صحيح أن الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة ينام حالياً قرير العين بعدما نجح، بالتواطؤ والتعاون مع المنظومة السياسية الحاكمة وبإيحاء من قضاة منحازين له يعرفون بدهاليز القضاء، في تجميد النظر في القضية المرفوعة ضده من قبل هيئة القضايا في وزارة العدل بتهم غسل أموال واختلاس في لبنان والخارج، بعدما تقدم (في آب الماضي) بدعوى أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز لمخاصمة الهيئات الاتهامية الثلاث التي تعاقبت على تسلم ملفه خلال العطلة القضائية، الاّ أن استرخاءه لن يدوم طويلاً في ظل اصرار العديد من الاطراف المتابعة لقضيته على ايجاد المخارج القانونية التي تسمح باعادة تحريك القضية مجدداً، وبالتالي فإن تطورات قضائية يمكن أن تحصل في المستقبل بحسب معلومات مصادر معنية بالملف لـ»نداء الوطن». ما يعني ان محاكمة سلامة آتية لا محالة، وما المسألة الا قضية وقت.
الموقف حالياً
في الأثناء، لا مخرج قانونياً بعد لكسر الجمود الذي فرضه سلامة حول قضيته، وهذا ما يجمع عليه المختصون من القضاة والمحامين، بفعل غياب التشكيلات القضائية وعدم تشكيل أعضاء الهيئة العامة لمحكمة التمييز المعنية بالبت في دعاوى «الرد» و»المخاصمة»، حيث أوقف مرسوم تشكيلها وزير المالية يوسف خليل بتحريض من رئيس مجلس النواب نبيه بري، تحت ذريعة أن المرسوم مخالف للتوازنات الطائفية بعدما أضيفت غرفة إلى غرف محكمة التمييز، فبات عدد المسيحيين ستة مقابل خمسة للمسلمين. لكن برأي مصدر قضائي لـ»نداء الوطن»، فإن «ذلك لا يمنع قاضي التحقيق من اكمال تحقيقاته مع اشخاص آخرين مثل ماريان حويك ورجا سلامة وشركاء سلامة الآخرين، الى حين ايجاد وسيلة لمنعه من الاستفادة من هذه الثغرة. وعملياً، التحقيق يمكن ان يستكمل لأن أمواله جمدت داخل لبنان وخارجه ووضعه محاصر حتى لو كان غير موقوف»، مشدداً على أن «المسؤولية تقع على الجسم القضائي لأن القانون ينص على انتداب قضاة يحلون محل القضاة الاصليين الى أن يتم تعيين أصليين، وهذا يعني أن هناك تواطؤاً قضائياً مع سلامة، أو أن قضية المرفأ هي التي تؤثر على عدم اجتماع الهيئة العامة لمحكمة التمييز، لأنها لا تريد البت بالقضايا التي لها علاقة بدعاوى المرفأ».
المادة 751
بلغة القانون قدّم وكيل سلامة دعوى مخاصمته للدولة اللبنانية متسلحاً بنص المادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية، التي تنص على أنه «باستطاعة أي متقاض أو أي متخاصم لمجرد تقديمه دعوى مخاصمة للدولة أمام المحكمة المتخصصة، ترفع فوراً يد القاضي الناظر عن هذه الدعوى إلى حين ان تبت الهيئة العامة لمحكمة التمييز بهذا الطعن». وبما أن الهيئة العامة لمحكمة التمييز معطلة وغير مشكلة بانتظار تشكيلات قضائية شاملة أم جزئية ستبقى كافة النزاعات المقدمة والمقامة بحق سلامة مجمدة إلى أجل آخر. وسيتعذر الاستمرار بملاحقة سلامة، بانتظار أمر من اثنين «إما تشكيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز، وهذا أمر مستبعد في الوقت الحالي لا سيما أن التشكيلات متعذرة مع عدم وجود رئيس للجمهورية، وإما تعديل نص المادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية، وهذا أمر مستبعد حالياً أيضاً مع عدم إمكان مجلس النواب الاجتماع من أجل التشريع كونه هيئة ناخبة.
