نشر مصرف لبنان مؤخرًا الأرقام التي تعكس وضعيّة ميزان المدفوعات حتّى أواخر شهر كانون الثاني الماضي، حيث يفترض أن يلخّص هذا المؤشّر صافي الأموال المتدفقة من وإلى النظام المالي اللبناني.
الدهشة: فائض بقيمة 259.4 مليون دولار
المثير للدهشة، كان إعلان المصرف المركزي عن تحقيق فائض في هذا الميزان، بقيمة 259.4 مليون دولار أميركي، ما يدفع للاعتقاد الواهم بأنّ النظام المالي –المصارف ومصرف لبنان معًا- راكم بالفعل سيولة بهذه القيمة، رغم استمرار الأزمة المصرفيّة. مع الإشارة إلى أنّ الحاكم بالإنابة وسيم منصوري تبجّح بهذا الفائض الوهمي في أحد لقاءاته الأخيرة، بوصفه نتيجة للسياسة النقديّة التي يعتمدها.
غير أنّ التدقيق في الأرقام، سرعان ما يُظهر أن مصرف لبنان يستمر خلال العام –وتمامًا كما فعل خلال العام الماضي- بالتلاعب بأرقام ميزان المدفوعات، ليُظهر فائضًا من خلال بعض الحيل المحاسبيّة. باختصار، يواظب المصرف المركزي على احتساب بعض التعديلات المحاسبيّة والدفتريّة الناتجة عن تغيير الصرف الرسمي، والتي لا تعكس أي تدفّق مالي فعلي، كي تُظهر نتيجة المؤشّر الفائض الوهمي المتوخّى.
بهذا الشكل، تكون نتيجة ميزان المدفوعات الحاليّة بعيدة عن التعبير عن المفهوم الأساسي الذي يعبّر عنه هذا المؤشّر، ما يعني أن الاستناد له لتحليل التدفقات الماليّة خلال العامين 2023 و2024 يُعتبر تضليلًا للجمهور.
احتساب ودائع غير المقيمين بالليرة اللبنانيّة
لاحتساب أرقام ميزان المدفوعات، يأخذ مصرف لبنان بالاعتبار التغيّر في صافي الموجودات الخارجيّة لمصرف لبنان والمصارف التجاريّة، أي الفارق بين التزامات وموجودات القطاع المصرفي في علاقته مع الأطراف الموجودة خارج لبنان. بهذا الشكل، يمكن للمؤشّر أن يعبّر أن حركة المعاملات الاقتصاديّة بين لبنان والمقيمين في الدول الأخرى، خلال فترة زمنيّة معيّنة.
بعد الأخذ بالاعتبار هذه الآليّة في احتساب مؤشّر ميزان المدفوعات، يمكن الدخول في عمليّة البحث عن مصدر الفائض المزعوم الذي يتحدّث عنه مصرف لبنان خلال شهر كانون الثاني الماضي، أي الـ259.4 مليون دولار. الغوص في التفاصيل، يُظهر أن مصرف لبنان وضع في حساباته انخفاض التزامات المصارف للمودعين غير المقيمين بقيمة 157.63 مليون دولار، وهو ما أسهم في رفع صافي الموجودات الخارجيّة للمصارف التجاريّة بهذه القيمة، على اعتبار أن المصارف سدّدت هذه المطلوبات المتوجبة عليها. وهذا ما أسهم بدوره في رفع الفائض المزعوم في ميزان المدفوعات.
غير أنّ التدقيق في الأرقام يُظهر أنّ المصارف لم تُسدد هذه الالتزامات بالفعل، وما جرى لم يكن سوى عمليّة محاسبيّة بحتة. إذ خلال شهر كانون الثاني، انتقلت المصارف لاعتماد سعر الصرف الجديد لإعداد الميزانيّات، أي 89,500 ليرة لبنانيّة مقابل الدولار، بدل سعر الصرف الرسمي المعتمد العام الماضي، أي 15 ألف ليرة لبنانيّة مقابل الدولار.
وبهذا الشكل، انخفضت القيمة الدفتريّة لودائع غير المقيمين بالليرة اللبنانيّة، من 190.15 مليون دولار أميركي، إلى 31.66 مليون دولار أميركي، من دون أن يتغيّر الرصيد الفعلي لهذه الالتزامات بهذا القدر (وهو كما أشرنا، بالليرة اللبنانيّة).
