لم يكن أحد يتصوّر في لبنان أن يكون طريق إقرار الموازنة الأكثر تقشفاً في تاريخ البلاد «مفروشاً بالورود»، لكن المناخ الذي أحاط بانطلاقِ مناقشات مشروعها «بالأحرف الأولى» أمس في مجلس الوزراء عَكَسَ حجم «الأشواك» التي تحوط بموازنةٍ يُراد لها أن تكون «تأسيسيةً» لـ«ربيع» مالي – اقتصادي ينتشل البلاد من حافة انهيارٍ يطرق الأبواب وقد يتحوّل واقعاً ما لم ينطلق المسارُ الإصلاحي الموجِع.
فبينما أطلق مجلس الوزراء في جلسته التي انعقدت برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون البحث بمشروع الموازنة من ضمن نقاشٍ عام لم يدخل في التفاصيل التي تُناقَش ابتداء من اليوم في جلسات متتالية للحكومة تستمرّ حتى الأحد إذا لزم الأمر لإقرار المشروع وإحالته على البرلمان، كان «هدير» الاحتجاجات الاستباقية في الشارع على أي خياراتٍ تمسّ بمكتسبات المتقاعدين أو العاملين في القطاع العام أو بالنظام التقاعدي يوجّه إشاراتٍ تعكس حساسية هذا الملف «المدجّج بالفتائل» التي يُخشى بحال عدم التعاطي معها بدقّة أن تضع البلاد بين خياريْن أحلاهُما مُرّ: إما تفجير غضبة شعبية لا أحد يمكنه تقدير المدى الذي يمكن أن تأخذه على مشارف موسم سياحي يبدو واعداً، وإما «تكبيل» الحكومة في سياق سعيها إلى «الهدف الاستراتيجي» المتمثل بخفْض العجز الى الناتج المحلي عبر تَراكُم «الخطوط الحمر» حول الإجراءات المؤلمة، وتالياً إبقاء خطر الانهيار أو حتى تكبيره.
وكانت «خبْطة أقدام» العسكريين المتقاعدين أمس هي الحدَث الأبرز الذي واكَب المناقشات في مجلس الوزراء، بعدما نفّذ هؤلاء سلسلة تحركات تحذيرية تركّزت في بيروت وتحديداً في ساحة رياض الصلح وأمام مديريات تابعة لوزارة المال ومصرف لبنان حيث عمدتْ مجموعات من العسكريين القدامى الى قفْل مداخله لبعض الوقت. كما شَمَل التحرك مرفأ بيروت الذي اعتصم أمامه المحتجون وأقفلوا أحد أبوابه حتى قرابة الرابعة عصراً، ولسان حالهم التحذير من أي مساس بمكتسباتهم وتأكيد أن «هناك الكثير من الأموال ليغطوا فيها عجز الدولة بدل جيوب الفقراء والعسكريين».
ولم يتأخّر انضمامُ القطاعات العمالية الى «كرة ثلج» «الاعتراضات السبّاقة» مع إعلان اتحاد النقابات العمالية في المؤسسات العامة والمصالح المستقلة بعد اجتماع برئاسة رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر الإضراب العام في جميع هذه المؤسسات غداً والجمعة إضافةً إلى السبت (للمؤسسات التي تعمل في هذا اليوم) وذلك على خلفية «الاطلاع على طروحات لخفض رواتب العاملين في القطاع العام»، مؤكداً «الرفض المطلق للمساس بالرواتب والتقديمات الخاصة بالعاملين في المؤسسات العامة والمصالح المستقلة والإدارات العامة كافة»، مع التلويح بالإضراب المفتوح بحال اعتماد أي من هذه الخيارات، وهو ما حذّرت منه أيضاً رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية.
وأثار جعْل مناقشات الموازنة تجْري على وهج حركة الاعتراضات علامات استفهام حول إذا كان ثمة «قطباً مَخْفية» سياسية، أقلّه من باب لعبة المزايدات أو سحْب اليد من أي إجراءات «حارِقة» شعبياً، أو محاولةً لإثارة مناخاتٍ تهويلية على أي مقارباتٍ تطول القطاع العام مثل التجميد الموقّت لشطْر من الرواتب (المتوسطة والعالية) مع بحث تأطير تدبير الحجز الرقم 3 للأسلاك العسكرية وتعديل بعض جوانب آليات تقاعد العسكريين (ابتداء من أي سنّ) أو إلغاء مكافآت وأشهر فوق الـ13 شهراً وغيرها من الإجراءات، وذلك بهدف الضغط نحو تحميل المصارف مسؤولية المساهمة بخفْض الدين العام وهو ما يُبدي هذا القطاع استعداداً للقيام به (عبر اكتتابات بفوائد مخفضة) شرْط إظهار جدية بالإصلاحات ووقف مزاريب الهدر ورفْض تحويله «كبش محرقة» لممارساتٍ خاطئة.
وكان لافتاً أمس تظهير أبعاد «ما وراء مالية» وراء المنحى للتركيز على المصارف وتحميلها الجزء الأثقل من مهمة الإنقاذ المالي، وذلك عبر ما أوردته «وكالة الأنباء المركزية» بلسان «أهل الاقتصاد» من وجود «حملة مبرمجة تقودها قوى سياسية هدفها الفعلي الضغط على المصرف المركزي وحاكمه رياض سلامة، علها تفلح في منع تطبيق العقوبات الاميركية على حزب الله بحسب رغبة واشنطن، أي بقسوة دون الأخذ بالاعتبار خصوصيات لبنان»، قبل أن تنقل عن مصادر اقتصادية – مالية عليمة ربْطها هذه الحملة بالاستحقاق الرئاسي المرتقب «بحيث تساهم الحملة في تشويه صورة الحاكم وضرب القطاع من جهة والتعمية على اخفاقات المسؤولين السياسيين في الاتفاق على كيفية الخروج من الأزمة عبر إصلاحات وتخفيضات في الموازنة وفق ما يطالب البنك الدولي والدول المانحة في مؤتمر(سيدر)».
وكان لافتاً ان وزير المال علي حسن خليل حرص بعد انتهاء جلسة مجلس الوزراء أمس على تأكيد أهمية ألا«تكون هناك جبهات داخل الحكومة واعتماد لغة واحدة داخل مجلس الوزراء وخارجه»، في إشارة ضمنية إلى أهمية عدم انزلاق القوى السياسية المشارِكة في الحكومة الى مزايداتٍ شعبوية كان حذّر منها (خليل) نهاراً من خلال توضيحه أنه لا يوجد اتجاه «لاستهداف الحقوق المكتسبة للعسكريين المتقاعدين، والمطروح إجراءات تنظيمية لملف التقاعد ككل لضمان استمراريته كما يجب، وهي ليست اقتراحات مقدسة بل نتيجة التشاور مع الكتل المختلفة»، وذلك بينما كان وزير الدفاع الياس بو صعب يوجّه خلال جولة له على الحدود الشمالية الشرقية مع سورية الاعتذار الى «المتقاعدين العسكريين لأنه بعد كل تضحياتهم أصبحوا في الشارع يتظاهرون لعدم المس برواتبهم التقاعدية، وليس من المسموح تحميل الجيش تبعات الوضع المالي السيئ (…) ولا يحق لأحد سوى قيادة الجيش إلغاء تدابير ولا سيما التدبير رقم 3».