مجلس شورى الدولة يُبطل قراراً حكومياً ملتبساً … ويُثير اللبس حول وضع تشريعي واضح

بتاريخ 6 شباط 2024 اصدر مجلس شورى الدولة قراراً رقمه 209، قضى فيه بقبول المراجعة اساساً التي قدمتها جمعية مصارف لبنان امامه بتاريخ 28/6/2022 وبابطال قرار مجلس الوزراء رقم 3 المحضر 32 الصادر بتاريخ 20/05/2022 في شقه المتضمن الموافقة على “استراتيجية النهوض بالقطاع المالي» في بندها التالي نصه: « بناء على نتائج هذا التدقيق الخاص، سوف يلغى بداية جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة تجاه المصارف وذلك لتخفيض العجز في رأسمال مصرف لبنان واغلاق صافي مركز النقد الاجنبي المفتوح للمصرف Net open FX position «

تنفيذي.. لا تنفيذي؟

وكان قرار مجلس الوزراء قد اثار نقاشاً قانونياً حول نفاذه وقابليته للطعن. فكان هناك راي يقول بذلك على اساس انه قرار استلحاقي اعلن بمفعول رجعي تملّك الدولة للودائع ما يعفي مصرف لبنان من التزاماته تجاه المصارف، وكان هناك رأي مخالف يقول بعدم نفاذه وعدم قابليته للطعن لانه لا يعتبر قراراً ادارياً بطبيعته بل عملاً تحضيرياً وتمهيدياً لصدور هذا القرار، ولا يلحق بذاته اي ضرر بالمصارف وجمعيتها اذ لا يتضمن موجبات مباشرة مادية ونهائية عليها.

ما ورد في الصفحة 27

بالمقابل تضمن قرار مجلس الشورى في حيثياته فقرة، وردت في الصفحة 27 منه، اعتبرتها المصارف انتصاراً لها، اذ رأت فيها تبريرا لها للتحلل من التزاماتها اتجاه المودعين في حال عدم قيام مصرف لبنان بايفائه لالتزاماته تجاه المصارف. فقد ورد في هذه الفقرة التالي «إنّ تقرير إلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة تجاه المصارف، وما تمثّله فعلًا تلك الالتزامات من إيداعات للمودعين لدى المصارف الخاصّة، يشكّل حائلًا دون قيام المصارف بإتمام موجباتها بردّ الودائع عند الطّلب إليها دون أيّ تأخير، وفقًا لما تفرضه أحكام المواد 690 وما يليها من قانون الموجبات والعقود، ويؤدي بالتالي الى الاخلال بالموجبات المهنية المفروضة على المصارف لجهة المحافظة على حقوق المودعين واموالهم وضرورة اعادة الودائع لاصحابها… «.

جمعية المصارف تشيد

وقد اشادت جمعية المصارف في اجتماع جمعيتها العمومية المنعقد بعد تسعة ايام في 15 شباط الجاري بقرار مجلس الشورى، واشارت في البيان الذي صدر بنهاية اجتماعها الى ضرورة مراعاة اي مشروع قانون يتعلق باعادة هيكلة المصارف امرين اثنين:

– «ان يتضمن نصاً واضحاً وصريحاً لا يقبل التأويل أو الاجتهاد يوضح أن الأزمة المالية الحالية في لبنان هي «أزمة نظامية».

– «أن تتحمل الدولة جميع التزاماتها القانونية في ما يتعلق بتغطية الخسائر في ميزانية مصرف لبنان، مما يعود بالمسؤولية على الدولة ومصرفها المركزي لإعادة جميع الإيداعات من مصرف لبنان إلى المصارف لكي تعيدها (الاخيرة) بالكامل إلى المودعين».

وفي ما يلي التعليق على قرار مجلس الشورى وعلى بيان جمعية المصارف:

مخالفة قرار مجلس الدولة الفرنسي

إن قرار مجلس الشورى ربطه في حيثياته بين عدم قيام مصرف لبنان بايفائه التزاماته تجاه المصارف واعفاء الاخيرة من التزاماتها تجاه المودعين يخالف منحى اورده مجلس الدولة الفرنسي في حيثيات قراره رقم 219562 تاريخ 21 تشرين الثاني 2001 ومفاده ان مسؤولية المصارف تجاه مودعيها لا يمكن ان تحل مكانها او ان تكون مرتبطة بمسؤولية الدولة، ما يعني ضمنا ان مسؤولية المصارف تبقى قائمة تجاه مودعيها بصورة اساسية ومستقلة بغض النظر عن اية اشكالية بين المصارف والدولة او سلطاتها المصرفية وفقا للقرار الفرنسي.

