يخضع الوضع النقدي المأزوم أساساً في لبنان، وبالتالي التهدئة النسبية السائدة في أسواق المال، لامتحان حرج في الأيام والأسابيع المقبلة، بفعل الازدحام الاستثنائي لحزمة من العوامل المؤثرة في مساره وفي إدارة السيولة الشحيحة بالعملات الصعبة، وما تفرضه من إجراءات إضافية للتحكم بتدفقاتها وسد ما تحفل به من ثغرات، ومنع استغلالها من قبل تجار العملات؛ توخياً لاستعادة أجواء المضاربات الساخنة على العملة الوطنية.
وترصد الأوساط المالية والمصرفية باهتمام بالغ تأثير التغييرات الحيوية ذات البعد التقني التي ستطرأ على حركتي العرض والطلب في أسواق العملات، بنتيجة تزامن بدء صرف الزيادات المضاعفة على رواتب القطاع العام واعتماد بدلات النقل الجديدة، مع ترقب الأسواق لترجمة توجّه وزارة المال لإقرار رفع سعر الدولار الجمركي مجدداً ليعادل سعر الصرف المعتمد على منصة «صيرفة».
فيما يتوازن معهما في الخانة الإيجابية عامل ضخ كميات وازنة من الدولار الطازج (الفريش)، والمحقّق بالنشاط السياحي الإيجابي الذي رافق عطلات الأعياد المتتالية خلال الشهر الحالي.
وبالتوازي، يشير مسؤول مالي معني إلى أن حركة العرض والطلب في أسواق القطع تتداخل تلقائياً مع مركزية القرار النقدي وتؤثر مباشرة فيها، بحيث يتقاطع الاهتمام بمتابعة الملف القضائي الأوروبي – وبالتحديد الفرنسي الذي يخص حاكم البنك المركزي رياض سلامة والمقبل على استحقاق موعد المثول أمام قاضية فرنسية – مع ارتفاع وتيرة التداول بضرورة التلافي المبكر للشغور المحتمل في رأس هرم السلطة النقدية بعد انتهاء الولاية القانونية للحاكم بنهاية شهر يوليو (تموز) المقبل.
وفي ظل غياب الإفصاحات الرسمية للكلفة الإجمالية الناجمة عن قرارات الزيادات التي قررها مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة، تتوافق التقديرات على توقع ارتفاع كتلة مخصصات القطاع العام والبدلات بنحو 4 آلاف مليار ليرة، مما سيرفع القيمة التبادلية للرواتب وحدها إلى 75 مليون دولار شهرياً عبر منصة البنك المركزي، ويزيد بالتالي حجم الكتلة النقدية بالليرة، وفقاً لسعر الصرف الساري في الأسواق الموازية.
ووفق معلومات المسؤول المالي، فإن البنك المركزي سيواكب هذه المستجدات بضخ ما تتطلبه من دولارات نقدية لصالح موظفي القطاع العام والمتقاعدين عبر منصته بدءاً من الأسبوع الحالي، بحيث سيكفل تصريف المبالغ الجديدة لصالح نحو 280 ألف موظف في القطاع العام، والناجمة عن زيادات جديدة بمعدل 4 أضعاف على أساس الرواتب للعاملين المدنيين في القطاع العام و3 أضعاف للمنضوين في الأسلاك العسكرية والأمنية، إضافة إلى المستحقات العائدة لآلاف المتقاعدين والمتعاقدين التابعين للإدارات والمؤسسات العامة.
ويستدل من الإحصاءات المحدّثة لميزانية البنك المركزي على أن احتياط العملات الصعبة لا يزال مستقراً عند مستوى قريب من 9.5 مليار دولار، واستقرار موازٍ لكتلة الليرة بحدود 66 تريليوناً، مما يمنح قوة دفع لقرار تنفيذ المبادلات. بل إن المخزون سجل زيادة في النصف الأول من الشهر الحالي بنحو 88 مليون دولار، رغم التدخل المفتوح في عرض بيع الدولار النقدي عبر المنصة، وبإجمالي تداولات تعدت 1.5 مليار دولار منذ 21 مارس (آذار) الماضي.