هكذا، دخلت في “حسبة” ميزان المدفوعات بعض التغييرات البعيدة عن التعبير عن أي عمليّة اقتصاديّة ذات أثر فعلي، وبات أمامنا مؤشّر لا يعكس أي حقيقة تعبّر عن وضعيّة البلاد النقديّة أو الماليّة. وإذا سلّمنا جدلًا بأن المصرف المركزي يملك الحجج اللازمة لتبرير هذه الآليّة في احتساب المؤشّر (وهذا غير صحيح)، فإن الاستناد إلى المؤشّر لدلالة على نجاح السياسة النقديّة، كما فعل الحاكم بالإنابة، يُعتبر تحايلًا صريحًا على الجمهور والمتابعين.
من المهم الإشارة هنا إلى أنّ تغيّرات سعر الصرف تؤثّر في العادة على أرقام ميزان المدفوعات، لكونها تؤثّر على القيمة الحقيقيّة للأصول والمطلوبات المقوّمة بالعملات الوطنيّة. غير أنّ احتساب الفروقات الناتجة عن تغيّر سعر الصرف الفعلي في السوق، يُعتبر مسألة مختلفة كليًا عن احتساب تغيّر سعر الصرف الرسمي اللبناني، الذي لم يعبّر في السابق عن أي قيمة فعليّة أو واقعيّة لودائع غير المقيمين بالليرة اللبنانيّة (لم يتجاوز سعر الصرف الرسمي 17% مقارنة بسعر الصرف الفعلي في السوق). ولهذا السبب، كان من المفترض أن يحرص مصرف لبنان على اعتماد آليّة تحيّد تأثير التغيّر في سعر الصرف الرسمي، على مؤشّر ميزان المدفوعات.
التحايل بدأ منذ العام 2023.. واستمر!
لم يبدأ هذا التحايل في التصريح عن أرقام ميزان المدفوعات هذا العام. ففي شباط 2023، قبل انتهاء ولاية رياض سلامة، أظهرت أرقام مصرف لبنان فائضًا ضخمًا في ميزان المدفوعات بقيمة 1.64 مليار دولار. وهو ما أثار استغراب جميع المتابعين.
يومها، كان هذا الفائض نتيجة لانتقال المصرف المركزي إلى اعتماد سعر صرف رسمي جديد، عند حدود 15 ألف ليرة للدولار، بدل سعر الصرف السابق المحدد عند 1,507 ليرة للدولار. إذ أدّى هذا التغيير يومها –وتمامًا كما حصل الآن- إلى خفض القيمة الدفتريّة لالتزامات المصارف بالليرة لمصلحة غير المقيمين، وهو ما حقّق هذا الفائض الوهمي والضخم في أرقام ميزان المدفوعات.
هذه السنة، غادر رياض سلامة حاكميّة المصرف المركزي، لتحل مكانه “قيادة جديدة” وعدت اللبنانيين بالشفافيّة والنزاهة في إدارة المصرف. لكن مع رفع سعر الصرف الرسمي مجددًا في كانون الثاني الماضي، من 15 ألف ليرة للدولار إلى 89,500 ليرة للدولار، عاد المصرف للتصريح عن فوائض غير واقعيّة في ميزان المدفوعات، للأسباب نفسها وباعتماد الأدوات المحاسبيّة ذاتها. وبدل تصحيح أرقام المؤشّر، ليعبّر عن الوضعيّة الواقعيّة للتعاملات الاقتصاديّة بين لبنان والعالم، باتت حاكميّة المصرف المركزيّة تتحدّث عن إنجازاتها في تحقيق فائض خيالي في ميزان المدفوعات.
هذا المشهد، يعيد التذكير بالاستنتاج الذي بات واضحًا بعد أكثر من 8 أشهر من نهاية ولاية سلامة: ما زال مصرف لبنان بعيدًا عن تصحيح آليّات الإفصاح المالي التي يعتمدها، وما زالت أرقام المصرف المركزي تعبّر عن النهج نفسه الذي ساد طوال ولاية الحاكم السابق رياض سلامة.