مذكرة المصارف لربط نزاع أم محاولة لوأد نزاع آخر؟

تقدم 11 مصرفاً بمذكرة ربط نزاع امام وزارة المالية بصفتها دائنة لمصرف لبنان ومتضرّرة من (1) عدم تسديد الدولة ديناً مستحقاً بذمتها لمصرف لبنان يتجاوز 16 مليار دولار اميركي يدفع بالعملة الاميركية، حسب ما ورد في ميزانية المصرف المنشورة على موقعه الالكتروني باللغة الانكليزية وعدم مطالبة الاخير اياها بسداد هذا الدين، و (2) من عدم تغطية الدولة الخسائر التي ظهرت كعجوزات في ميزانيات مصرف لبنان ما بين اعوام 2015 و2020 بعد ان تم تصحيحها بموجب تقرير Alvarez & Marsal. بحيث تخطت 51 مليار دولار اميركي في العام 2020 وذلك عملا بالمادة 113 من قانون النقد والتسليف التي تنص على انه في حال « كانت نتيجة سنة من السنين عجزاً، تغطى الخسارة من الاحتياط العام ( لدى مصرف لبنان )، وعند عدم وجود هذا الاحتياط او عدم كفايته تغطى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة». وطالبت مذكرة المصارف الدولة اللبنانية بسداد الدين وتغطية العجز الآنفي الذكر. وايضاً، وبعد تصحيح ميزانية مصرف لبنان لسنتي 2021 و2022 وتحديد قيمة العجز الاجمالي، بتغطية قيمة هذا العجزعملاً بالمادة 113 الآنفة الذكر. وقد استندت المصارف في مطالبها الى نص المادة 276 من قانون الموجبات والعقود التي تجيز للدائنين «ان يستعملوا باسم مديونيهم جميع الحقوق وان يقيموا جميع الدعاوى المختصة بهم… وان يداعوا مياشرة عن مديونهم… شرط ان يكون دينهم مستحق الاداء… وتكون نتائج الدعوى مشتركة بين جميع الدائنين بدون ان يترتب للدائن الذي شرع في الدعوى امتياز ما على الاخرين«.

ربط إعادة الودائع إلى المودعين بإعادة الدولة ومصرف لبنان أموال المصارف إليها

ورد في مذكرة ربط النزاع «ان الدولة استدانت على مدى 11 عاماً ما بين 2010 و2021 من ودائع المودعين التي اودعتها المصارف اللبنانية لدى مصرف لبنان وانفقتها. وبالتالي فان سبب امتناع مصرف لبنان عن اعادة ودائع المصارف لديه بالعملات الاجنبية للمصارف هو فعل الدولة اللبنانية المتمثل بامتناعها عن تنفيذ موجباتها القانونية تجاه مصرف لبنان المدين بدوره للمصارف المستدعية… ما يحول دون تنفيذ المصارف موجباتها تجاه مودعيها برد ودائعهم اليهم».

كلام غير دقيق في ما انتهى اليه ويرمي بوضوح الى تحوير الأساس القانوني لتعامل المصارف مع المودعين. فالاخيرة تصبح بعد استلامها الودائع من اصحابها مالكة للودائع ويقع عليها غنم وغرم استعمالها وتوظيفها مقابل فوائد محددة معدلاتها تدفعها وأصل الوديعة بالتواريخ المتفق عليها مع صاحبها. وتتحدث المذكرة عن الودائع وكأنها محكومة بأنموذج خاص من «عقود إدارة الحسابات» gestion des comptes أو «العقود الائتمانية» contrats fiduciaires يكون بمقتضاها على المودعين، لا المصارف، تحمّل تداعيات العقود التي تبرمها إدارات الأخيرة. والمقصود هنا طبعاً الآثار الخاسرة لهذه العقود بنظر المصارف، لا المربحة منها. وهذا غير صحيح، اذ تبقى المصارف ملتزمة برد الودائع التي تلقتها ومتمماتها الى اصحابها بغض النظر عن نتائج استعمالاتها وتوظيفاتها لهذه الودائع، ومنها عدم قيام الدولة ومصرف لبنان برد المتوجب عليهما لها اي للمصارف.