وهو ما يؤشر إلى أن حجم العمليات المحقق لا يعكس فقط مبيعات العملة الأميركية، إنما هو حصيلة قيود عمليات الشراء والبيع التي ينفذها مدير المنصة، أي المصرف المركزي، وبمشاركة المصارف وشركات الصرافة وتحويل الأموال.
وبمعزل عن مواقف جمعيات ونقابات الإدارات العامة بعدم كفاية هذه الزيادات وترجيح قرارها بالاستمرار في الإضراب العام، تبدو مهمة البنك المركزي غير سهلة لوقت طويل في تأمين استمرارية تصريفها بالدولار بسعر منصة «صيرفة»، والذي يحقق زيادة إضافية بنسبة تقارب 10 في المائة على المبلغ بالليرة، قياساً بالفوارق الحالية بين 87 ألف ليرة للدولار ومتوسط سعر 97 ألف ليرة لكل دولار في الأسواق الموازية.
وبالتوازي، يربط المسؤول المالي، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، المدى الزمني لدور البنك المركزي في حماية قيمة الرواتب عبر ربطها بسعر شبه مستقر للدولار، بفاعلية الإجراءات المواكبة التي ستنفذها وزارة المال على مسارين متوازيين، بحيث يقضي الأول بتحسين جباية الضرائب والرسوم والمرتبط حكماً بعودة الموظفين إلى ممارسة مهامهم في الإدارات والمؤسسات العامة، فيما يؤمل أن يحقق الثاني والمرتبط برفع سعر الدولار الجمركي زيادات أكبر في موارد الخزينة، فضلاً عن التوسع أكثر في سحب الكتلة النقدية المحررة بالليرة عبر فرض السداد النقدي بنسب عالية لكُلف الخدمات والضرائب والرسوم الحكومية.
ويصطدم التدبير الخاص بالدولار الجمركي برفض الهيئات الاقتصادية التي بادرت إلى المطالبة، وبإلحاح، بعدم رفعه إلى ما يوازي دولار منصة «صيرفة»، والتوقف عند سقف 60 ألف ليرة، لإعطاء الوقت الكافي لدراسة أثر زيادة الدولار الجمركي من 45 ألف ليرة إلى 60 ألف ليرة، ومن ثم النظر في إمكانية زيادته مرة جديدة بعد أقل من 15 يوماً.
وفي هذا الإطار، أكدت الهيئات تفهمها لحاجات الدولة التمويلية، لكنها في الوقت نفسه حذرت من أن استسهال تأمين الإيرادات عبر زيادة الدولار الجمركي سيكون له تداعيات اجتماعية وحياتية خطرة وإخلالات اقتصادية لا تحمد عقباها، مشيرة إلى أبواب أخرى يمكن اللجوء إليها، ومنها مكافحة الاقتصاد غير الشرعي الذي بات يشكل أكثر من 50 في المائة من حجم الاقتصاد الوطني.
أما بشأن الوضع القانوني لحاكم المصرف «المركزي»، سواء لجهة الملفات المثارة ضده من قبل قضاة في لبنان وخارجه، أو لجهة قرب انتهاء ولايته، فإن تقييم تفاعلات هذا الأمر، وفقاً للمسؤول المالي، سيتناسب حكماً مع المستجدات المرتقبة على المسارين، ولا سيما أن نسب الأرجحية أقرب حالياً إلى التوازي بين كفتي الإيجابية والسلبية، علماً بأن هناك إشارات مبطنة إلى إمكان إقدام الحكومة، وتحت سقف «تفاهمات سياسية»، على الحسم المبكر، وربما خلال الشهر المقبل، لمسألة تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان.