مخاطر شبه معدومة مقابل مخاطر بالجملة: القرض الحسن يتفوّق على المصرف

تواصل مؤسسة القرض الحسن دفع المدّخرات المحفوظة لديها، بوتيرة روتينية. فرغم كل ما أُشيع عن أنها تواجه صعوبات في التسديد ربطاً بضعف الإمكانات أو بشائعات عن استهداف مكان الأموال وسواها، إلا أن الواقع على الأرض مختلف وفقاً لإفادات شهود عيان تلقوا أموالهم نقداً بكاملها أو بالكمية التي طلبوها. وهذا ما يميّز هذه المؤسّسة عن سائر المؤسّسات التي تتعاطى الشأن المالي. نموذج القرض الحسن، يظهر الآن تفوقاً هائلاً على نموذج المصرف.

يقول عدد من أصحاب المدخرات الذين التقتهم «الأخبار» أنهم حصلوا على أموالهم المدخرة في القرض الحسن عند الطلب. لا يفصحون عن آليات السداد في ظل الظروف الحالية، إلا أنهم يؤكدون أنّ الأموال سدّدت. بعضهم طلب سحب كامل المبلغ المدخر في حسابه ولو كان يتجاوز الـ 300 ألف دولار، فيما اكتفى آخرون بسحب حاجاتهم فقط. والمؤسّسة لم ترفض طلباً لأحد، وإن كانت لمدة زمنية قصيرة، حدّدت عمليات السحب بما لا يزيد عن 5 آلاف دولار كل 30 يوماً، لكن هذا الأمر لم يدم لمدة طويلة. عملياً، أرست المؤسّسة شعوراً بالأمان تجاه المدّخرات ولم تطالب أصحاب القروض بتسديد المتأخرات، وهو أمر سبق أن حصل أثناء عدوان تموز 2006 وبعده. وقد تم هذا الأمر بكفاءة كبيرة، إذ أثبتت المؤسسة أنها قادرة على تقديم نموذج يتّسم بمرونة كبيرة في الأزمات التي تطاولها بشكل مباشر لجهة الاستهدافات المتعمدّة لفروعها وإجبارها على الإقفال.

ولدى لبنان تجربة مؤلمة مع المؤسّسات التي تتعاطى الشأن المالي في لبنان أبرزها المصارف. وهي من المؤسسات المالية التي تتعاطى بالمدّخرات والقروض وفقاً لآليات عمل مختلفة عن تلك التي تتبناها مؤسسة القرض الحسن، والتي رفضت المصارف أن تدفع للمودعين أموالهم من دون أي غطاء قانوني أو نظامي لهذا السلوك. فعندما وقع الانهيار المصرفي والنقدي في النصف الأخير من عام 2019، أقفلت هذه المصارف لمدة 12 يوماً وفرضت قيوداً واسعة على تسديد المدّخرات من دون أن يصدر أي قانون كابيتال كونترول، أو من دون صدور تعاميم تغطّي شرعية الإجراءات، لا بل كان سلوكها تجاه للمودعين شرساً في حصر الخيارات المتاحة لهم بإجبارهم على تجميد ودائعهم لمدة طويلة مقابل تحويلها من الليرة إلى الدولار. ولم يطل الأمر قبل أن تتّسع الفجوة بين سعر الدولار المصرفي وسعر الدولار السوقي لتصبح قيمة الدولار المصرفي موازية لـ10.

