حقّق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا أرباحاً وصلت إلى أكثر من نصف مليار دولار (مع احتساب الفوائد)، عبر شركة تقاضت عمولة على أعمال لم تقم بها، وتعاملت مع زبائن لم يعلموا بوجودها، ومن المؤكد – تبعاً لذلك – أنهم لم يكونوا مصدر أرباحها. هذا ما تؤكده محاضر تحقيق، اطّلعت عليها «الأخبار»، مع رؤساء ثلاثة من أكبر المصارف في لبنان، قالوا إنهم لم يتعاملوا يوماً مع هذه الشركة – الشبح، ولم يعتمدوا يوماً أي «كومسيونجية» في معاملاتهم مع مصرف لبنان. وعليه، إن لم يكن من المال العام وأموال المودعين، من أين أتى مبلغ الـ 326 مليون دولار التي حُوّلت إلى حسابات الشركة في سويسرا عبر معاملات مصرفية مصدرها مصرف لبنان؟
يتمحور التحقيق الذي تجريه الوفود القضائية الأوروبية في لبنان حالياً، كما التحقيقات التي أجراها القضاء اللبناني، حول شركة «فوري» (Forry associates Ltd) التي أطلقت شرارة الاشتباه في ضلوع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا في عمليات اختلاس وتبييض أموال وإثراء غير مشروع. في إفادته أمام المحامي العام المالي جان طنوس في الخامس من آب 2021، أقرّ الحاكم بأنه وقّع عام 2002 عقداً مع الشركة لتقديم خدمات مالية متصلة بإدارة سندات الدين اللبنانية بالعملات الأجنبية، مقابل عمولة.
بعيداً عن الشبهات التي تحيط بتأسيس «فوري» لجهة عدم حيازتها رخصة من مصرف لبنان للقيام بأعمال الوساطة المالية، ما يعدّ مخالفة قانونية، ولجهة وجود نسختين مختلفتين من العقد الموقع معها، حاجج محامو سلامة، أمام الادعاءات الأوروبية عليه بتهمة الاختلاس، بأن عمل «فوري» كان ينحصر، ببساطة، في الإتيان بـ«زبون» لشراء سندات الخزينة من مصرف لبنان، على أن تتقاضى عمولتها من «الزبون» لا من المصرف المركزي. فأين الاختلاس؟ أكثر من ذلك، نفى سلامة في التحقيق معه «أن يكون على اطلاع على أي تفاصيل حول كلفة العمولة بين المصارف والوسطاء لأن هذا الأمر شأن خاص بينهم».
«الوسطاء»، هنا، هم الشركة المسؤولة عن خروج أكثر من 326 مليون دولار من مصرف لبنان إلى حسابات الأخوين سلامة. لكن المفارقة أن كل «الزبائن» المعنيين بعملها يدّعون أنهم لم يعلموا بوجودها من أساسه. ففي الاستجواب الذي أجراه طنوس في 2/11/2021 لثلاثة من رؤساء مجالس إدارات المصارف الكبرى في لبنان، والتي يُفترض أنها معنية بعمل الشركة وتملك حسابات لرجا سلامة، زعم هؤلاء أنهم لم يعملوا يوماً مع «فوري»، وبعضهم لم يسمع بها حتى، ولا يعرف رجا سلامة! تماماً كما سبق أن أكّد أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان أمام القضاء أنهم «لم يسمعوا» بهذه الشركة.
رئيسة مجلس إدارة «بنك ميد» ريا الحسن شدّدت أمام طنوس على أن بنك البحر المتوسط «لم يتعامل يوماً مع شركة فوري لإجراء أي عملية على أوراق مالية حسب علمي»، بل أكثر من ذلك، «لم يتعاقد البنك يوماً مع أي وسيط». وأكّدت أنها منذ أن تولت مهامها في المصرف «لم أجتمع يوماً برجا سلامة لإجراء عمليات مالية بين المصرف ومصرف لبنان». وفي السياق نفسه أيضاً، صبّت أقوال رئيس مجلس إدارة بنك الاعتماد اللبناني جوزف طربيه. إذ أكد أنه «لم أتعامل يوماً مع شركة فوري، ولم يسبق أن سمعت بها قبل بروز اسمها في الإعلام»، مشيراً إلى أن «بنك الاعتماد اللبناني يتعامل مباشرة مع مصرف لبنان، ولا علم لديّ بأن هناك وسيطاً خارجياً بين الاعتماد ومصرف لبنان». فيما كان رئيس مجلس إدارة بنك عوده سمير حنا حاسماً بأن البنك «لا يتعامل مع كومسيونجية»، و«لا يتعامل مع مصرف لبنان عبر وسطاء»، و«سمعت بشركة فوري للمرة الأولى عند ظهور قضية التحويلات السويسرية في الإعلام».