إقتراحات لتعديل المادة 751
في ما يتعلق بتعديل المادة 751، هناك اقتراحا قانون لتعديلها، الاول من كتلة «الجمهورية القوية» (آذار 2022)، والثاني من ائتلاف استقلال القضاء وعدد من النواب المستقلين حيث أعلنوا عن «مبادرة تشريعية في مواجهة تعطيل القضاء وممارسات الإفلات المعمم من العقاب».
يشرح عضو كتلة «الجمهورية القوية» النائب جورج عقيص لـ»نداء الوطن» أن «اقتراح القانون الذي جرى تقديمه من قبل الكتلة، هو ثمرة اقرار من قبل كل الكتل النيابية والمعنيين من قضاة ومحامين بضرورة تعديل المادتين 125 (أصول الرد) و751 لجهة مخاصمة القضاة وطلبات النقل للارتياب المشروع»، موضحاً أنه «تتم اساءة استعمال هاتين المادتين في ملفات مهمة جداً وتؤدي الى تأخير التحقيقات وتمنع المحاسبة عن المرتكبين، علماً أن بلدنا أكثر ما يحتاج الى محاسبة المجرمين سواء في جريمة انفجار المرفأ أو الفاسدين في القضايا المالية».
منتهى التعسف
يضيف: «إستعمال هذه المادة يرتكز على أن القاضي، الذي يطلب رده أو تنحيته أو مخاصمته بالنص الحالي، ترتفع يده بمجرد تقديم هذا الطلب وفي حالات اخرى بمجرد تبليغه إياه. وهذا يعيق عجلة العدالة ومسار التحقيقات خاصة أنه يتم تقديم نفس الطلبات من قبل نفس الاشخاص بنفس الخصومة»، معتبراً أن «هذا منتهى التعسف باستعمال الحقوق التي منحتها القوانين. لأن الحقوق يجب أن تستعمل في اطار حسن النية، وهذا مبدأ قانوني مهم جداً لأن اساءة استعمال هذا الحق يحوّل مستعمله الى مذنب وعليه خطأ يستوجب التعويض».
يوضح عقيص أن «التعديل الذي اقترحناه يستهدف أمرين، الأول هو ألا يكون لتقديم دعاوى الرد مفعول موقف بشكل تام، أي أن يظل للقاضي المطلوب رده الحق في الاستمرار في اجراءات الدعوى، او التحقيق الذي أمامه الى حين الفصل من قبل المرجع الاستئنافي او التمييزي بحسب الحالة بالطلب، بقبول طلب الرد او برفضه»، لافتاً الى أنه «عندها نكون وفرنا الكثير من الوقت والاجراءات. ونحن نقول أنه يمكن للقاضي المطلوب رده أو تنحيته الاستمرار بالتحقيقات باستثناء اصدار الحكم النهائي، وطلبنا غرامة عالية جداً على كل شخص او فريق يقيم نفس دعوى الرد مراراً و تكراراً بنفس الدعوى وباتجاه نفس القاضي». ويختم: «للأسف اقتراح القانون موجود في ادراج المجلس النيابي بسبب غياب التشريع، بالاضافة الى قوانين أخرى مهمة جداً».
تعطيل أي عمل محاسبي
في التفسير القانوني أيضاً يشرح المدير التنفيذي لـ»المفكرة القانونية» المحامي نزار صاغية لـ»نداء الوطن» أن «هذه القضية دخلت في نفس النفق الذي دخلت فيه قضية المرفأ وقضايا أخرى، وذلك بسبب المادة 751 من اصول المحاكمات المدنية، والتي هي حصان طروادة لنظام الافلات من العقاب والتي تسمح لأي مدّعى عليه تقديم دعوى مخاصمة ضد الدولة اللبنانية أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز لكي يتمكن من ايقاف التحقيقات بحقه الى أجل غير مسمى. لأن، وبكل بساطة، الهيئة العامة لمحكمة التمييز غير موجودة، وانتهت عضوية أغلبية أعضائها من دون تعيين بدائل عنهم»، مشدداً على أن «دعوى المخاصمة باتت طريقة سهلة جداً لأي مدّعى عليه كي يوقف تحرك القضاء ضده. وهذا يعني أنه لم يعد بالامكان ملاحقة مدعي عليه بشكل أكيد لأنه بمجرد ان يستعمل هذه المادة، يتم تعطيل كل القضاء. وعملياً بات القضاء اللبناني لا يعمل الا بارادة المدّعى عليه وهذا أمر عبثي ومرفوض تماماً».