الفرق بين المصرف وبين المؤسّسة، أن الأول يتملك الوديعة لحسابه، كما تُعرّف الوديعة في قانون النقد والتسليف الذي يرعى العمل المصرفي. أما تملّك الوديعة من المصرف وتشغيلها لحسابه، يفرض على المصرف مخاطر مختلفة جداً عما هي عليه في سائر المؤسسة التي تتعاطى الشأن المالي. فالمؤسسة، لا تتملك الوديعة، بل تحفظها لصاحبها باعتبارها أمانة واجبة الردّ فوراً عند الطلب. كما أن المصرف يدفع فائدة على الوديعة لأنها يتملّكها ويشغّلها في الإقراض ويتقاضى عليها فوائد من الزبائن لتحقيق الربح، خلافاً لما تقوم به المؤسسة حين تستقبل الوديعة ولا تدفع فوائد عليها ولا تشغّلها بالإقراض المنتج للفائدة. الطريقة الوحيدة لاستعمال الوديعة لدى القرض الحسن هي أن يوافق صاحب الوديعة على أن يقرضها لشخص آخر بكفالته المباشرة ومن دون شرط الفائدة لا للمؤسسة ولا لصاحب الوديعة. وثمة طريقة أخرى للاقتراض من القرض الحسن، أن تودع لديه ذهباً مقابل قرض بقيمة الثلثين، وهو أيضاً قرض غير خاضع لقاعدة الفائدة ومموّل من سيولة المؤسّسة.

الواقع إن المخاطر الناتجة من الإيداع لدى القرض الحسن مختلفة كلياً عن مخاطر الإيداع لدى المصرف. لدى المصرف، بمجرّد تملكه للوديعة وسعيه إلى تشغيلها لإنتاج الأرباح، مخاطر تتعلق بالسيولة والائتمان والسوق والعمليات. قدرة المصرف على توفير السيولة ترتبط ارتباطاً مباشراً بالمخاطر التي تترتب على تسديد الوديعة للزبون. أي مشكلة سيولة لدى المصرف، تجبره على الامتناع عن التسديد والإيفاء وهي مشكلة متدحرجة تكبر تلقائياً بمجرّد ظهور مؤشرات وعلامات على مشكلة سيولة لدى المصرف. كما أن مخاطر الائتمان مرتبطة بقدرة المصرف على استرداد الودائع التي شغّلها، وهذا أمر في غاية الأهمية، لأن مخاطر البيئة الاقتصادية والسياسية تلعب دوراً كبيراً في عملية الإيفاء. إن احتمال انعدام قدرة المصرف على السداد بسبب خسائر كبيرة أو اختلاسات في المصرف أو انهيار اقتصادي تكون كبيرة ربطاً بتطورات من هذا النوع. وهي تُضاف إلى نوع آخر من المخاطر المرتبطة بالتشغيل أو العمليات التي تعرف في لجنة بازل بأنها «مخاطر الخسارة الناتجة من عدم كفایة العملیات الداخلیة أو فشلها والأشخاص والأنظمة أو من الأحداث الخارجیة».

في المقابل، أرسى القرض الحسن نوعاً من العلاقة الوثيقة مع مودعيه مبنية على معتقد أيديولوجي ينبذ الفائدة لمصلحة العلاقة التكافلية. فالمؤسّسة ليس لديها مخاطر سوقية لأنها لا تتملّك الوديعة ولا تسعى إلى تشغيلها في السوق، وليس لديها مخاطر الائتمان، وحتى مخاطر التشغيل تعدّ منخفضة جداً ربطاً بالسمعة التي أرستها مع مودعيها إبان عدوان تموز 2006، إذ لم يضع قرش واحد على أي مودع سواء كان مالاً نقدياً أو ذهباً. والآن يظهر أن المخاطر الخارجية التي تتعلق بالقرض الحسن ربطاً بالهجوم الذي تعرضت له المؤسّسة الأم والانهيارات التي حيكت حولها، ليست مؤثّرة في آليات عمله، بل إن مؤسسة القرض الحسن تواصل تسديد ما يتوجب للمودعين. أما المصارف، فتبدو ذات وزن أقلّ بكثير عند النظر إلى المقارنة بينهما. فالمودعون في المصارف ليس لديهم الآن أي طريقة للوصول إلى أموالهم سوى بالتنقيط من دون أي ضمانات بأن هذه الأموال ستعود يوماً ما.

مصدرجريدة الأخبار
المادة السابقةزمكحل:” طرابلس الكبرى منصة دولية للنهوض بالإقتصاد الوطني”
المقالة القادمةتقديرات البنك الدولي: 1.2 مليار دولار خسائر القطاع الزراعي