كيف تمكنت الشركة – الشبح، إذاً، من تقاضي 326 مليون دولار عمولة على أعمال نفّذتها لمصلحة زبائن لم يسمعوا بها؟ وهل كان الحاكم ومساعدوه ومحاموه يلعبون «مونوبولي» وينفّذون أعمال الشركة «على الورق» ويتقاضون العمولة من دون معرفة «الزبائن»، وهو ما يتساوق مع ادعاءات الادعاء العام السويسري بأن «فوري» شركة وهمية استغلها سلامة للحصول على أموال مصرف لبنان؟
قد يكون هذا صحيحاً، لكن ليس من الضروري أن يكون كل ما أدلى به المصرفيون الثلاثة صحيحاً. هل يمكن تصديق، مثلاً، أن طربيه، الرئيس السابق لجمعية المصارف، تجمعه بشقيق حاكم مصرف لبنان «معرفة اجتماعية لا علاقة لها أبداً بالأعمال المصرفية»، إلى درجة «أنني لم أكن أعلم أنه أحد زبائن بنك الاعتماد اللبناني»، و«لم أعرف يوماً بالتحقيق معه حول أي تحويلات مالية وصلت الى حسابه من سويسرا». وبالمثل، قالت الحسن إنها لا تعرف رجا سلامة الذي التقت به «صدفة في أحد المؤتمرات… ولا أعرف القطاع الذي يعمل فيه». فيما تعود معرفة حنا به إلى «أربع سنوات مضت… ولم يسبق أن أثار معي أي مسألة تتعلق بسندات خزينة أو بسندات يوروبوندز أو بإيداعات لدى مصرف لبنان».
المصرفيون الثلاثة أجمعوا على أن مصارفهم تلتزم أعلى معايير الشفافية والأمان ومبدأ «اعرف عميلك» (KYC). وأكدت الحسن أن «بنك ميد يلزم جميع عملائه تعبئة استمارة اعرف عميلك ومعرفة مصادر دخله». وقال طربيه إن بنك الاعتماد «أول المصارف» التي اعتمدت هذه الاستمارة التي «يجب على جميع الزبائن تعبئتها بكاملها بما فيها مصادر الدخل». رغم ذلك، لا يعرف أحد «عميلاً»، هو شقيق للحاكم ويتعامل بعشرات ملايين الدولارات. فيقول أحد الثلاثة إنه لم يعرف أنه من زبائن مصرفه، وتقول أخرى إنها لم تكن تعرف مجال عمله، في زمن كانت فيه المصارف تبعث برسائل معايدة لزبائنها في أعياد ميلادهم، قبل أن تحوّلهم متسوّلين على أبوابها.
الشركة – الشبح
في 20 أيلول 2001 أسس رجا سلامة شركة «فوري» التي يُعتقد إلى حد كبير أنها واجهة لأعمال الأخوين سلامة. تاريخ التأسيس، هنا، له دلالته. إذ «صادف» بعد شهور قليلة على انعقاد مؤتمر «باريس 1» في العاصمة الفرنسية. ما العلاقة بين الأمرين؟
كان الاقتصاد اللبناني قد دخل عام 2000 مرحلة انكماش. زاد العجز المالي وارتفع الدين العام إلى 151% من حجم الناتج المحلي. في تشرين الثاني من ذلك العام، شكّل رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري حكومته الرابعة، ووضع برنامجاً «إصلاحياً» لوضع حد لتزايد الدين العام. لجأ الحريري إلى صديقه الرئيس جاك شيراك لعقد اجتماع دولي للهيئات المانحة لدعم لبنان. وبالفعل، عُقد مؤتمر «باريس 1»، في 27 شباط 2001 في قصر الإليزيه، في حضور رئيس البنك الدولي ورئيس المفوضية الأوروبية ونائب رئيس البنك الأوروبي للاستثمار، لمناقشة «الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة للحكومة اللبنانية». انتهى المؤتمر بتعهد المجتمع الدولي بتقديم 500 مليون يورو للبنان على شكل مساعدات وقروض ميسرة كمساعدة أولية، واتفق على تنظيم مؤتمر موسّع في 23 تشرين الثاني 2002 بمشاركة عدد من الدول المانحة، وبدأ تحضير جدول أعمال المؤتمر وفقاً لشروط مالية واقتصادية ومصرفية طلبها المانحون المفترضون.
كان واضحاً أن «استراتيجية الحكومة» لم تلق قبولاً، وأن على لبنان أن يبذل جهداً أكبر قبل موعد «باريس 2». مارس الأميركيون والفرنسيون ضغوطاً كبيرة، واستضاف الإليزيه اجتماعات عدة للبحث في ما يمكن للبنان أن يقدّمه. واحد من هذه الاجتماعات ساده جو من التوتر هدّد بعدم انعقاد النسخة الثانية من المؤتمر. عن هذا الاجتماع تحديداً، يروي رياض سلامة في وثائقي «الحاكم بأمر الليرة» (أعدّه الصحافي جورج غانم) الآتي: «كان السؤال: لماذا نعطي لبنان قروضاً بفوائد مخففة من دون أن يبذل اللبنانيون أي جهد؟ توتر الجو في قصر الإليزيه بشكل كبير إلى حد التلويح بعدم عقد باريس 2. هنا، اقترحت على الموجودين خطة تقوم على اكتتاب المصارف في سندات الخزينة بأربعة مليارات دولار، ما يساوي 10 في المئة من ودائعها، لمدة سنتين بفائدة صفر في المئة، الأمر الذي يوفّر خدمة دين على لبنان. إذ كانت الفائدة آنذاك 13%».
