يرزح الاقتصاد اللبناني تحت وطأة فوضى عامة إذ فقدت الليرة 99 % من قيمتها مقابل الدولار مع أكثر من نصف اللبنانيين الذين يعيشون حالياً في فقر، إضافة الى أن البنوك متعثّرة وغير عاملة. وقد وصف البنك الدولي انهيار البلاد بأنه إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية في التاريخ الحديث، مع تأكيده أنه مستعد لمدّ يد العون على أن يلتزم لبنان بالإصلاحات الأساسية التي من شأنها أن تساهم في استعادة استقرار الاقتصاد الكلي.
طريق الوصول إلى لا شيء
ومع ذلك، فإن لبنان يسير على الطريق الصحيح للحصول على لا شيء، لأن النخب الحاكمة خرّبت فعلياً عملية التفاوض مع صندوق النقد، وضلّلت الشعب حول حقيقة الوضع المزري في البلاد. وعوضاً من ذلك، ينفّذ قادة البلاد «خطة ظل» من خارج صندوق النقد، من شأن عواقبها أن تسحق معظم اللبنانيين.
لقد ازدهرت الطبقة الحاكمة في ظل النظام الاقتصادي الريعي، وقاومت تلك بشراسة محاولات الإصلاح، فهزمت المفاوضات الأولى للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد في العام 2020، تساندها النخب السياسية والمالية. وفي نيسان 2022، وقّعت الحكومة اللبنانية الجديدة «اتفاقاً أوّلياً على مستوى الموظفين» مع صندوق النقد؛ ولكن من أجل التوصل إلى اتفاق كامل لا يزال لبنان بحاجة إلى تنفيذ ما يقارب عشرة إصلاحات هيكلية، إلا أنه وبعد مرور أكثر من عام، لم يتحقّق شيء تقريباً.
سببان لتعثّر الإتفاق مع الصندوق
هناك سببان رئيسيان وراء توقّف المحادثات مع صندوق النقد، وكلاهما يتعلّقان بكراهية النخب اللبنانية الأساسية للإصلاح. ويتمحور السبب الأول حول أن الصندوق يتفاوض مع فريق لبناني رسمي لا يمثل الطبقة السياسية في البلاد، وهي واسعة النطاق وليست مستثمرة في خطة التعافي الرسمية للفريق اللبناني أو متحمّسة لتنفيذ الإصلاحات المتّفق عليها مع الصندوق، بل في الواقع، قد تآمرت ضدها. أما السبب الثاني فهو يعود الى الخطاب السياسي المليء بالروايات المناهضة للصندوق والمعلومات الخاطئة العامة. وقد أشبعت جماعات المصالح القوية، بما في ذلك البنوك ذات النفوذ السياسي في لبنان، وسائل الإعلام السياسية في البلاد بالأكاذيب، من بينها أن خطة التعافي الحكومية ستمحو بطريقة ما مدّخرات المودعين العاديين في البنوك، وبناء عليه حصل الشعب اللبناني على معلومات محدودة للغاية حول أين تقف فعلاً المحادثات مع صندوق النقد الدولي.
يشرح هذا التقرير المشترك الصادر عن «مبادرة سياسات الغد» و»سنشري إنترناشيونال» (سامي زغيب، وسام هيلر) سبب اضطراب المحادثات بين صندوق النقد ولبنان، وكيفية إنقاذها. ويستند التقرير إلى مقابلات مع أكثر من عشرين مسؤولاً لبنانياً حالياً وسابقاً وسياسيين وقادة وخبراء في المجتمع المدني؛ وممثلي الدول المانحة والمؤسسات الدولية.
يمكن تحسين الخطة بالتواصل
لا تزال هناك أمور يمكن للاعبين الرئيسيين داخل لبنان وخارجه القيام بها لردم هوّة صفقة صندوق النقد ونستطيع القول إن ثمة أملاً، إذ يمكن للصندوق تحسين خطته للتواصل حول عدم إحراز لبنان تقدّماً، والحفاظ على مشاركته المباشرة مع المشرعين. ومن جانبها، يتوجّب على الدول المانحة دعم التحقيقات الجنائية الجارية ضد النخب اللبنانية. وينبغي لهذه البلدان أيضاً أن تصمّم على المساعدة للحفاظ على القدرة المتبقية لمؤسسات الدولة. كما يجب عليهم الإصرار على أن توفّر الحكومة الموارد المناسبة لفريق التفاوض اللبناني. وينبغي على المجتمع المدني اللبناني والعناصر الإصلاحية في الحكومة مواصلة العمل لإطلاع الجمهور على محادثات الصندوق في لبنان، والمسائل التي لا تزال على المحك.
الشعب في ظلام دامس
ظلّ الشعب اللبناني في الغالب في الظلام بشأن تعاملات النخبة مع صندوق النقد، وهؤلاء اللبنانيون العاديون هم الذين عانوا حرماناً غير عادي نتيجة خيارات نخبهم غير المسؤولة، ويستحقون أن يعرفوا الحقيقة حول محادثات صندوق النقد في لبنان وحول الخطوات المقبلة، حتى يتمكّنوا من استعادة بعض القدرة للمساعدة في تقرير المستقبل الاقتصادي للبلاد، فلا تزال هناك فرصة لأن يقنع الضغط الشعبي قادة لبنان بالتصرّف بمسؤولية وإنقاذ صفقة صندوق النقد، الأمر الذي من شأنه أن ينقذ اقتصاد البلاد. لكن إذا تعذّر ذلك، يجب على الشعب اللبناني على الأقلّ أن يعرف كيف خذلته نخبه، حتى يتمكّن من محاولة محاسبتها.