المادة 690 وما يليها

ان اعلان مجلس الشورى في حيثياته، بان إلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة تجاه المصارف سيشكل حائلًا دون قيام الاخيرة بإتمام موجباتها بردّ الودائع عملا بالمادة 690 وما يليها من قانون الموجبات والعقود، هو كاجتزاء قول كريم بذكر الشق الاول منه فقط وهو( لا إله) من دون استتباع ذلك بذكر الشق الثاني منه وهو (الا الله).

اذ كان من المفروض بمجلس الشورى ان يستكمل ما ذكره في فقرته الحكمية بالتذكير بمآل النصوص القانونية التي تؤكد التبعة القانونية للمصارف برد الودائع للمودعين، منها المادة 691 التي تعتبر الوديعة النقدية عارية استهلاك، والمادة 759 الخاصة بقرض الاستهلاك، والتي تنص صراحة على ان الاشياء المقرضة تصبح ملكاً للمقترض وتكون مخاطرها عليه وهو ما تشرحه بالتفصيل مؤلفات الفقهاء القانونيين منها ما ورد في الفقرة 164 من الجزء الثاني من المجموعة القانونية Droit Commercial لمؤلفيها Hamel, G. Lagarde, A. Jauffret J.

جوزيف أوغورليان

جدير بالذكر ان جوزيف اوغورليان اول نائب اول لحاكم مصرف لبنان ركز في شروحاته للاسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف، بالتحديد في الصفحة 218 منها التي تتكلم عن القواعد العامة التي ترعى ادارة المصرف التجاري، على ضرورة توافر الثقة لدى المودع «بامكانية استرداده وديعته من المصرف كما لو كان يستردها من صندوقه الخاص» اي بدون تعليق استرداد الوديعة باي شرط خارج عن اطار عقد الايداع.

Les dépôts forment l’essentiel des ressources d’une banque mais leur maintien et leur accroissement auprès de la banque sont essentiellement une question de confiance. Confiance des déposants basée sur la certitude que leurs fonds en banque sont aussi surs que leurs fonds en caisse (as good as cash) parce qu’ ils peuvent en disposer a tout moment ou dans les délais convenus c’est l’engagement même pris envers eux par la banque dans le contrat du dépôt

خطورة الفقرة الحكمية

إن خطورة الفقرة الحكمية من قرار مجلس شورى الدولة تكمن في ايحائها ان بامكان المصارف ان تتذرع بدفع بعدم التنفيذ exception d inexecution مضمونه ان تخلف مصرف لبنان عن اداء التزاماته تجاهها يبرر تملصها من الموجب الملقى على عاتقها برد ودائع المودعين. ومعروف ان استعمال هكذا دفع غير ممكن مبدئياً الا في العقود الثنائية وبين اطراف هذه العقود ولا تطال مواقف اشخاص وتصرفات الغير من خارج هذه العقود خصوصا عند عدم وجود اي نص خاص بالامر.

ويمكن ان يكون دفع المصارف على اساس من استحالة التنفيذ exception d impossibilite d excecution عملا بالمادة 341 من قانون الموجبات والعقود التي تنص على «سقوط الموجب اذا كان بعد نشأته قد أصبح موضوعه مستحيلاً من الوجه الطبيعي او الوجه القانوني بدون فعل أو خطاء من المديون «. غير ان المادة 342 التي تليها تنص على انه «يجب على المديون ( اي المصارف في حالتنا) ان يقيم البرهان على وجود القوة القاهرة، ويبقى مع ذلك للدائن متسع لكي يثبت ان الطارئ الذي وقع كان مسبوقاً او مصحوباً بخطأ ارتكبه المديون وفي مثل هذا الموقف يظل الموجب قائماً ( بذمة الاخير اي المصارف)»

باقة أخطاء قاتلة

فالمصارف لا تستطيع ان تتهرب من باقة الاخطاء القاتلة التي ارتكبتها بدءاً من تحولها من مصارف تجارية وفقا لتراخيص التأسيس التي حصلت عليها الى مصارف تسليف متوسط وطويل الاجل توظف غالبية مواردها بايداعات وباصدارات آجلة لدى مصرف لبنان (بحجة ان الاخير هو الاكثر اماناً حسب ما ورد في الصفحة 2 من مراجعتها امام مجلس الشورى). وهو امر غير صحيح كونها اول العارفين بان الاخير، اي مصرف لبنان، يستخدم الاموال التي تودعها اياه بتمويل احتياجات قطاع عام فاسد حسب توصيف سابق لرئيس جمعيتها هو الدكتور فرانسوا باسيل. وحصل ما سبق بتشويه فاضح لدورها المطلوب منها في تمويل وتنمية الاقتصاد وبمخالفة فاقعة للقواعد النظامية الوطنية والدولية التي تحدد للمصارف التجارية اصول وقواعد توظيف مواردها (الالتزام بنسبة قصوى من الاموال الخاصة لتمويل عميل واحد (وهنا مصرف لبنان)، وتكوين نسب معينة للسيولة الجاهزة كما تكوين الاحتياطيات المناسبة على الاخص في حال تعلقت عملياتها بالعملات الاجنبية) وكان هناك تجاهل وعدم انصات الى تنبيهات صندوق النقد الدولي الى خطورة ومحاذير انكشافها اي المصارف على مخاطر الديون السيادية.

لا تستطيع الهروب من المسؤولية

وعليه فان المصارف لا تستطيع التهرب من مسؤولياتها القانونية برد الودائع الى المودعين بالاحتجاج بواقع انحرافي هي صنعته وأسست له عن سابق تصور وتصميم عملاً بالقاعدة الفقهية التي نصها بالفرنسية واللاتينية كما يلي:

Nul ne peut se prévaloir de sa propre turpitude

Nemo uditor propriam turpitudinem allegans

ايضا تكمن خطورة الفقرة الحكمية لمجلس الشورى موضوع النقاش في ان المصارف ستجد نفسها ملزمة هي ايضا بقبول اي دفع بعدم التنفيذ او استحالته يقدم بوجهها من قبل احد المقترضين منها ليتملص من دفع دينه لها بحجة ان الدولة لم تف بالتزاماتها تجاهه.

أزمة نظامية؟؟

إشادة جمعية المصارف بالفقرة الحكمية من قرار مجلس الشورى، التي تخلق اللبس حول قانونية ما ورد فيها من تحلل المصارف من رد الودائع في حال عدم دفع مصرف لبنان لالتزاماته اليها، كان ايضا بهدف التأسيس على هذه الفقرة للترويج بعدم مسؤولية المصارف في التسبب بالازمة وايضا بتفاقمها واستطراداً في عدم رد الودائع الى المودعين.

من هنا كان لفت الجمعية الحكومة في بيانها تعليقاً على قرار مجلس الشورى الى «ضرورة تضمين اي مشروع قانون يتعلق باعادة هيكلة المصارف نصاً واضحاً وصريحاً لا يقبل التأويل أو الاجتهاد بأن الأزمة هي «أزمة نظامية» crise systemique. لاعتقادها بان هكذا توصيف يحقق المطلوب بابعاد المصارف عن اية مساءلة من اي نوع كانت تتعلق بالازمة وهو ما اوضحه صراحة الدكتور تنال الصباح، عضو مجلس ادارة جمعية المصارف، في برنامج «جدل» مع الاعلامي ماريو عبود مساء 22/2/2024.

وقد استجابت الحكومة لطلب الجمعية فأشارت، في الفقرة الاولى من الاسباب الموجبة لمشروع القانون المتعلق بمعالجة اوضاع المصارف في لبنان واعادة تنظيمها، الى ان المشروع خطوة ضرورية لمعالجة «الازمة النظامية العميقة» التي يعيشها لبنان. وبالتالي لم تعد هناك ( ضمنياً بالنسبة للحكومة) من حاجة لأي كلام عن اية مسؤوليات وفتح اية تحقيقات لتحديد المتسببين بالازمة.

مثال الرهونات العقارية

التحليل السابق يحمل كلمة «نظامية» اموراً لا تحتملها. فانفجار ازمة الرهونات العقارية في الولايات المتحدة والتي وصفت بانها نظامية لم تحل دون اطلاق كم هائل من الدعاوى ليس فقط ضد المصارف التي اصدرت سندات الرهن بل ايضا ضد المؤسسات التي سوقت هذه السندات ومفوضي المراقبة ووكالات التصنيف وغيرهم من المسؤولين، ونسبة قليلة منها انتهت بعقوبات بالسجن اما الغالبية العظمة فكانت غرامات وتعويضات نقدية. ما اثار حفيظة القاضي Jed Rakoff فعلق على الامر بانه «عندما لا يؤدي الاحتيال إلى إجراءات قانونية زاجرة فإنه يؤثر مع مرور الوقت على الثقة وهذا الامر سيكون مشكلة خطيرة بالنسبة للولايات المتحدة لاحقا».

المثال الآيسلندي

أيضا الرئيس الايسلندي Olafur Grimsson صرح في دافوس ان الخيار الصحيح الذي تم انتهاجه لحل الازمة في بلاده، حيث سبق له توصيفها بانها «نظامية»، هو التمسك بدولة القانون باشارة ضمنية الى كم الملاحقات والادانات والتوقيفات القضائية للمرتكبين التي حصلت وكان هذا جواز السفر الذي اعاد ايسلندا الى الاسواق المالية الدولية وجعلها تحقق بعد ثماني سنوات من الازمة اعلى معدل نمو ناتج محلي بلغ 7,2 %.

أصل المصطلح

ان مصطلح نظامية systémique مشتق من الكلمة اليونانية القديمة / sústema التي تعني «الكل المنظم» وهو يشتمل راهناً على اكثر من عشرين تعريفاً لنهج يدرس «النظام le systeme «من وجهات نظر متنوعة وعلى مستويات مختلفة مع الأخذ بالاعتبار التفاعلات بين اجزائه وذلك في شريحة واسعة من المجالات: التكنولوجيا، والعلوم، وعلوم الكمبيوتر، وعلم النفس، وعلم الأعصاب، والإدارة، وما إلى ذلك بدون اي كلام عن اية آثار قانونية.

ماذ يقول صندوق النقد؟

في المجال المالي، يقول الباحث في صندوق النقد الدولي Guillaume Arnould ان الكلام عن «الازمة النظامية» ينحصر حول مصدرها، هل هي صدمة حصلت بذات الوقت لعدد كبير من المؤسسات المالية على نحو يتم معه تعطيل الأداء السليم للأسواق ام انتقلت اليها عن طريق العدوى لتحدث ذات الاثر السابق، والانتقال قد يكون مباشراً كحالة تساقط احجار الدومينو او غيرمباشر كما في حالة حمى بيع الاصول Asset Fire Sales او التشابه بين المؤسسات similitude وغيرها.

بالنسبة للبنان…

بالنسبة للبنان، واضح ان الازمة لم تتدحرج كاحجار الدومينو بل حصلت بوقت واحد عند توقف مصرف لبنان عن تلبية طلبات المصارف باستعادة اموالها المودعة والموظفة لديه. اي ان نقطة الانطلاق في المشكلة هو خطأ بشري ارتكبته ادارات المصارف بتجاوز القوانين والانظمة والمعايير الدولية بايداع القسم الاعظم من اموال مودعيها لدى مصرف لبنان وهي على علم بانصياع الاخير الاعمى لطلبات سلطة فاسدة تمرست بالانفاق الذي يؤمن مصالحها الخاصة بالدرجة الاولى.

وكان بامكان مجلس الشورى ان يعرض لهذا الامر ايضا طالما اختار الاستطراد في الفقرة الحكمية التي تناول فيها تحلل المصارف من التزامها برد الودائع الى اصحابها نتيجة تخلف مصرف لبنان عن رد مماثل اليها لودائعها لديه، فيعلق الامر اي تحلل المصارف من التزامها على عدم ارتكابها لاي خطأ، ولو مجرد فعل، على النحو الآنف الذكر والذي تشير اليه صراحة المادة 342 موجبات وعقود.

ان تجنب مجلس الشورى لهذا الامر لا يمكن تفسيره الا انه من قبيل اثارة اللبس حول وضع تشريعي واضح بمعرض ابطاله لقرار حكومي ملتبس.

 

مصدرنداء الوطن - توفيق شمبور
المادة السابقةدَين سندات “اليوروبوندز” يتقدّم في الأولوية على الودائع
المقالة القادمةالشامي: فليحضر مصرف لبنان جلسة مجلس الوزراء!