من 38 مليار و296 مليون دولار في 30 ايلول 2019 إلى حوالى 7,9 مليارات دولار في نهاية أيلول 2023، هكذا انخفضت محفظة التسليفات والقروض الممنوحة من قبل المصارف بالعملات الأجنبية إلى القطاع الخاص (حوالى نصفها عبارة عن قروض عقارية) نتيجة تسديدها إما باللولار أي من الودائع الفاقدة لقيمتها الحقيقية، وإما بعقارات مرهونة بأسعار مقيّمة بغير قيمتها الحقيقية، وإما على سعر الصرف الرسمي عند 1500 ليرة رغم انهيار العملة المحلية وفقدان قيمتها الإصطناعية المثبّتة سابقاً.
إستخدام دولارات المودعين
والنتيجة التي بات يعرفها الجميع ان دولارات للمودعين استُخدمت كتوظيفات للمصارف في قروض القطاع الخاص، وسددت بحفنة «لولارات» لا توازي قيمتها، ما زاد الطين بلّة وفاقم حجم الفجوة المالية وخسائر القطاع المصرفي وقلّص فرص استعادة المودعين اموالهم وقيمة السيولة الحقيقية للقطاع المصرفي بحوالى 30 مليار دولار. لم تعمد المصارف فقط الى اساءة الامانة عير توظيف ودائع عملائها بمخاطر عالية بل استمرّت بالاساءة حتّى بعد وقوع الازمة وتبخّر الودائع اكثر، وواصلت هدر ما تبقى من ودائع وأصول مصرفية من خلال الاستحواذ على العقارات المرهونة أوّلاً لتسديد القروض، وثانياً لشرائها مجدداً من قبل كبار المصرفيين والمدراء التنفيذيين ولكن بتقييم مختلف واسعار مختلفة (مخفّضة)، محمّلين الخسائر للمصرف!
سداد بالرهون
سُدّد جزء كبير من القروض والتسليفات الممنوحة للقطاع الخاص عبر تطبيق الرهون العقارية. وهو الامر الذي قد يكون طبيعياً لو لم تكن البلاد تمرّ بأسوأ انهيار اقتصادي على صعيد العالم، ولو لم تكن العقارات أيضاً آنذاك قد شهدت تراجعاً كبيراً بأسعارها فعلياً اي بالدولار النقدي وليس بالشيك المصرفي!
وبتواطؤ واضح بين المصارف والمقترضين، ومن اجل سعي متلهّف للمصارف الى تجميل ميزانياتها وخفض قيمة مطلوباتها مقابل رفع حجم أًصولها العقارية، سُدّد عدد كبير من القروض الممنوحة بالدولار عبر عقارات مرهونة تم تضخيم قيمتها على مقياس حجم القرض المصرفي «ويا دار ما دخلك شرّ!».
20 ملياراً
لعبت المصارف دور الوسيط بين المودعين والمطورين العقاريين، واستفادت من الأزمة عبر تخفيض نحو 20 مليار دولار من الديون العقارية، منها نحو 11 مليارا للمطورين العقاريين، و9 مليارات دولار لقروض القطاع الخاص العقارية. لكنّ الاخطر من ذلك، وهو الامر الذي يخشى المصرفيون حالياً فضحه خلال عملية اعادة الهيكلة التي قد تستوجب التصفية والملاحقة القضائية ورفع السرية المصرفية عن رؤساء واعضاء مجالس ادارات المصارف والمدراء التنفيذيين وغيرهم، هو الممارسات التي قام بها بعض المصرفيين استغلالاً للازمة. حيث لجأوا منذ بدء الحديث عن اعادة هيكلة المصارف، الى شراء الاصول العقارية التابعة لمصارفهم بأثمان بخسة من اجل تقليص موجودات المصارف الى الحدّ الادنى. مما سيجعل مصارفهم، في حال السير بمسار التصفية والافلاس القانوني، خالية من الموجودات. وفي إمعان لسوء أمانة الودائع وهدرها، استخدم المصرفيون ما تبقى من ودائعهم باللولار، لشراء أصول المصارف العقارية ولشراء عقارات لهم ولزبائنهم الدائنين، في ظلّ غياب تام لاي تدخل او تحقيق من قبل لجنة الرقابة على المصارف.
وهذا ما يجعل اليوم بعض الاعضاء في جمعية المصارف مستشرسين لاسقاط مشروع اعادة الهيكلة الذي سيفضح ممارساتهم ويدينهم مدنياً وليس جزائياً فقط! أي ان عملية تقييم خسائر المصارف ضمن قانون اعادة الهيكلة، ستكشف جميع تلك الممارسات المخالفة التي تلاعبت بتقييم العقارات صعوداً عند استخدامها لتسديد القروض، ونزولاً لدى اعادة شرائها من قبل مصرفيين.