تذكير تاريخي بأسباب الأزمة
بدأت الأزمة الاقتصادية في لبنان بشكل جدّي في العام 2019، إلا أنها كانت متجذّرة في الاقتصاد السياسي الريعي في البلاد بعد الحرب الأهلية والذي استلزم تدفّقات مستمرّة من رؤوس الأموال التي استثمرت في القطاعات غير المنتجة وساعدت في نمو القطاع المصرفي اللبناني إلى أكثر من ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد الوطني. وعندما بدأت هذه التدفّقات في التباطؤ في العام 2011، أصدرت الحكومات المتعاقبة والبنك المركزي المزيد من الديون وزادت أسعار الفائدة لجذب المزيد من رؤوس أموال المغتربين، ودفعوا التزاماتهم المقومة بالعملة الأجنبية مع تضاؤل كميّة الأموال الجديدة التي تدخل النظام، وكان ذلك عبارة عن مخطط بونزي على المستوى الوطني.
وبحلول منتصف 2019، بدأ هذا المخطط بالفعل في التراجع. ففي تشرين 2019، ردّت البنوك على الاحتجاجات الضخمة المناهضة للحكومة بإغلاق أبوابها ومنع المودعين من الوصول إلى حساباتهم. أثارت محاولة المصارف استباق التهافت على الودائع، أزمة ثقة في القطاع المصرفي، ما جعل الجهات المتداخلة من الدولة والبنك المركزي والمصارف التجارية متعثّرة، لتغرق البلاد من جرّاء ذلك في أزمة اقتصادية عميقة في الوقت الذي يواجه فيه نظامها السياسي أزمة كبيرة.
إجهاض محاولة حكومة دياب
وكان حسان دياب (رئيس الوزراء من كانون الثاني 2020 إلى أيلول 2021) أول زعيم لبناني يسعى للحصول على مساعدة صندوق النقد، قبل أن تهزم النخب السياسية والمالية خطة إنقاذ حكومته. وشكّل دياب، وهو أكاديمي ووزير سابق، حكومته في 21 كانون الثاني 2020، إثر استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري في تشرين الأول السابق. ومع تفاقم الأزمة، وافقت حكومة دياب على خطة إنقاذ مالي لتقديمها إلى البرلمان في 6 شباط، وأعلن دياب أن لبنان سيتخلّف عن سداد ديونه السيادية في 7 آذار وفي 1 أيار، طلبت حكومته رسمياً مساعدة صندوق النقد الدولي.
كان لبنان بحاجة إلى برنامج صندوق النقد من ضخ مباشر للأموال التي سيقدّمها، وللمساعدات الأخرى التي جعلها المانحون مشروطة ببرنامج الصندوق. بالإضافة إلى ذلك، سيساعد صندوق النقد في المفاوضات مع دائني لبنان، وستستعيد البلاد إمكانية الوصول إلى أسواق الإقراض الدولية كما سيتضمّن برنامج صندوق النقد أيضاً إصلاحات ضرورية للتعافي الاقتصادي للبلاد على المدى الطويل. ومع ذلك، تمرّدت المصالح القوية في لبنان ضد أي حلّ للأزمة الاقتصادية قد تضرّ بنوده بمصالحهم بشكل أو بآخر.
البنوك تتمرّد وتفرض شروطها
كانت الدولة، بما في ذلك البنك المركزي، قد راكمت خسائر فادحة من خلال دعم الليرة وتمويل الإنفاق المسرف للحكومات المتعاقبة. دعم مصرف لبنان الليرة بالعملة الصعبة المقترضة من القطاع المصرفي اللبناني بأسعار باهظة. وهكذا حقّقت البنوك أرباحاً كبيرة، لكنها انكشفت أيضاً وبشكل كبير أمام البنك المركزي. وعندما اندلعت الأزمة في 2019 ولم يتمكن البنك المركزي من سداد ديونه بالدولار، بدأ القتال حول من سيتحمّل الخسائر الفادحة: الدولة أو البنك المركزي أو البنوك التجارية أو من يحملون السندات؟ إن هذا النزاع هو جزء كبير من سبب استمرار الأزمة الاقتصادية لفترة طويلة.
وقدّرت حكومة دياب الخسائر مجتمعة بنحو 70 مليار دولار، بما في ذلك المليارات من الخسائر التي تراكمت من قبل البنك المركزي. وحدّت خطة رئيس الوزراء للإنقاذ، من اللجوء إلى أصول الدولة لتغطية تلك الخسائر. وعلى هذا فإن تغطية هذه الخسائر الفادحة تعني القضاء على رؤوس أموال المساهمين في البنوك، بل وحتى تحميل بعض مالكي البنوك المسؤولية الشخصية. وسرعان ما هاجم اللوبي المصرفي خطة دياب، التي زعموا أنها ستدمّر الثقة في اقتصاد البلاد.