عدم إمكانية المصارف التأسيس على مخالفات فردية ومشتركة ارتكبتها

تقول قاعدة قانونية لاتينية انه لا يمكن للقاضي سماع من أفسد وقام بباطل ويطالب بحقه من هذا الباطل.

nemo auditur propriam turpitudinem allegans.

ترجمتها الى الفرنسية :

Personne ne peut être entendu (en justice) s’il invoque sa propre turpitude

فالاموال التي تطالب المصارف الدولة ومصرف لبنان بإعادتها اليها متأتية من مخالفات ارتكبتها المصارف فرادى او بالاشتراك مع الدولة ومصرف لبنان، واودت الى تسليمها (اي المصارف) الجهتين الاخيريتن اموال المودعين وهي تطالب الآن باستعادتها.

فمذكرة المصارف تشير عرضاً الى عدم قانونية اقراض مصرف لبنان الودائع المصرفية الى الدولة، واللافت، من دون اي توقف ومناقشة لقانونية اقراضها هي لهذه الودائع الى مصرف لبنان والدولة. لقد قامت المصارف بمخالفة احكام المادة 121 من قانون النقد والتسليف وشروحاته التي تطالبها بان تستعمل لحسابها الخاص في عمليات تسليف الاموال التي تتلقاها من الجمهور، وذلك من خلال اتيان عمليات تدخل ضمن نشاط وموضوع «مصارف الاعمال والتسليف المتوسط والطويل الاجل» حسب القانون 22/ 67. فوظفت الجزء الأكبر من الودائع التي تلقتها، على الاخص بالدولار، في سندات وعمليات آجلة مع القطاع العام (سندات خزينة ويوروبوندز كما شهادات ايداع مصدرة من مصرف لبنان وهندسات مالية متنوعة اطلقها الاخير ) طمعاً بمعدلات فوائد مجزية.

ايضاً خالفت المصارف في عملياتها السابقة الاحكام النظامية التي تحظر عليها منح الاعتمادات لشخص واحد بما يتعدّى نسبة 30 بالمئة من الاموال الخاصة لكل مصرف، ودون تكوين مؤونات كافية مقابل الإنكشاف على مخاطر الدين السيادي خصوصا عندما يكون بالعملات الاجنبية لعدم وجود «مقرض أخير» بهذه العملات. وهو امرحذّر منه صندوق النقد الدولي في عدد من تقاريره من دون أن تلقى تحذيراته الآذان الصاغية.

كذلك ارتضت المصارف تكوين توظيفات الزامية بمعدلات فوائد مجزية مخالفة للقانون طالبها بها مصرف لبنان بمقتضى القرار الاساسي 7926 تاريخ 20 ايلول 2001، من دون ان تطعن بعدم قانونية هذا القرار الواضحة. اذ يستند في حيثياته الى المادة 67 (و) من قانون النقد والتسليف. وهذه الفقرة لا تعطيه خيار فرض اية توظيفات الزامية، علماً ان الفقرة (د) تتحدث حصرياً عن احتياطات الزامية غير منتجة للفوائد.

كما راكمت المصارف الاكتتابات باصدارات آجلة لمصرف لبنان من شهادات الايداع بالعملات الاجنبية. علماً ان حيثيات القرار الاساسي رقم 7534 المنظم لهذه الاصدارات تستند الى المادة 81 (6) من قانون النقد والتسليف. وهذه الفقرة لا تتحدث عن موضوع اصدار مصرف لبنان لشهادات ايداع. والفقرة التي تليها تتحدث حصراً عن حالتي استقراضه بالعملات الاجنبية من المصارف المركزية والمصارف والمؤسسات المالية الاجنبية والمؤسسات المالية الدولية، وشرط ان يكون الاستقراض لمدة قصيرة الاجل وضمن نطاق مهامه كمصرف مركزي. وقد اقترن تسويق شهادات الايداع المصدرة من مصرف لبنان بتقاضي عمولات موضوع ملاحقات قانونية في عدد من الدول الاوروبية بجرم تبييض الاموال.

