عادت محطة سكة الحديد التراثية في ميناء طرابلس إلى الضوء مجددًا، بعد السجال والاحتجاجات التي أثارها قرار المدير العام لمصلحة سكة الحديد والنقل المشترك في لبنان، زياد ناصر، بمنح إجازة لإحدى مؤسسات النقل المملوكة من محمد كمال الخير، بركن عدد من الشاحنات له العاملة في مرفأ طرابلس. وتصاعدت المخاوف من تحويل هذا المعلم التراثي الملاصق للمرفأ، إلى موقف تجاري للشاحنات.
وتفاعلت القضية نتيجة ما أثاره ناشطون مدنيون وعدد من الجمعيات مثل “تراث طرابلس” و”Train-Train”، إلى أن أقدمت القائمة بأعمال بلدية الميناء، القائمقام إيمان الرافعي، بتقديم كتاب احتجاج لمصلحة سكة الحديد، بعدما قدمت “مؤسسة الكمال للتجارة”، صاحبها الخير، طلباً بشق طريق للشاحنات نحو محطة السكة. ومما جاء بالكتاب: “بما أن محيط سكة الحديد يعد من تراث المدينة ويقع بجوار أقدم معلم أثري (برج السباع)، وبما أنه درجت على إقامة أنشطة ثقافية وسياحية داخل هذا الموقع، جئنا بهذا الكتاب آملين تأمين موقع آخر للشركة المنوي تأجيرها بعيداً من محيط سكة الحديد القديمة..”.
وكانت رئيسة “جمعية تراث طرابلس”- لبنان، جمانة الشهال تدمري، أصدرت بيانًا بالتنسيق مع الناشطين والجمعيات في هذا المجال، قالت فيه: “نحن نستغرب أشّد الاستغراب كيف يتصرف المدير العام بأرض ملك للدولة تضم أهم شبكة للسكة الحديد وأبنية تراثية يعود بناؤها إلى أوائل القرن العشرين على الطراز الفرنسي”. سألت: “أليس في طرابلس مساحات شاسعة يمكن تحويلها إلى مواقف كما يريدون؟ بل تقع المحطة في محيط المحجر الصحي حيث المساحات والبراحات الخالية كثيرة، فلماذا محاولات طمس وتشويه جمالية مراكزنا الأثرية، وإلى متى يمكننا السكوت عن هذا الإجرام في حق طرابلس؟”.
تفاصيل القضية
حسب معلومات “المدن”، تعمل مؤسسة “الكمال للتجارة” في عمليات الشحن والنقل، وتنشط أيضًا في مرفأ طرابلس، الذي يقال أنه يعاني من أزمة ركن الشاحنات، خصوصًا بعدما أصبحت تتحرك فيه نحو 500 شاحنة، بفعل الحركة التجارية الواسعة لمجموعة الشحن الفرنسية “سي.إم.أ.سي.جي.إم”.
وتفيد المعطيات، أنه قبل الشروع بمنح إجازة لمؤسسة الكمال بركن عدد من شاحناتها في سكة الحديد، قامت أيضًا ببعض أعمال الردم التي أثارت الاحتجاجات، متذرعة بأن السكة مهملة ومتروكة للسرقات وأعمال الخردة وتحولت مرتعًا لبعض من يتعاطون المخدرات.
وهنا، يقول رئيس جمعية “تران تران” كارلوس نفاع، بأنه منذ انتشار خبر ركن الجرافات داخل سكة الحديد من قبل مؤسسة الكمال، بدأت التحركات للتصدي لمحاولات تحويل السكة إلى موقف للشاحنات والجرافات. خصوصًا أنها واحد من أهم ثلاثة مواقع لسكة الحديد الممتدة من الرياق وطرابلس ومار مخايل. ويعتبر أن أي محاولة للعبث بمساحتها الجغرافية، يعني القضاء على حلم العودة إلى إعادة تفعيل سكة الحديد، وهو مطلب يحمله الكثيرون في الشمال ولبنان عمومًا، نظراً لأهميتها التاريخية والتراثية والتجارية.
وتعود ملكية سكة الحديد لمصلحة “سكة الحديد والنقل” في لبنان، ويجوز للأخيرة قانونيًا أن تجيز استخدامها من قبل أي مؤسسة، مقابل تسديد رسوم الإجازة التي لا تخضع أساسًا لقانون الشراء العام. وهذه مشكلة كبيرة وفق نافع.