لمصلحة الطرفين
واوضح احد الخبراء المصرفيين المطّلعين، ان مصارف استحوذت على عقارات مقابل قروض ممنوحة للقطاع الخاص بالدولار، باسعار مضخمة لصالح الطرفين: المقترضون الذين سددوا قروضهم بقيمة أقلّ، والبنوك التي قلصت مطلوباتها. مشيراً الى دور لجنة الرقابة على المصارف في هذا الاطار والمسؤولية الملقاة على عاتقها للتدقيق في ملفات الاسترداد قبل الموافقة على اسعارها. معتبراً ان المساءلة والمحاسبة من قبل لجنة الرقابة على المصارف، كان يجب ان تتم في حينها لانه بعد انقضاء اربع سنوات على اتمام عملية الاسترداد، سيزعم الطرفان (البنوك والمقترضون) ان الاسعار التي تمّت الاستردادات وفقها كانت الاسعار الرائجة في السوق.
المصرفيون استفادوا
واعتبر الخبير المصرفي ان النقطة الاهمّ هي تهرّب البنوك من اعادة هيكلة المصارف عبر سعي المساهمين في المصارف واعضاء الادارات العليا الى شراء الاصول العقارية التابعة للمصرف نفسه، حيث قام عدد كبير منهم بشراء مبانٍ (ولا يزال) خاصة بمصرفهم ليقوموا لاحقاً بتأجيرها الى مصرفهم، وذلك من خلال ودائعهم المحلية اي باللولار. وبالتالي، لفت المصدر الى ان هذا السعي يهدف الى تقليص حجم الأصول العقارية للمصارف المعنيّة الى حدّ الانعدام لتفادي، عندما يحين وقت اعلان الافلاس او التصفية، الحجز على اصول المصرف وبيعها من اجل تأمين اموال المودعين. مؤكداً ان تلك الممارسات في وقت تمتنع فيه المصارف عن تسديد الودائع، تعتبر مخالفة فاضحة كان يجب على لجنة الرقابة على المصارف التصدّي لها. واشار ردّا على سؤال، الى ان الكشف عن تلك الممارسات ممكن في حال تمّ تقييم وضع المصارف والتدقيق في خسائرها ورفع السرية المصرفية عن الرؤساء والاعضاء والمساهمين وملاحقتهم قضائيا، «إلا ان هذا السيناريو مستبعد في لبنان نظراً للتجارب السابقة أبرزها في ما تيعلّق بالبنك المركزي، مع الاشارة الى دور الجهة التي ستقوم بالتدقيق في فضحهم».
الأمر عادي
من جهته، اوضح الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود ان المادة 154 من قانون النقد والتسليف تسمح للمصرف باسترداد دينه من خلال استملاك العقارات بشرط ان يصبح تصنيف هذا الدين قبل تملّك العقار من الديون غير المنتظمة او غير المنتجة، وبالتالي لا يشكل هذا الامر مخالفة. لافتاً الى وجوب ان يسبق التملّك، عملية تقييم تقوم بها لجنة الرقابة على المصارف وتعطي على اثرها موافقتها المسبقة وفقا للمهندسين المخمّنين المعتمدين لديها.
اما بالنسبة للممارسات التي حصلت بعد العام 2019، فاعتبر حمود انه نتيجة الفرز الذي حصل في الودائع بين fresh dollar ولولار ونتيجة احتجاز الودائع وعدم القدرة على سحبها، سارع المودعون الى بيع ودائعهم باسعار زهيدة مقابل سيولة نقدية بالدولار. وبعدما استدرك مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف الامر، اصبح تخمين كافة العقارات الموجودة في البلاد، وفقا للدولار النقدي. وبالتالي، في حال كانت قيمة القرض على سبيل المثال، مليون دولار في دفاتر المصرف، كان يتم استبداله بعقار قيمته النقدية 400 الف دولار. علماً ان المصرف يملك حرية القرار بقبول الـ 400 الف النقدية لسداد قرض المليون دولار وتسجيل الـ600 الف دولار كخسائر دفترية على المصرف، اقتناعاً منه بانه اصبح يمتلك عقاراً بقيمة نقدية تبلغ 400 الف دولار. علماً ان من اقدم على هذا الامر استفاد لاحقاً من بيع هذا العقار وارتفاع قيمته بـ»اللولار» الى 3 ملايين دولار!
واعتبر حمود ان هذا الامر خلقته ممارسات السوق ولا يعتبر تملّك عقار سداداً لديْن، مخالفة. مشيراً الى ان تسديد القروض بعقارات امر ايجابي لان العقارات ستعود لقيمتها الحقيقية، وكلّ موجودات المصارف ستساهم لاحقاً في تغطية ودائع العملاء في حال أمّنت الخطط المطروحة للانتظام المالي واعادة الهيكلة، تغطية مطلوبات المصارف بموجوداتها، مستبعداً حصول هذا الامر «نظراً لما نشهده من إلهاء مقصود او إخراج هواة في طريقة التعامل مع عملية الانقاذ والاصلاح والقوانين المطلوبة».