نوّاب يناصرون سلامة والبنوك
وفي هذه الأثناء، كان فريق التفاوض الحكومي نفسه منقسماً حول حجم هذه الخسائر، وكيفية توزيعها حيث أصرّ طرف متحالف مع البنوك من داخل الفريق – بما في ذلك محافظ البنك المركزي – على أن تقدير خطة الحكومة للخسائر البالغة 70 مليار دولار كان مرتفعاً للغاية. وأراد تقديراً أقل بكثير، ورفض هذا الطرف أي تسوية تخسر فيها البنوك. وكانت اجتماعات فريق التفاوض حافلة بالجدل. تدخّلت لجنة برلمانية «لتقصي الحقائق» وتضمّ جميع الأحزاب الرئيسية لتحديد «القيمة الحقيقية» لخسائر القطاع المالي؛ وباستخدام بعض الافتراضات غير المعقولة، قدّرت الخسائر بنحو 33 مليار دولار فقط، وكان هذا ليحافظ على أسهم البنوك ويسمح لها بالاستمرار. وكانت النتيجة مسدودة الأفق، إذ تراجع أعضاء حكومة دياب عن خطة الحكومة، ولم يتبقّ سوى عدد قليل من المستشارين للدفاع عنها. وفي حزيران 2020، استقال أعضاء رئيسيون في فريق التفاوض احتجاجاً، مؤكدين أن المصالح الاقتصادية القوية تعمل على تقويض خطة الحكومة.
في 4 آب 2020، دمّر انفجار هائل مرفأ بيروت واستقالت حكومة دياب، وظلّت لأكثر من عام في تصريف الأعمال، مع تصارع الأحزاب حول تشكيل حكومة جديدة.
تقدّم ميقاتي الضئيل جداً
تمكّن نجيب ميقاتي الذي خلف دياب رئيساً للوزراء، من التوصل إلى اتفاق مبدئي مع صندوق النقد. ومع ذلك، توقّف التقدّم عندما اضطر القادة اللبنانيون بالفعل إلى متابعة الإصلاحات التي يفترض أنهم التزموا بها. وشكّل ميقاتي حكومة جديدة في أيلول 2021 التزمت منذ بداياتها باستئناف المفاوضات مع صندوق النقد، وسرعان ما أعلن ميقاتي أن الحكومة قد عيّنت فريقاً تفاوضياً جديداً برئاسة نائب رئيس الوزراء سعادة الشامي، وهو خبير اقتصادي مخضرم في صندوق النقد الدولي لمدة عشرين عاماً. تحرّك فريق الشامي بسرعة للتوصل إلى اتفاق مع الصندوق. وقال في كانون الأول 2021 إن فريقه اتفق على خسائر في القطاع المالي تتراوح بين 68 و69 مليار دولار (تقريباً التقدير نفسه أيام فريق دياب)، وأضاف أن المفاوضات الحقيقية مع صندوق النقد بدأت في أوائل عام 2022.
وفي 7 نيسان 2022، أعلن مسؤولون لبنانيون وصندوق النقد أنهم توصلوا إلى «اتفاق على مستوى الموظفين»، وهو اتفاق أوّلي بشأن برنامج إصلاحي. وقد استند هذا الاتفاق إلى برنامج الإصلاح الاقتصادي، والذي سيدعمه «تسهيل الصندوق الموسع» لمدة ستة وأربعين شهراً والذي سيشمل تمويلاً مباشراً من الصندوق بقيمة حوالي 3 مليارات دولار، والتزامات إضافية من المانحين تبلغ حوالي 10 مليارات دولار. ومع ذلك، تطلّبت موافقة مجلس إدارة صندوق النقد أولاً من لبنان إكمال عدد من الإصلاحات الهيكلية المتفق عليها، والتي يطلق عليها «الإجراءات المسبقة». والتزم لبنان بتنفيذ ما بين ثمانية وأحد عشر عملاً مسبقاً. وكان من المفترض أن تعيد هذه التدابير الحد الأدنى من الانتظام إلى الموارد المالية للبلاد وتوفر الأدوات القانونية والتنظيمية اللازمة لبرنامج صندوق النقد والانتعاش الاقتصادي في نهاية المطاف. وشملت الإجراءات المسبقة تدابير يجب اتخاذها من قبل مجلس الوزراء والبرلمان والبنك المركزي، على التوالي:
ما الإجراءات المطلوبة في الاتفاق؟
• موافقة مجلس الوزراء على استراتيجية لإعادة هيكلة البنوك واستراتيجية متوسطة الأجل للمالية العامة وإعادة هيكلة الديون.
• موافقة البرلمان على تشريع هيكلة البنوك، وقانون السرية المصرفية المعدل، وقانون ضوابط رأس المال، وميزانية عام 2022.
• أن يعمل المصرف المركزي على توحيد أسعار الصرف المتعددة، والتدقيق في الأصول الأجنبية لديه، وتسهيل إجراء تقييم بمساعدة خارجية لأكبر أربعة عشر مصرفاً تجارياً في لبنان.
إن هذه الإجراءات المسبقة ليست سوى شروط لاتفاق كامل مع صندوق النقد وللدخول في برنامجه. وعلى مدار البرنامج الذي يمتدّ لأربع سنوات، سيتعيّن على لبنان تلبية ثلاثين «معياراً هيكلياً» ومعايير أداء إضافية لإطلاق شرائح جديدة من التمويل.
حظي الاتفاق على الأقل علناً، بموافقة القيادة السياسية العليا في لبنان. وقد أيّدت «الرئاسات الثلاث» – رئيسه ورئيس وزرائه ورئيس مجلس النواب – الاتفاق علناً والتزموا بتنفيذ الإصلاحات المتّفق عليها. وكان فريق التفاوض اللبناني قد توصّل إلى اتفاق أولي على مستوى الموظفين قبل أكثر من شهر بقليل من الانتخابات البرلمانية في البلاد في 15 أيار 2022 وأرسلت الحكومة خطتها الاقتصادية إلى البرلمان في 20 أيار، بعد الانتخابات ومباشرة قبل دخول حكومة ميقاتي في وضع تصريف الأعمال. ولكن منذ ذلك الحين، لم يكمل قادة لبنان سوى عدد قليل من الإجراءات المسبقة.