يضيف: «يبدو أن الطبقة الحاكمة مرتاحة لهذا الوضع لأنها استطاعت أن تنسف مبدأ المحاسبة من أساسه في العديد من القضايا، ورياض سلامة استعمل هذه المادة لايقاف التحقيقات بحقه. أما حل هذه المشكلة فتكون بحل جذري عبر تعديل المادة 751. وقد تم تقديم اقتراحي قانون من نواب تغييريين بالتعاون مع ائتلاف استقلال القضاء، ولا تزال هذه الاقتراحات (على الرغم من تقديمها بصفة معجل مكرر) تقبع في ادراج المجلس النيابي بسبب الفراغ التشريعي الحاصل».
أبي سمرا يقفل الملفات
يرى صاغية أن «الهدف هو أن لا يتوقف التحقيق بمجرد تقديم دعوى المخاصمة من قبل المدّعى عليه الا اذا قررت محكمة التمييز هذا الامر، بذلك توقف السلبطة على القضاء وتدميره»، لافتاً الى أن «القاضي شربل أبي سمرا انسحب من ملف سلامة وتمّ تعيين القاضي وائل صادق، وهذا أمر غير سيئ لأن القاضي أبي سمرا هو من القضاة الذين يحبذون اقفال الملفات وليس فتحها، وهذا أمر مثبت من قبل المفكرة القانونية في العديد من القضايا واهمها قضية الاثراء غير المشروع ضد الرئيس نجيب ميقاتي».
ويختم: «قبل تعديل المادة 751 لا يمكن تحريك دعوى سلامة، فالمسألة مقفلة لأنه تم الانقلاب على القضاء من خلال تعطيل محكمة التمييز للنظر بهذا النوع من الدعاوى، وبدأ الانقلاب في قضية المرفأ ويتوسع كي تطال كل القضايا الثانية في المصارف ومصرف لبنان والتدقيق الجنائي، وطالما ان هذه الحجة موجودة فكل القضايا سيتم تعطيلها ونسف كل عمل محاسبي في لبنان».
إتمام التعيينات القضائية
يشرح المحامي نعوم فرح لـ»نداء الوطن» أن العديد من الملفات والدعاوى مجمّد حالياً طالما أن التعيينات القضائية متوقفة»، لافتاً الى أن «المشكلة ليست في طلب رد قاض او مخاصمة الدولة، بل بسبب عدم إكتمال العديد من هيئات وغرف المحاكم. وذلك إمّا بسبب إحالة أعضائها إلى التقاعد أو إستقالتهم او إقالتهم، هذا إلى جانب إعتكاف البعض منهم بين الحين والآخر ورفضه عقد الجلسات». ويعتبر أن «هناك مشكلة في القضاء في لبنان نظراً للنقص الحاصل في قضاة المحاكم للبت بالملفات بالسرعة اللازمة، والتدخلات السياسية التي لا حاجة للإستفاضة في شرحها. هذا إلى جانب البطء والتراخي في سير الأعمال القلمية في المحاكم نتيجة عدم الحضور اليومي للموظفين وغياب المحاسبة والأزمة المالية والإضرابات المتكررة… ما ينعكس سلباً على الإجراءات القضائية وتعيين الجلسات والتبليغات…».
لا خيار سوى الإنتظار
يضيف: «لا يمكن متابعة السير حالياً بملف سلامة امام الهيئة الإتهامية ولا بإستجوابه المقرّر أمامها، قبل البت بالدعوى التي تقدّم بها أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز ضد الدولة بشأن المسؤولية الناجمة، حسب إدعائه، عن أعمال الهيئة الإتهامية في بيروت»، مشدداً على أنه «لا خيار للهيئة الإتهامية سوى إنتظار قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز: إمّا بقبول الدعوى وإبطال قرار الهيئة الإتهامية وإعادة القضية إلى الحالة التي كانت عليها قبل إصدارها قرارها بإستجواب سلامه، وإمّا بردّ الدعوى المقدمة من سلامة وإعادة الملف إلى الهيئة الإتهامية لإستجوابه».