ويُذكر أنه في منتصف العام الفائت، وقّعت منظمة اليونسكو وإيطاليا اتفاقية بقيمة مليوني يورو لتمويل ترميم وإعادة تأهيل أصول التراث الصناعي لمحطة قطار مار مخايل في بيروت. ويتساءل نافع: “هل يجوز أن نهتم بسكة الحديد في مكان ونهملها بمكان آخر؟”.
واليوم الأربعاء، التقى نافع مع مجموعة من الناشطين بمدير مصلحة سكة الحديد زياد ناصر، ويقول إن الأخير، شرح لهم سلامة الشق القانوني للإجازة الممنوحة لشركة الكمال للتجارة، لكنه يستغرب كيف يكون البدل المالي لنحو 40 ألف متر مربع 100 مليون ليرة فقط بالشهر. وقال: “أطلعنا المدير ناصر على الأضرار، وأننا مستعدون لتقديم مشروع رسمي لتأهيل السكة والاهتمام بها، ووعدنا أن يطلب من المؤسسة إزالة الردم، وأن يركنوا الشاحنات باتجاه الشمال وليس قرب المعالم الأثرية للسكة”.
ويشير إلى إطلاق عريضة لجمع التوقيعات دفاعًا عن محطة القطار في طرابلس ضد “تعرضها للجرف والتدمير”.
توضيح المصلحة
في المقابل، يؤكد زياد ناصر لـ”المدن” بأن الإجازة الممنوحة للمؤسسة هي ضمن القوانين المرعية الإجراء، وضمن الصلاحيات العائدة للإدارة. ويستغرب ما أسماه بالفورة بينما المحطة متروكة ومهملة منذ عقود. ويقول: “نحن لم نقم بتأجير العقار أصلاً، بل هو إجازة لمدة شهر واحد فقط حتى نهاية كانون الثاني الجاري لركن 15 شاحنة، لأننا لا نعطي إجازة طويلة الأجل، وتتجدد المدة بناء على مدى الالتزام بالشروط المفروضة على المؤسسة”. ويشير إلى أن سكة الحديد تتعرض أساسًا للكثير من عمليات السرقة وتجارة الخردة وأعمال التخريب، وأن مصلحة سكة الحديد تحتاج لإيرادات بظل الأزمة المالية الكبيرة التي تعاني منها. ويقول: “نحن مؤسسة هرمة، تعاني من القهر، والموظفون فيها البالغ عددهم 110 موظفاً لم يتقاضوا رواتبهم منذ تشرين الأول الفائت، وبأمس الحاجة للإيرادات”. ويفيد بأن لديه نحو خمسة موظفين بلغوا سن التقاعد العام الفائت، ولكن حتى الآن لم تتمكن المصلحة من تسديد تعويضات نهاية الخدمة لهم بسبب شح الأموال لديها. ويضيف: “نحن أحرص الناس على سكة الحديد، ولن نقبل أن تبقى مستباحة للمعتدين. وهذه القضية أعادت تسليط الضوء عليها، ومن لديه مشروع لتأهيلها فليتفضل”.
تاريخ المحطة
في السنوات الأخيرة، توالت المبادرات لتحويل سكة الحديد إلى معلم سياحي، نظرًا لتاريخها الكبير، حيث لعبت دوراً هاماً ومحوريًا في حركة المواصلات داخل لبنان، وبينه وبين الداخل العربي، قبل أن تتوقف صفاراتها سنة 1975. وكانت الحرب الأهلية السبب الرئيسي في توقف القطار عن العمل.
ففي العام 1911، أي قبل الحرب العالمية الأولى، بدأ تشغيل محطة طرابلس، عبر ربط خط الحديد بينها وبين حمص في سوريا، وأنشئت بمبادرة محلية طرابلسية، بينما أنشأ الفرنسيون محطة بيروت المركزية سنة 1895.
وتقع المحطة المحاذية لمرفأ طرابلس وسط البساتين الجرداء على مقربة من ساحل مرفأ المدينة، يتآكلها الصدأ، لتكون شاهدًا تاريخيًا على أكبر “جريمة إهمال” بحق واحدة من أهم المعالم في طرابلس ولبنان، التي كان لها دور تجاري محوري يربط لبنان بمحيطه الخارجي. فهل مصيرها أن تكون مساحة جغرافية لمنح إجازات ركون الشاحنات ومرآب للجرافات؟ أم ثمة مشاريع توسعية مخفية تمتد من مرفأ طرابلس ستؤدي إلى ابتلاعها مستقبلًا؟