السرية المصرفية عصيّة على الكشف
وتمكّن البرلمان من تمرير قانون جديد للسرية المصرفية في تشرين الأول 2022، بعد مراجعته بناء على ملاحظات صندوق النقد الذي أفاد بأن القانون لا يزال غير مكتمل. ويقال إن مشروع قانون ضوابط رأس المال (الكابيتال كونترول) الذي وافقت عليه «اللجان المشتركة» في البرلمان بعد سنوات من النقاش، غير مقبول من قبل الصندوق. وأقرّ البرلمان موازنة العام 2022 في أيلول الماضي، لكنها على ما يبدو لم تستوف معايير صندوق النقد الذي نصح بالنظر إلى موازنة 2023 بدلاً من ذلك. ولم يتم إحراز تقدّم يذكر في توحيد أسعار الصرف. وقيل إن مراجعة الأصول الأجنبية للبنك المركزي قد اكتملت، لكنها لم تنشر علناً ولم تبدأ مراجعة حسابات أكبر أربعة عشر مصرفاً تجارياً في البلاد.
وأدّى الخلل السياسي الأوسع نطاقاً إلى زيادة تعقيد الإصلاح؛ فمنذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في تشرين الأول 2022، تعثّر البرلمان بسبب غياب رئيس، ورغم أن اللجان مستمرّة في العمل، إلّا أن الأمر يتطلّب قراراً استثنائياً لعقد جلسة عامة للتصويت على أي أمر آخر غير الرئاسة.
لا يزال لبنان بعيداً عن التوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد. ففي تشرين الأول 2022، قالت رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا إن الاتفاق على مستوى الموظفين في وقت سابق من ذلك العام كان بالفعل «سبباً للاحتفال»، لكنه «لن يتحقّق كمصدر للنمو والفرص للبنان إلّا إذا نفّذ القادة اللبنانيون الإجراءات السابقة التي وافقوا عليها، وأضافت: «لا يزال هناك هذا الشلل». وحذّر مسؤولو الصندوق في ختام مهمتهم إلى لبنان في آذار 2023 من أنه من دون إصلاح عاجل، فإن البلاد «ستغرق في أزمة لا تنتهي».
سعادة الشامي وحيداً تقريباً
هناك سببان رئيسيان لتوقّف محادثات صندوق النقد في لبنان، وكلاهما يتعلّقان بكراهية الطبقة السياسية الأساسية للإصلاح. السبب الأول هو البنية المعيبة لمفاوضات الدولة مع صندوق النقد الدولي – أي أنها مبنية على مشاركة صندوق النقد الدولي مع فريق تفاوض لبناني رسمي لا يمثل الطبقة السياسية في لبنان. ولا تزال هذه الطبقة غير مقتنعة ببرنامج الصندوق ومعادية للإصلاحات التي تهدّد المصالح الراسخة.
والمحاورون الرئيسيون لصندوق النقد في لبنان هم السلطات المحلية، لكن مسؤولي الصندوق يتعاملون أيضاً مع مجموعة أوسع من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني. وتؤدي البلدان المانحة أيضاً دوراً مساعداً، حيث تجتمع بانتظام مع صندوق النقد وتدعو محلياً إلى الإصلاحات التي يطلبها الصندوق. كما ينخرط بعض الدبلوماسيين ويتواصلون مع الوزراء والسلطات المصرفية وأعضاء البرلمان لدفع تدابير إصلاحية معينة. ولكن، لسوء الحظ، فإن فريق التفاوض الذي يتحدث باسم لبنان في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لا يمثل المؤسسة السياسية في البلاد، ولا تحظى مواقفه بدعم سياسي أوسع. وإلى جانب الشامي، يضمّ الفريق ظاهرياً أيضاً صنّاع السياسات الاقتصادية الرئيسيين في البلاد، بمن فيهم وزير المالية يوسف خليل، وأمين سلام وزير الاقتصاد والتجارة وحاكم البنك المركزي رياض سلامة. لكن من الناحية العملية، غالبا ما يبدو الشامي العضو النشط الوحيد في الفريق، وليس لديه موظفون متخصّصون.
يذهب إلى مكتبه ويكلّم نفسه
إن الشامي هو صلة الاتصال المحلية لصندوق النقد ويتلقّى مراجعات إيجابية عموماً لكفاءته ومهنيته، بما في ذلك من الجهات الفاعلة المحلية في المجتمع المدني والمسؤولين الأجانب. وهو يفهم القضايا التي تجري مناقشتها ويمكنه ترجمة متطلّبات الصندوق لصنّاع القرار اللبنانيين. ومع ذلك، ليس لدى الشامي أي حزب سياسي خلفه، ولا سلطة خاصة به لذا لا يمكنه أن يملي على أعضاء آخرين في فريقه، أو على الآخرين في السياسة اللبنانية. فالشامي «يعمل وحده»، كما وصفه شخص مشارك في مفاوضات لبنان إذ قال: «يذهب إلى مكتبه، ويغلق بابه، ويتفاوض مع نفسه، بشكل فعّال». ويرأس الشامي اجتماعات فريق التفاوض، بينما الوثائق ومشاريع التشريعات التي يصدرها تتمّ الموافقة عليها ظاهرياً من قبل جميع أعضاء الفريق. ومع ذلك، فإن الشامي وحده هو الذي يدافع علناً عن مقترحات الفريق ويدافع عن اقتراح الإصلاح الذي يسميه المعارضون «خطة سعادة الشامي». وبالتالي، يفتقر اتفاق لبنان مع الصندوق – وخطة الإصلاح التي تشكل أساس ذلك الاتفاق – إلى قبول سياسي واسع. فالسياسيون في البلاد ليسوا مستثمرين في «خطة سعادة الشامي» أو متحمسين لتنفيذ إصلاحات ينظرون إليها بعين الريبة.