أمر غير ممكن
وحول امكانية اللجوء الى القضاء الفرنسي لتحريك القضية، كون سلامة يحمل الجنسية الفرنسية، يجيب المحامي فرح أن «تحريك القضاء الفرنسي لا علاقة له بالملاحقة الجارية أمام القضاء اللبناني، ويمكن ملاحقته امام القضاء الفرنسي بصرف النظر عن مصير الملاحقة في بيروت، وهذا ما هو حاصل. أمّا بالنسبة لمسألة إستجوابه أمام القضاء الفرنسي في دعوى مقامة ضده أمام القضاء اللبناني، فإن ذلك يتطلّب أولاً وجوده في فرنسا، وثانياً طلب القضاء اللبناني هذا الإستجواب بموجب إستنابة قضائية. وهذا الأمر غير ممكن طالما ان شروطه غير متحققة، علماً أن الدولة اللبنانية لا تسلّم رعاياها للمحاكمة في الخارج». موضحاً أنه في «حال صدر حكم في فرنسا بحق سلامة في أيّة دعوى، فتنفيذه في لبنان يتطلّب صيغة تنفيذية وموافقة من القضاء اللبناني على ذلك. فالقضاء اللبناني رفض مثلاً تسليم السيد كارلوس غصن الذي يحمل الجنسية الفرنسية للسلطات الفرنسية.
محدودية حركة اسكندر
ويشدد فرح على أن «رئيسة هيئة القضايا القاضية هيلانة اسكندر لا يمكنها تحريك ملف سلامة بإرادتها، لأنها تمثّل فريقاً في الدعوى، هو الدولة اللبنانية، وليست هي المرجع الذي يتولّى التحقيق والملاحقة و/أو الحكم في القضية، وبالتالي لا يمكن للقاضية اسكندر التحكم بسير الاجراءات القضائية»، معتبراً أن «بيت القصيد لحل هذه القضية يكون عبر اتمام التعيينات القضائية، وملء الشغور الحاصل في الهيئة العامة لمحكمة التمييز عبر تعيين رؤساء للغرف الشاغرة في محكمة التمييز. وهذا الأمر غير ممكن حالياً في ظلّ الشغور المستمرّ في سدّة رئاسة الجمهورية ومع حكومة مستقيلة بصلاحيات ضيقة لا تسمح لها بإجراء تعيينات قضائية»، ويؤكد أن «العمل القضائي مجمّد حالياً بغالبيته لأن مفاصل الدولة ومؤسساتها معطّلة والمرجعيات السياسية في تنازع مستمرّ لا يخفى على أحد. والحملات الإعلامية لتحريك المسألة والدفع بإتجاه تصويب هذا الوضع، على أهميتها، تصطدم بعائقٍ دستوري يستحيل من خلاله إجراء التعيينات وملء الشواغر في السلطة القضائية للخروج من هذه الحلقة المفرغة، في ظلّ الوضع القائم الذي يُبقي العديد من الملفات مجمداً في القضاء وغير القضاء».
يمكن إيقاف سلامة في فرنسا
يرى المحامي باسكال فؤاد ضاهر أن هناك امكانية لتحريك قضية سلامة مجدداً، ويشرح لـ»نداء الوطن» هذا الامر بالقول: «أمام عدم تشكيل هيئة محكمة التمييز بامتناع مقصود لعرقلة سير العدالة في لبنان، توقفت قضية سلامة الى حين تعيين هذه الهيئة، ومن هنا ضرورة اقرار قانون استقلالية السلطة القضائية وفصل الجسم القضائي عن الطبقة السياسية التي تتحكم بهذا القضاء وتمنع تطبيق العدل»، لافتاً الى أنه «لا شيء يمنع هيئة القضايا في وزارة العدل من تقديم دعوى توقيف سلامة في فرنسا طالما انه يحمل الجنسية الفرنسية، وهذا الخيار ممكن لأنه لم يسجل ادعاء من قبل القضاء الفرنسي على سلامة والادعاء في لبنان لم يتحقق بما انه لم يصدر حكم، كما ان التحقيقات كانت مزدوجة ولا خيار امام اسكندر الا هذه الطريقة او انتظار الطبقة السياسية التي لا تريد ان تسير العدالة بانتظام لأن البلد مأسور باللاعدالة».