في الهند، عرضت المديرة العامة لمؤسسة المقاييس والمواصفات اللبنانية (ليبنور) لانا ضرغام، اجتماعاً مع وزير الصناعات الغذائية باشوباتي كومار باراس، الذي أكّد على “ضرورة تشجيع رجال الأعمال في البلدين على تبادل الزيارات والتواصل وإقامة علاقات شراكة وتجارة”. ولفت النظر إلى أن بلاده “ترى في لبنان مركز استقطاب لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا وغرب آسيا”.
رغم ذلك، ومع أن الصناعات اللبنانية “تشارك في مؤتمرات دولية، وتُبرِز أنها ما زالت صناعات مطلوبة دولياً، لكنها تحتاج إلى تطوير ودعم، لكن الدولة تواصل فرض ضرائب ورسوم بدل مساعدة المؤسسات”. ويرى البساط أن الحل الأفضل لدعم الصناعات اللبنانية، هو إعادة وصل ما انقطع مع المؤسسات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد، لأن ذلك “يشجّع مؤسسات التمويل على مساعدة المؤسسات اللبنانية”. كما أن إعادة هيكلة القطاع المصرفي واستعادته للثقة الدولية، يتيح للمموّلين تمرير مساعداتهم عبر المصارف “التي كانت تساعد في عملية التمويل، لأن المموّلين يضعون أموالهم في المصارف التي تشارك في دراسة ملفات المؤسسات التي تحتاج إلى تمويل، وتعطيها الأموال وتأخذ هي عمولة. لكن الوضع الحالي للدولة والقطاع المصرفي، لا يشجّع مؤسسات التمويل الدولية”.
تسير مؤسسات الصناعات الغذائية بلحمها الحيّ، وما يصعِّب مسارها في ظل الظروف الراهنة للبلد، هو أن “دورتها المالية طويلة وتتوزّع بين 6 إلى 8 أشهر في السنة، أي تلك الفترة بين شراء المنتجات الزراعية وتصنيعها وطرحها في السوق والاستفادة من عائداتها المالية، في حين أن دورة القطاع التجاري هي نحو شهرين”. ومع ذلك، يأمل أهل القطاع أن تسرِّع الدولة عملية الإصلاح ليستعيد الاقتصاد دورته الطبيعية وينعكس ذلك بشكل إيجابي على كل البلد.