الإجراءات المسبقة في طيّ النسيان
بطبيعة الحال، ليس البرلمان العقبة الوحيدة أمام الإصلاح فالمصرف المركزي اللبناني مسؤول أيضاً عن العديد من الإجراءات التي لا تزال أيضاً غير مكتملة وثمة غموض حول الدور الذي سيؤديه بالعملية في المستقبل. ومع ذلك، فإن البرلمان هو المكان الذي كان فيه الانفصال أكثر وضوحاً بين الطبقة الحاكمة في لبنان وممثلي البلاد الظاهريين في مفاوضات الصندوق.
ويوضح إقرار قانون السرية المصرفية الجديد في لبنان كيف أن هذا الانفصال يجعل دفع الإجراءات المسبقة من خلال البرلمان أكثر صعوبة؛ ففي تموز 2022، أقرّ البرلمان قانوناً جديداً للسرية المصرفية، ولكن اعتبره الصندوق غير مقبول. وفي أيلول، أعاد الرئيس عون القانون إلى البرلمان لمراجعته مرة أخرى. وفي تشرين الأول، أقرّ البرلمان قانوناً معدّلاً تناول بعض ملاحظات الصندوق لكن لم يكن القانون مرضياً تماماً. ومن الواضح أن صندوق النقد لن يوقّع على «إصلاحات» شكلية خالية من الجوهر، لكنّ المشرعين يشكون من أن الصندوق لن يقبل التشريعات التي يعتبرونها جيدة بما فيه الكفاية. وقال النائب ابراهيم كنعان إن الصندوق رفض مراراً مشروعات قوانين لضوابط رأس المال لأنها لا تمثل سوى «80 %» ممّا يطالب به وإنه يريد الباقي أيضاً. ومع ذلك، من غير المرجّح أن يكون صندوق النقد مرناً، نظراً لضآلة التقدم الذي أحرزه القادة اللبنانيون.
رغم أن قانون السرية المصرفية وقانون ضوابط رأس المال بسيطان نسبياً، مع ذلك، تمّ تمرير الأول بطريقة غير مكتملة، ولم يتمّ تمرير الأخير على الإطلاق، بعد أكثر من ثلاث سنوات وعشرات الدورات للجنة المال والموازنة. وعلى النقيض من ذلك، فإن إطار الحل المصرفي أكثر تعقيداً.
دبلوماسي غربي: «كلن يعني كلن»
وقال دبلوماسي غربي «القضية ليست متعلّقة بأفراد سياسيين بل بكلهم». وفي الوقت نفسه، ليس من الواضح ما إذا كان التشريع الذي صاغه الشامي بالتشاور مع صندوق النقد وسلّمه إلى البرلمان يحظى بدعم حقيقي من حكومة ميقاتي. وقال غسان حاصباني، عضو لجنة المال والموازنة، إنه تمّ إرسال مشروع قانون إعادة هيكلة البنوك عن طريق البريد، «لكنّ أحداً لن يتحمّل المسؤولية عنه، ولا حتى الحكومة. أعتقد أنها بطاطا ساخنة».
ومع ذلك، حاول صندوق النقد تكييف نهجه مع النظام السياسي اللبناني والذي كما يراه، يطرح تحديات خاصة بالنسبة إلى برنامجه. فبعض المقاومة لمواقف الصندوق أمر طبيعي في البلدان التي تتعامل معه إلّا أن السياسة اللبنانية مجزّأة بشكل خاص. فالسلطة التنفيذية في البلاد ضعيفة نسبياً، ولا يتمتّع رئيس الوزراء بأغلبية برلمانية يمكن أن تدفع بتشريعات الإصلاح، ويبدو أن الأحزاب السياسية لا تمارس سوى القليل من الانضباط على أعضائها، الذين يتّخذون مواقف مستقلة ومتضاربة بشأن محادثات الصندوق والإصلاحات الرئيسية؛ إن النظام مليء بلاعبي حق النقض.
تأييد سياسي رئاسي وهمي
واتّخذ صندوق النقد مقاربة خاصة للبنان عندما طلب، على سبيل المثال، تأييد الاتفاق من «الرئاسات الثلاث» في البلاد، وعمل على إشراك «السلطات» اللبنانية على نطاق واسع. ويعمل الصندوق عادة بشكل وثيق مع الهيئات التنفيذية بما في ذلك وزارة المالية والبنك المركزي. ولكن وزارة المالية، على سبيل المثال، ضعفت خلال الأزمة ولديها الآن قدرة محدودة للغاية، لذا حثّ صندوق النقد على إشراك مشرّعين مثل ابراهيم كنعان ورئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان. ومنذ شباط، التقى الممثل المقيم ومسؤولون آخرون في الصندوق أيضاً مجموعةً من المشرّعين من مختلف الأحزاب بدعوة من فؤاد مخزومي، عضو البرلمان، لنقل وجهات نظر الصندوق بشكل مباشر حول التشريعات المقبلة. كما كان صندوق النقد صريحاً بشكل خاص في تصريحاته العامة، من توضيحه الإجراءات السابقة المتفق عليها مع لبنان في إعلان نيسان 2022 عن اتفاق البلاد على مستوى الموظفين إلى التعليقات النقدية التي قدّمتها لاحقاً. ومن المرجح أن يكون التقرير المقبل لصندوق النقد استناداً إلى بعثته إلى لبنان في آذار 2023 فرصة لمزيد من التفصيل بشأن مواقفه.
