متري عن الأولويات بعد الثقة: المصارف وأموال المودعين

بأغلبية 95 صوتًا، عبرت حكومة “الإنقاذ والإصلاح” امتحانها الأول متسلحة بثقة البرلمان، لتدخل بذلك المعترك الفعلي الذي ينتظرها. لكن التحدي ليس في التصويت نفسه، بل في ما يليه. فالبيان الوزاري، الذي صيغ بميزان وطني، لم يكن سوى خارطة طريق، أما الطريق نفسها فوعرة، محفوفة بتعقيدات السياسة، والاقتصاد، والمال، والأمن.
هذه الحكومة، رغم قصر عمرها، ليست في موقع من يكتفي برفع الشعارات أو تكرار الوعود الثقيلة. فالثقة التي مُنحت لها ليست مجرد أرقام في مجلس النواب، بل دين مستحق الدفع، يطالب به الناس قبل السياسيين، والشارع قبل المؤسسات، والأزمات المتفاقمة قبل أي بيان وزاري مهما كان محكمًا.

الامتحان الحقيقي يبدأ الآن
يفترض أن تعقد الحكومة أولى جلساتها الدستورية بعد نيلها الثقة الأسبوع المقبل، وذلك فور عودة رئيس الجمهورية جوزاف عون إلى لبنان، حيث ستبحث في جدول الأولويات الملحّة للمرحلة المقبلة.

في حديث خاص مع “المدن”، أكد نائب رئيس الحكومة، الوزير طارق متري، أن الأولوية اليوم هي “ترجمة التوجهات الواردة في البيان الوزاري إلى برنامج عمل تفصيلي، يتضمن إجراءات واضحة ومحددة بإطار زمني”. الحكومة التي استنفدت أول أسابيعها بين إعداد البيان الوزاري وجلسة الثقة، تجد نفسها اليوم أمام واقع جديد، حيث لم يعد هناك من مجال للترف السياسي أو المناورات، فالمواطنون ينتظرون أفعالًا لا أقوالًا.

“الآن بدأ العمل الفعلي”، يقول متري، مضيفًا أن الأولويات ستناقش في أولى جلسات الحكومة، للوصول إلى خريطة تنفيذية واضحة.

الإصلاحات: اختبار الجدية
إقرار آلية شفافة للتعيينات على مختلف المستويات الإدارية سيكون في صدارة الأجندة الحكومية، إلى جانب وضع خطة إصلاحات اقتصادية وإدارية جذرية، تمهيدًا لتأمين الدعم الدولي وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار، التي تُعد بدورها من الأولويات القصوى. بالتوازي، ستواصل الحكومة العمل الدبلوماسي من أجل استكمال تحرير الأراضي اللبنانية التي لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي، وفق ما نص عليه اتفاق وقف إطلاق النار.

لكن الحكومة التي رفعت شعار “الإصلاح والإنقاذ” ستواجه، بلا شك، مقاومة شرسة من الداخل والخارج. الدول المانحة، التي باتت شروطها صارمة لدعم لبنان ماليًا، لن تتساهل في فرض إصلاحات قاسية، في حين أن القوى السياسية والاقتصادية المستفيدة من الفوضى الحالية لن تسلّم بسهولة بأي تغيير حقيقي.

متري لا ينكر حجم العقبات، لكنه يشدد على أن “التفاوض مع صندوق النقد الدولي سيكون أحد أهم المحاور التي سنعمل عليها، بالتوازي مع تعزيز الجهود الدبلوماسية لحماية سيادة لبنان ومصالحه”.

المودعون والمصارف والمواجهة الصعبة
لبنان يرزح تحت أزمة مالية خانقة منذ عام 2019، عندما انهار النظام المالي تحت وطأة ديون عامة ضخمة، مما أدى إلى تخلف البلاد عن سداد ديونها، وتجميد مدخرات المودعين في المصارف. هذا الملف، الذي يختزل جوهر الأزمة، سيكون ساحة مواجهة كبرى بين الحكومة والمصارف، التي تتجنب حتى الآن تحمّل المسؤولية عن الانهيار.

يقرّ متري بأن “هناك متضررين من الإصلاح، والعديد من القوى السياسية والاقتصادية ستقاوم أي إصلاح للقطاع المصرفي”، مضيفًا أن “المصارف نفسها ستكون في موقع المواجهة مع الحكومة”. لكنه يؤكد أن “رغم الصعوبات، سنحاول تنفيذ الإصلاحات، وسنحرص على التواصل مع المواطنين بوضوح حتى يكونوا إلى جانبنا، ويمارسون الضغط على المعرقلين”.

أما بالنسبة لأموال المودعين، فيقول متري: “رغم التحديات، سنركز على وضع المصارف وأموال المودعين، ولن نتجاهل هذا الملف، لأن استعادة الثقة بالنظام المالي أمر أساسي لمستقبل البلد”.

عودة اللاجئين السوريين
منذ سنوات، وضعت الحكومات اللبنانية خططًا لعودة اللاجئين السوريين، وشكلت وفودًا رسمية لزيارة دمشق وإجراء مباحثات ثنائية، لكنها جميعها انتهت إلى الفشل. فبينما تتحدث الجهات اللبنانية عن وجود مراكز إيواء ومناطق آمنة في سوريا، لم تُترجم هذه التصورات إلى حلول عملية.

لبنان، الذي استقبل أول موجات النزوح السوري بعد اندلاع الحرب عام 2011، تحوّل إلى البلد الذي يضم أعلى نسبة لجوء سوري عالميًا مقارنة بعدد سكانه، إذ يُقدر الأمن العام اللبناني عدد اللاجئين السوريين بنحو مليونين و80 ألف شخص، فيما تتحدث الحكومة عن 1.5 مليون لاجئ، بينهم 800 ألف مسجلون رسميًا لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.

اليوم، مع تغيّر الوضع الإقليمي، يعود ملف اللاجئين إلى الواجهة مجددًا. متري شدد على أن الحكومة ستضع هذا الملف في صدارة أولوياتها، قائلًا: “سنعمل على حوار جدي مع السلطات السورية لضمان عودة النازحين، كما سنراجع الاتفاقيات الثنائية بما يخدم مصلحة بلدنا”.

ما بعد الثقة: هل تنجح الحكومة؟
الثقة النيابية التي حصدتها الحكومة ليست نهاية المطاف، بل مجرد بداية لسباق مع الوقت. عمر الحكومة لن يتعدى السنة وأربعة أشهر، وهي فترة قصيرة جدًا لتنفيذ إصلاحات جوهرية، لكنها كافية لتحديد المسار الذي سيسلكه لبنان في المرحلة المقبلة.

التحديات كثيرة، من الأزمة المالية إلى العلاقات الدولية، ومن استعادة الثقة بالنظام المصرفي إلى معالجة ملف النزوح السوري، لكن السؤال الأكبر يبقى: هل تملك الحكومة القدرة والإرادة على مواجهة هذه التحديات، أم أن واقع السياسة اللبنانية سيعيد إنتاج السيناريو المعتاد، حيث تبدأ الحكومات قوية بالشعارات وتنتهي غارقة في المساومات؟ الجواب لن يتأخر كثيرًا، فالامتحان بدأ بالفعل.

مصدرالمدن - نغم ربيع
المادة السابقةموجة التغيير في لبنان تتمدّد إلى منهجية معالجة أزمة الودائع العالقة
المقالة القادمةالتجار يستغلون زمن “الصوم”: أسعار المواد الغذائية تتصاعد