مجددًا: المصارف تحصّن رساميلها بـ”سرقة” المودعين

في مطلع الشهر الحالي، تفاجأ عملاء بنك عودة بزيادة العمولة الشهريّة المفروضة على كل حساب، إلى 10 دولارات، فيما تكرّر تسجيل هذه العمولة في كل حساب فرعي في حال وجود حسابات متفرّعة. بمعنى آخر، وفي حال امتلك العميل حسابين فرعيين، بالليرة اللبنانيّة والدولار الأميركي، سيتم قيد ما مجموعه 20 دولاراً على الحسابين كل شهر، أي ما يقارب 240 دولاراً سنويًا. وعمليًا، كانت هذه المرّة الثانية التي يرفع فيها المصرف نفسه قيمة العمولة المفروضة على كل حساب هذه السنة، بعدما رفعها من 5 دولارات إلى 7 دولارات في شهر كانون الثاني الماضي.

الرسملة على حساب المودعين

الذهاب إلى ميزانيّات المصرف، يشرح كل شيء: فمقابل هذه الاقتطاعات الضخمة والخياليّة من حسابات المودعين، تمكّن بنك عودة نفسه، وخلال الربع الأوّل من العام الحالي، من زيادة أرباحه الصافية إلى 51.63 مليون دولار، مقارنة بخسائر بلغت 7.27 مليون دولار أميركي في الفترة المماثلة تمامًا من العام الماضي. بمعنى آخر، كانت هذه الاقتطاعات تخدم تعزيز رساميل المصرف الدفتريّة، على حساب قيمة الودائع المتبقية في المصرف.

لو أنّنا في أوضاع طبيعيّة، كان من الممكن القول أنّ رفع العمولات حق بديهي للمصرف، على قاعدة العرض والطلب، أي أنّ العميل الذي لا يرغب بدفع هذه العمولة الضخمة يمكن أن يختار نقل حسابه إلى مصرف آخر، أو سحب قيمة وديعته نقدًا بكل بساطة، أو حتّى تحويلها إلى الخارج. وكان من الممكن القول أنّ آليّات المنافسة بين المصارف ستكون كفيلة بدفع المصارف إلى خفض قيمة العمولات كي لا تخسر زبائنها.

لكنّنا، وكما هو معروف، لسنا في أوضاع طبيعيّة. فالعميل المستاء من هذه العمولات لا يملك خيار سحب وديعته أو تحويلها إلى الخارج، أو حتّى نقلها إلى مصرف آخر في ظل امتناع المصارف عن فتح حسابات جديدة. بمعنى أوضح، ما يجري هو ابتزاز موصوف وواضح، بوجود معادلة تسمح للمصرف اقتطاع القيمة التي يريدها من حساب عميله، من دون أن يملك العميل القدرة على الاعتراض أو الخروج من دوّامة العمولات التي تأكل من أمواله.

المشكلة الأكبر، هي أنّ المصرف نفسه يمتنع، تمامًا كحال جميع المصارف الأخرى، عن تحديد الفجوة الموجودة في ميزانيّاته بشكل شفّاف، والتي تحول دون تسديد الودائع الموجودة لديه. كما يمتنع عن تحميل رساميل أصحابه نصيبها من خسائر الانهيار، بينما يتحمّل المودعون هذه الخسائر عبر احتجاز أموالهم، وفرض اقتطاعات على قيمة الودائع، من خلال أسعار الصرف المنخفضة المعتمدة لإجراء السحوبات. وهكذا، يطبّع المصرف الفجوة الموجودة في ميزانيّاته، ويحمّل أثرها للمودع، مقابل حماية مصالح المساهمين في المصرف.

هنا تصبح المعادلة أكثر وقاحة: بدل أن تتحمّل رساميل أصحاب المصرف الخسائر، يتم تعزيزها وتحصينها، على حساب اقتطاعات أكبر من أموال المودعين، الذين لا يملكون خيارًا سوى القبول بهذه الاقتطاعات. وفي كل هذه التطوّرات، تغيب لجنة الرقابة على المصارف كليًا عن السمع، كما تغيب الهيئة المصرفيّة العليا التي يفترض أن تختص بمحاسبة المصارف المخالفة. ومن المعلوم أنّ قانون النقد والتسليف يعطي مصرف لبنان صلاحيّة التدخّل في هذا النوع من المخالفات الفاقعة، لضمان حسن علاقة المصارف مع المودعين، كما تنص المادّة 174 من القانون.

الكلفة على المودع وقيمة الليرة

الكلفة الأولى، كما ذكرنا، يتحمّلها المودع بالدرجة الأولى، من خلال تقليص قيمة الوديعة من جهة الإلتزامات على المصرف، وزيادة حساب الرساميل والأرباح مقابل هذا الاقتطاع. في الدرجة الثانية، وفي حال قرّر المصرف استعمال هذه العائدات لتمويل نفقاته العاديّة، فسيتحمّل المصرف المركزي كلفة تأمين هذه الأموال من حساب المصرف الموجود لديه بالدولار المحلّي، أي “اللولار”، وهو ما سيعني خلق النقد بالليرة لتأمين هذه الأموال للمصرف.

وهذه العمليّة، ستحمّل الجزء الآخر من الكلفة إلى قيمة الليرة نفسها، وإلى ما تبقى من احتياطات في مصرف لبنان، التي يستعملها مصرف لبنان لامتصاص فائض السيولة المتداولة بالعملة المحليّة، عبر ضخ الدولار وشراء الليرات من السوق. وبذلك، تشمل كلفة العمليّة ما سيتحمّله: المودع وقيمة الليرة اللبنانيّة وما تبقى من احتياطات في الوقت نفسه. وهذا الواقع، نتج –مجددًا- من التغاضي عن تحديد الخسائر والتعامل معها، وتطبيع فكرة “اللولار” الذي يتم سداده بالليرة اللبنانيّة.

أمّا الأهم، فهو أنّ هذه الإجراءات تزيد من الضغط على المودعين لإقفال حساباتهم والتخلّص من أموالهم، عبر السحوبات الشهريّة التي تنص عليها تعاميم مصرف لبنان، والتي تحمّل المودعين خسائر إضافيّة من خلال أسعار الصرف غير الواقعيّة المعتمدة لسحب الأموال بالليرة، من الحسابات المدولرة. والمطلوب هنا مجددًا، تحميل المودع المزيد من أثمان الأزمة.

ما يجري بخصوص عمولات الحسابات في المصارف اللبنانية ليس سوى قطعة جديدة وإضافيّة من خطّة الظل المعتمدة، التي تحمّل عموم المقيمين والمودعين كلفة الانهيار، بدل التصريح عن خسائر النظام المالي والتعامل معها بشكل معلن وواضح وعادل، وبما يحمّل الشريحة الأولى من الخسائر إلى أصحاب المصارف والمستفيدين من أرباح المراحل السابقة. وهذا تحديدًا ما يوضح مصلحة النخبة المصرفيّة في الإطاحة، وبشكل متكرّر، بجميع المقاربات والخطط التي تجرّأت على طرح فكرة تحديد خسائر القطاع المصرفي، وشطب رساميل المساهمين فيه.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةسلوم: الصناعة الدوائية اللبنانية متقدمة جدا وشكلت الرافعة الصحية في ظل الأزمة
المقالة القادمةالـUNDP تشجّع “استغلال” أموال المغتربين.. والدولة تعاكس المطلوب