نظام مفكّك بكثير من اللاعبين
ومع ذلك، فحتى مشاركة صندوق النقد الأوسع نطاقاً لها حدود حيث في نظام مفكّك مثل النظام اللبناني، على الصندوق أن يلتقي عدداً كبيراً من اللاعبين؛ وحتى مع أفضل مقاربة للمشاركة المحلية، لا يستطيع الصندوق بطريقة ما إجبار صنّاع القرار اللبنانيين الرئيسيين على الإصلاح، وكما قال كريم ضاهر، وهو محامٍ ورئيس هيئة المودعين في نقابة المحامين في بيروت: «إن صندوق النقد الدولي ليس مفوّضاً سامياً أو قوة أجنبية صانعة قرار».
مناظرة مختلة بين الصحيح والمضلّل إن السبب الرئيسي الثاني وراء توقف محادثات صندوق النقد في لبنان هو الخطاب السياسي المليء بالروايات المناهضة للصندوق والمعلومات العامة الخاطئة. وقد روّج معارضو الإصلاح أن خطة التعافي ستمحو الحسابات المصرفية العادية للناس، الأمر الذي أعاث ارتباكاً وشكوكاً. وقد أدّت عدم الشفافية في مشاركة المحادثات مع صندوق النقد الى عدم فهم الشعب ماهيتها أو المشاركة فيها بشكل أكثر نشاطاً. وعلى الرغم من أن تصريحات الصندوق حول التقدّم المحرز في الإصلاح في لبنان كان أكثر مما كان عليه في بعض البلدان الأخرى، إلا أن تواصله العام كان محدوداً علماً أن إطلاع الجمهور على محادثات صندوق النقد عادة ما يكون من مسؤولية الحكومة المحلية، وليس الصندوق وهو غير مفوّض بالتحريض ضد السلطات المحلية. ففي لبنان، يقع على عاتق الشامي بشكل أساسي إعلام الجمهور والدفاع عن برنامج الصندوق، أما بقية أعضاء الحكومة فقد غابوا إلى حد كبير وغيابهم دليل على الالتزام الفاتر لميقاتي وبعض أعضاء مجلس الوزراء بالحصول فعلياً على برنامج من صندوق النقد.
روايات وشائعات ومعلومات خاطئة
وفي الوقت نفسه، انتشرت الروايات المضادة والمعلومات الخاطئة حول الاقتصاد والإصلاح في وسائل الإعلام السياسية اللبنانية الصاخبة والمثيرة والمليئة دائماً بالشائعات والتكهّنات والاختراع الخالص. وعملت جماعات المصالح المؤثرة على إثارة النقاش الوطني حول محادثات صندوق النقد الدولي في لبنان، وما هو على المحك حقاً. وقالت سيبيل رزق، مديرة السياسات العامة في «كلنا إرادة»: «إن المستفيدين الحقيقيين في النظام اللبناني يزدادون قلة لكنهم هم الذين ينتجون الخطاب».
وهناك الكثير من الروايات الشعبية المناهضة لصندوق النقد، وكان أحد أقوى هذه التحديات هو الإصرار الشعبوي الزائف على «استرداد الودائع» ومناصرة «المودعين». ويزعم أنصار هذه الرواية أن خطة التعافي الحكومية سوف تمحو مدّخرات المودعين العاديين في البنوك. وقد أشارت رواية أخرى إلى أن احتياطيات الغاز الطبيعي في المياه الساحلية اللبنانية يمكن أن تكون بمثابة آلة لحل الأزمة الاقتصادية في البلاد، ما يغني عن الحاجة إلى برنامج صندوق النقد الدولي والإصلاحات ذات الصلة. ومع ذلك، افترضت سردية أخرى أن الحل الحقيقي للأزمة الاقتصادية في لبنان يكمن في إصلاح علاقات البلاد مع الخليج العربي، وبشكل أكثر تحديداً، تسمية رئيس ورئيس حكومة لبنانيين يحظيان بدعم سعودي وخليجي. ويتمّ الترويج لهذه السرديات في وسائل الإعلام اللبنانية للاستهلاك الشعبي، ولكن يبدو أنها أثرت أيضاً في نفوس النخب وصنّاع القرار. وقال دبلوماسي غربي: «الآن نسمع المحاورين اللبنانيين يقولون: حسناً، لدينا غاز، لذلك نحن لسنا بحاجة إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي». وتبدو بعض هذه الروايات وكأنها تعتيم وخداع متعمّد على سبيل المثال، عادة ما تتجاهل المبالغة الشعبوية حول «المودعين» التمييز بين صغار المودعين وكبار المودعين، وكيف تتباعد مصالحهم، فكبار المودعين هم الأكثر خسارة في إعادة هيكلة القطاع المصرفي في لبنان. وغالباً ما تستخدم هذه الرواية للمطالبة بمساهمة كبرى من قبل الدولة في أي انتعاش للقطاع المالي، لصالح عدد قليل من كبار المودعين والبنوك التجارية. وتؤدّي روايات أخرى دوراً في أمراض متأصلة في السياسة اللبنانية إذ يعود تركيز بعض الأحزاب على تهدئة دول الخليج والعودة إلى حقبة ماضية كانت فيها ممالك الخليج مستعدة لدعم الفساد والخلل الوظيفي في لبنان.
