أمام العمال خياران إذا ما تعرضوا للاستغلال وانتهاك حقوقهم: إما تسوية مذلة مع صاحب العمل أو إيداع شكوى «تنام» في مجالس العمل التحكيمية إلى ما شاء الله.
لسنتين متتاليتين، لا تزال مجالس العمل التحكيمية معطّلة بالكامل، بعد سنوات من الأداء البطيء وتراكم الملفات، حتى «بلغ عدد شكاوى العمال المكدسة أكثر من 3 آلاف دعوى منذ عام 2017»، بحسب «المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين».
وفي ظل هذا الشلل، ليس أمام نحو مليون و700 ألف عامل يتعرضون للاستغلال وانتهاك الحقوق سوى خيارين أحلاهما مرّ: تسوية مذلّة وغير عادلة مع صاحب العمل، أو تقديم شكوى تُجمّد في أدراج المجالس التحكيمية وانتظار الفرج للبتّ فيها.
وبدل أن يجد العمال قضاءً يحميهم وينصفهم في ظل توالي الأزمات – من تفشي جائحة كورونا، إلى الانهيار الاقتصادي، وصولاً إلى العدوان الإسرائيلي وما أفرزه من بيئة خصبة للنزاعات والتسريح وانتهاك حقوق الحلقة الأضعف، أي العمال – يستغلّ أصحاب العمل تعطيل القضاء للتمادي في تجاوزاتهم، مستسهلين قضم الرواتب، والصرف التعسفي، والامتناع عن التصريح عن الراتب كاملاً للضمان الاجتماعي، وحرمان العمال من حقوقهم في بدلات الساعات الإضافية والإجازات السنوية والمرضية والتعويضات العائلية ومنح التعليم وبدلات النقل والتأمين ضد حوادث العمل.
المفارقة أن تعطيل مجالس العمل التحكيمية يعود إلى إضراب 63 موظفاً فقط، موزعين على 21 غرفة قضائية، تضم كلّ منها مفوضاً للحكومة، وممثلاً عن العمال، وآخر عن أصحاب العمل. وبحسب مدير «المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين» أحمد الديراني، فإن عودة هؤلاء الموظفين إلى عملهم يمكن تأمينها بكلفة بسيطة لا تتجاوز الـ720 مليون ليرة شهرياً، وهي موازنة متواضعة جداً مقارنة بالمخصصات التي تُصرف لعدد كبير من موظفي الإدارات والمؤسسات العامة الأخرى.
مع ذلك، تواصل الحكومة المماطلة في إصدار مرسوم رفع بدلات موظفي المجالس، متمسكة ببدلات لا تتعدى الـ100 ألف ليرة يومياً، رغم علمها المسبق بأنها لا تكفي حتى لتغطية كلفة تنقّل الموظف إلى مركز عمله.
الديراني يصف ما يحدث بأنه «جريمة موصوفة بحق العمال، تشارك فيها الحكومة والحركة النقابية». فوزير العمل محمد حيدر، بحسب الديراني، يتذرّع بضرورة استشارة مجلس شورى الدولة ومجلس الخدمة المدنية بشأن إعادة تفعيل مجالس العمل التحكيمية، رغم أن لا علاقة لهاتين الجهتين بعمل المجالس أصلاً، مشدداً على أن «الأمر لا يحتمل المزيد من التعطيل أو التسويف، بل يتطلّب إصدار مرسوم مستعجل لتصحيح بدلات الموظفين». أما في ما يتعلق بالحركة النقابية، وتحديداً الاتحاد العمالي العام، فيرى الديراني أنّ «الضرب في الميت حرام».
ويجزم رئيس «الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين» كاسترو عبد الله أن تعطيل المجالس «ليس عارضاً بل مقصودٌ»، مشيراً إلى أن هذه المجالس قائمة أساساً على المحاصصة والزبائنية، ما أدى إلى إضعافها حتى قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية عام 2019.
ولفت إلى أن ممثلي العمال في هذه المجالس لم يعودوا يمثّلون القواعد العمالية فعلياً، بل يُعيَّنون عبر تسويات سياسية من خلال الاتحاد العمالي العام الذي يحتكر صلاحية ترشيح أسماء 3 ممثلين للعمال عن كل غرفة قضائية، يختار وزير العمل أحدهم.
ولفت عبد الله إلى ثغرات جوهرية عدة تؤثر في فعالية مجالس العمل التحكيمية، من بينها عدم انتشار هذه المجالس في المحاكم وقصور العدل في مختلف الأقضية، والاكتفاء بعدد محدود من الغرف ضمن المحافظات، فـ «في جبل لبنان، على سبيل المثال، لا توجد سوى ثلاث غرف فقط».
كما أشار إلى استغلال أصحاب العمل للثغرات القانونية في أحكام المجالس، من بينها شرط مرور الزمن على الحق في الادعاء، إذ يُمنح العامل شهراً واحداً فقط لتقديم شكوى من تاريخ صرفه أو إعلامه بالصرف، فيما يسهل على أصحاب العمل الادعاء بأنهم أبلغوا العامل بقرار الصرف قبل أشهر، ويأتون بشهود من داخل المؤسسات لإثبات ذلك.
ويؤكد عبد الله أن إعفاء العامل من الرسوم القضائية لا يُلغي الحاجة إلى محامٍ لمتابعة الدعوى أو تنفيذ الحكم أو التقدّم بطلب تمييز، ما يُبرز عدم التكافؤ في الإمكانات بين العامل وصاحب العمل. وانتقد إعادة إحالة القضايا التي تحتاج إلى تحقيق إلى وزارة العمل، رغم أن العامل يكون قد لجأ إلى المجالس بعد استنفاد الوسائل داخل الوزارة، وقد يُحال الملف إلى المفتّش ذاته الذي عاين القضية سابقاً، علماً أن عدد المفتّشين محدود جداً.
وعليه، يقترح عبد الله إصلاح مجالس العمل التحكيمية عبر زيادة عددها وضمان انتشارها الجغرافي، وتفعيل دورها وتحسين ظروف عملها، ومنحها صلاحيات أوسع، والالتزام بالمهل الزمنية المحددة. ويشدّد على ضرورة إشراك النقابات المستقلة في تمثيل العمال، وعدم حصر ذلك بالاتحاد العمالي العام، لافتاً إلى أنّ كل هذه الإصلاحات لا يمكن أن تتحقق إلا بعد عودة المجالس إلى العمل الفعلي، لأنها «رغم علّاتها، فقد سبق أن أصدرت قرارات منصفة للعمال، وإن متأخرة».