لقيت «خطة» سلامة قبولاً من مختلف الأطراف. انعقد «باريس 2»، وحصل لبنان على وعود مالية بقيمة 4.4 مليارات دولار؛ منها 1.3 مليار دولار لتنفيذ مشروعات إنمائية و3.1 مليارات دولار قروضاً وتسهيلات بفائدة 5% استخدمت في استبدال دين مرتفع الكلفة (13%). وفي كانون الأول 2002، أبلغت جمعية المصارف برئاسة جوزف طربيه الحاكم موافقتها على الاكتتاب بسندات الخزينة بنسبة 10% من الودائع.
أين «فوري» من كل هذا؟
بين باريس 1 و2، وهي الفترة التي كانت خطة الاكتتاب في سندات الخزينة تختمر في رأس الحاكم، أسّس رجا سلامة «فوري» (20 أيلول 2001) التي وقّعت مع مصرف لبنان (6 نيسان 2002)، بشخص حاكمه، عقداً نصّ على تقاضيها عمولة قدرها 0.375% عن العمليات المالية التي تجريها لمصلحة المصارف، بما فيها بيع سندات الخزينة، أي تلك التي اقترح سلامة نفسه الاكتتاب فيها! وفتحت الشركة عام 2001 حساباً في مصرف HSBC في سويسرا صاحب الحق الاقتصادي فيه رجا سلامة. تم تبرير الأموال المحوّلة إلى هذا الحساب بأنها «عمولة وسيط لطرح سندات خزينة لمصلحة مصرف لبنان الوطني» (Broker commission for placing treasury bills for the Lebanese National Bank). بين 2002 و2014، تلقى هذا الحساب أكثر من 326 مليون دولار في 310 معاملات مصرفية مصدرها مصرف لبنان. وحوّلت منه 207 ملايين دولار الى حسابات في لبنان لدى بنك مصر وبنك سارادار… وكل من بنك البحر المتوسط والاعتماد اللبناني وعوده.
هذه المصارف الثلاثة قال رؤساء مجالس إدارتها، أمام القاضي طنوس، إن كل التحويلات فيها تتم عبر مستندات وفقاً للأصول. الحسن، مثلاً، أكدت أن بنك البحر المتوسط «يقوم بالتأكد من هوية مصدر التحويل المالي لأيّ زبون لديه، ويطلب مستنداً خطياً عن سبب التحويل، ولا يتم إجراء التحويل إلا بعد ورود هذا المستند. والأمر عينه بالنسبة إلى التحويلات الصادرة من حسابات الزبائن». فيما قال طربيه إنه «في حال أراد أي زبون في بنك الاعتماد اللبناني إجراء تحويل مصرفي غير اعتيادي، يُطلب منه ذكر سبب التمويل والمستندات التي تثبت هذا السبب». اللافت في أقوال طربيه هو اندفاعه الزائد عندما أشار إلى أنه عندما ترأس جمعية المصارف «جعل من الشفافية في المصرف معركتي الخاصة»، وهو «إنجاز» يلمس كل المودعين نتائجه اليوم. أضف إلى ذلك اعتزازه بأنه قاد «بنجاح إدخال القطاع المصرفي ضمن النظم التي أقرّتها الولايات المتحدة الأميركية لمكافحة تبييض الأموال والتهرب الضريبي وتمويل الإرهاب»، وهو «إنجاز» آخر كشف داتا حسابات اللبنانيين أمام الأميركيين وأدى إلى إقفال مصارف بأمر من واشنطن!
السؤال: هل تعدّ المبالغ الضخمة التي حُوّلت من HSBC في سويسرا إلى المصارف اللبنانية «تحويلات غير اعتيادية» بما يسترعي الانتباه ويثير الريبة ويخدش الشفافية؟ السؤال الأهم: ألا ينبغي على مصارف تتبجّح باعتمادها الشفافية والمعايير الدولية، إذا ما وقع شك في حدوث «تحويلات غير اعتيادية» أو عمليات تبييض أموال وإثراء غير مشروع، أن تكشف للقضاء حسابات المشتبه في قيامهم بذلك بدل التسلح بالسرية المصرفية؟
كل ما سبق يمكن إيجازه بالآتي: وضع سلامة خطة اكتتاب المصارف في سندات الخزينة بأربعة مليارات دولار، وأسس شقيقه شركة تعاقدت مع مصرف لبنان لتقاضي عمولة على بيع هذه السندات للمصارف. باختصار أكثر: كلما كانت الدولة تستدين كانت أرقام ثروة الأخوين سلامة تزداد أصفاراً.