كذبة أن الإقتصاد يتوازن
في الأثناء فإن النخبة السياسية والتجارية في البلاد ترى أن الاقتصاد يستقرّ عند توازن جديد، وبناء عليه فإن برنامج صندوق النقد ليس ضرورياً في الواقع. وقال أحد مسؤولي الأحزاب السياسية أواخر العام الماضي: «أعتقد أن الجميع يشعر بذلك»، مضيفاً أن « 2022 أفضل من 2021»؛ إلّا أن هذه الرواية ضيقة الأفق، فإذا كان لبنان في توازن جديد فمن الواضح أنه أمر سيّئ بالنسبة إلى معظم اللبنانيين. ومع ذلك، من المرجح أن يحدّد هذا الرأي المسار القادم للبلاد. وقد حاول الشامي إطلاع الجمهور على التطوّرات الجديدة ودحض مختلف حالات سوء الفهم والأكاذيب في البيانات الصحافية ومقالات الرأي والمقابلات، كما حضر بانتظام اجتماعات اللجان البرلمانية للدفاع عن خطة الحكومة للإنعاش الاقتصادي والضغط من أجل مشاريع قوانين هي من بين الإجراءات السابقة المتفق عليها مع صندوق النقد. ومع ذلك، هناك حدود لقدراته، لا سيما مع عدم وجود موظفين للتواصل، إذ على الرغم من أنه صاغ القضايا بشكل أساسي من الناحية الفنية وغير السياسية، إلا أن ظهوره الإعلامي قد ورّطه في بعض الأحيان في خلافات عديدة.
المصارف اللبنانية والإنتاج السردي
كانت المصارف في طليعة المعارضة النخبوية لهذا النوع من الإصلاحات التي يسعى إليها صندوق النقد، فعلى الرغم من تعثّراتها، لا تزال مؤثرة للغاية في السياسة اللبنانية، فالطبقات السياسية والمالية في البلاد متشابكة بعمق. وهذه المصارف هي أيضاً الراعي الرئيسي لوسائل الإعلام الشعبية. وقال المحامي كريم ضاهر إن العديد من البرامج على القنوات «هي في الأساس بيانات صحافية وتبث معلومات مضلّلة بحتة». كما أن العديد من البرامج على محطات التلفزة لها تأثير على الرأي العام على نطاق واسع وعلى مواقف نخبة السياسيين وصنّاع القرار. إضافة الى ذلك، هناك بعض الانقسامات الواضحة داخل القطاع المصرفي حول مدى ضرورة برنامج صندوق النقد، لكن ذلك لم يمنع جمعية المصارف من ممارسة ضغوط شرسة ضد أي تسوية يخسر فيها القطاع المصرفي. وبالنسبة إلى البنوك، فإن المخاطر كبيرة ومن المرجّح أن تؤدي إعادة هيكلة القطاع المصرفي الضعيف في البلاد إلى القضاء على رأس مال المساهمين في البنوك بعد إعادة رسملة البنوك التي لا تزال مستمرّة، وتقليص عددها الذي يزيد على خمسين مصرفاً في البلاد إلى أقل من اثني عشر مصرفاً. وبالتالي، فإن العديد من مالكي البنوك والمساهمين – بمن فيهم السياسيون الأقوياء – لديهم حوافز قوية لمقاومة إعادة هيكلة القطاع بما يتماشى مع أفضل الممارسات الدولية.
الخطاب السياسي اللبناني حركي وفوضوي
ولكن معارضة برنامج صندوق النقد الدولي وتوليد الروايات المعارضة للإصلاح لا يعتمدان على جماعة ضغط قوية واحدة فقط. فالخطاب السياسي في لبنان حركي وفوضوي وهو ينتج دائماً روايات جديدة تعطّل الإجماع المحلي على الحاجة إلى الإصلاح وبرنامج صندوق النقد. والنتيجة هي نقاش عام دائري وفارغ حول برنامج صندوق النقد الدولي وإصلاحاته، ينشر بين صفوف الشعب إرباكاً ويشلّ حركته. وإذا كان الناس العاديون لا يستطيعون فهم أين يقف لبنان حقاً مع صندوق النقد الدولي، فكيف يفترض بهم أن يُسمعوا صوتهم وأن يطالبوا ممثليهم في الحكومة والبرلمان؟
خطة الظل: إدامة الوضع الراهن
يبدو أنه من غير المرجح حالياً أن يدخل لبنان في برنامج مع صندوق النقد، ويرجع ذلك أساساً إلى أن النخب لا تريد ذلك. ويعلن السياسيون بانتظام التزامهم التوصل إلى برنامج مع الصندوق، ويصرّون على عدم وجود بديل له. ومع ذلك، فإن تباطؤ الطبقة السياسية وفشلها في السعي إلى الإصلاح يكذّبان هذه التعهّدات وتفضل هذه النخب التقاعس عن العمل، وإدامة الوضع الراهن. وقال دبلوماسي غربي: «قانون ضوابط رأس المال يمكن أن يكون مادة من عشرة أسطر لكن ليست هناك نية لذلك، ونحن في حالة انتظار منذ عام 2020». كما قالت رزق من «كلنا إرادة»: «تبرّع النخب في البلاد في إقناع الناس بأنهم يتّجهون إلى مكان ما، في حين أنها في الواقع تشتري الوقت فقط». وقد استبعد معظم دبلوماسيي الدول المانحة سرّاً إمكانية دخول لبنان في برنامج صندوق النقد الدولي. وهم يشتبهون في أن كبار القادة السياسيين يفعلون الحدّ الأدنى حتى لا ينظر إليهم على أنهم يعرقلون الإصلاح.
وبدلاً من برنامج صندوق النقد، دخل لبنان عدة سنوات في ما أسماه البعض «خطة الظل». وترتكز بشكل أساسي على تحويل التزامات البنوك إلى صغار المودعين بالليرة وفق أسعار صرف غير مواتية إلى حد كبير. وقال خبير مالي لبناني «الحلّ بالنسبة لهم هو ليلرة جميع الودائع بالعملات الأجنبية تدريجياً، عندها لن تكون هناك مشكلة بعد الآن، بخلاف التضخّم المفرط، حيث سيدفع الجمهور بأكمله الثمن».
سيتآكل رأس المال البشري
وفي الوقت نفسه، سيبقى النموذج الاقتصادي اللبناني غير منتج، مع القليل من الاستثمار في البنية التحتية أو الصناعة. وسيعزّز اقتصاد البلاد القائم على «الكاش» التهرّب الضريبي وغيره من الأنشطة غير المشروعة وبشكل متزايد. وسوف يتعمّق عدم المساواة، وسيتآكل رأس المال البشري، ليعيش العديد من الفقراء في البلاد على التحويلات المالية والمساعدات الخارجية ما سوف يؤدي الى ذبول الدولة. ويعتقد الخبراء أن خطة الظل هذه يمكن أن تنجح من الناحية الفنية بمعنى أنها ستوازن دفاتر البنوك، وتحقّق الاستقرار في الاقتصاد عند مستوى جديد منخفض للغاية ولكن بتكلفة بشرية رهيبة. ولا تخدع النخب اللبنانية نفسها تماماً عندما تقول إن الاقتصاد اللبناني يقترب من توازن جديد، إذ وفقاً لبعض المؤشرات فإن الاقتصاد يتعافى بالفعل والقطاع الخاص أفضل حالاً، بمساعدة التحويلات المالية والسياحة. كما أن المعاملات العقارية والأسعار في زيادة. وكانت الواردات في عام 2022 متساوية تقريباً في القيمة مع واردات 2019. ومع ذلك، فإن هذا «الانتعاش» هو كارثة بالنسبة إلى معظم اللبنانيين.
ماذا على الدول المانحة فعله؟
قد يكون لدى الدول المانحة نفوذ محدود للضغط من أجل التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد. نفوذها الأقوى هو حجب الدعم لإنقاذ الاقتصاد اللبناني، وهو النفوذ الذي استخدمته بالفعل. لكن لا يزال بإمكانها فعل المزيد للضغط من أجل الإصلاح والمساءلة، إذ يتوجب عليها دعم التحقيقات الجنائية مع النخب اللبنانية الجارية الآن في لبنان والخارج، وتسهيل عمل سلطات التحقيق بكافة الطرق الممكنة؛ وعليها أيضاً أن تفكر في الكيفية التي يمكن لدعمها مؤسسات الدولة اللبنانية أن يحسّن آفاق الإصلاح والانتعاش الاقتصادي في لبنان. إن استنفاد مؤسسات مثل وزارة المالية يقلّل إلى حدّ كبير قدرة البلد على الإصلاح وينبغي للمانحين أن يصمّموا على مساعدتهم وشروطهم للحفاظ على تلك الخبرة المحدودة وتوسيع نطاقها وللحفاظ على القدرة المؤسسية. كما يجب عليهم مطالبة الحكومة بتوفير الموارد المناسبة لفريق التفاوض اللبناني، بما في ذلك دفع رواتب موظفي العلاقات العامة. كما يجب على هؤلاء المانحين النظر في توفير أموال حتى يتمكن الفريق بالفعل من إبقاء الجمهور على علم بتقدم المحادثات. إنه الشعب اللبناني الذي تشكّل له محادثات صندوق النقد في لبنان أهمية كبيرة، ويتعين عليه أن يقرر مستقبل البلاد الاقتصادي ويستحق أن يطلع على مفاوضات الصندوق حتى الآن، وأن يفهم إلى أين تتجه البلاد.
ما المتوجّب على المجتمع المدني؟
ينبغي على مجموعات المجتمع المدني المعنية والعناصر الإصلاحية في الحكومة مواصلة العمل على تثقيف الجمهور اللبناني حول واقع الوضع، وأسس تعامله مع صندوق النقد. وبالحصول على معلومات أفضل، يؤمل في أن يتمكّن الجمهور من الاضطلاع بدور أكثر نشاطاً ومشاركة، والضغط على القادة السياسيين في البلاد للتعامل مع صندوق النقد بقدر أكبر من المسؤولية. كحد أدنى، يجب أن يعرف الناس العاديون ما هو التالي للبنان، حتى يتمكنوا من صياغة استراتيجياتهم الخاصة للنشاط السياسي والتضامن والدعم المتبادل، حتى في الوقت الذي تسعى فيه النخب إلى “خطة الظل” على حساب الجمهور.