وشارك العديد من المصارف بهندسات مالية ذات عوائد جد مجزية اطلقها مصرف لبنان بصورة مخالفة للقانون، وتعاقب عليها المادتان 671 و 690 من قانون العقوبات. وذلك ابتداء من عام 2015 وهو العام الذي ذكر تقرير Alvarez & Marsal تجاوز العجز في ميزانية مصرف لبنان 15 مليار دولار، فكان التمويه على هذا العجز واحداً من الاهداف المبتغاة من هذه الهندسات.

والشيء اللافت ان الرئيس السابق لجمعية المصارف الدكتور فرنسوا باسيل كان قد حذر عام 2014 من تمويل المصارف لطبقة سياسية فاسدة، فجوبه بحملات تجريح وتقريع ودعوى ضدّه من النائب هاني قبيسي من حركة «أمل» التي يرأسها السيد نبيه بري، الذي أقر في 20 آذار 2019 بان «الفاسد الاكبر هو الدولة»… وقد اختارت ادارات غالبية فروع المصارف الاجنبية الانسحاب من السوق اللبناني على الانغماس بالمخاطرة الخطيرة التي قامت بها المصارف الاخرى بتركيز تمويلها بالعملات الاجنبية لعمليات وحاجات قطاع عام فاسد.

قروض المصارف للخزينة ولمصرف لبنان هي قروض «مقيتة «

تكمن اهمية الاشارة الى المخالفات القانونية السابقة في امكانية التأسيس عليها للرد على مذكرة المصارف وأية مطالبات قضائية لاحقة قد تتقدم بها الاخيرة، على قاعدة ان القروض التي ابرمتها مع الخزينة ومصرف لبنان يمكن تصنيفها بـ»المقيتة» او «الكريهة» ويمكن التملّص منها، وتحميل مسؤوليتها لمن أبرموا عقودها أو أصدروا وروجوا لسنداتها واكتتبوا بها، في ما لو تم اثبات «مقت هذه الديون وكراهتها» بعدم اطلاع وموافقة ممثلي الشعب عليها وانفاقها في مجالات من غير المؤكد انها للصالح العام ويقين المقرضين بالامر، حسب استاذ القانون الروسي Alexander Nahum Sack المتخصص بالاشكالات المالية للدول التي تتعسر وتتوقف عن دفع ديونها.

وقد اكدت هذا المنحى وطورته دراسات وقرارات عديدة منها دراسة صدرت عن صندوق النقد الدولي تحت عنوان «التمويل والتنمية» لـ Michael Kremer و Seema Jayachandran، وتقرير للبنك الدولي بعنوان « الديون المقيتة: اعتبارات عدة» ودراسة للاستاذ في القانون Robert Howse من جامعة Michigan لصالح منظمة الـ CNUCED وغيرها…

وقد اثارت عدة دول في تاريخها موضوع «مقت ديونها العامة وكراهتها» وتنوعت النتائج المتحصلة من ذلك. من هذه الدول المكسيك، كوبا، كوستاريكا والعراق وغيرها… ومما لا شك فيه ان قروض المصارف اللبنانية للدولة ومصرف لبنان بغالبية صورها هي من نوع «القروض المقيتة» سنداً لاعلان وتنبيه رئيس جمعية المصارف السابق الدكتور فرانسوا باسيل. ويصدق الامر على قروض مصرف لبنان للدولة اذ تخالف القانون ايضاً بشكل فاقع.

النتيجة

التهديد باحتجاج الدولة ومصرف لبنان بـ» مقت وكراهة» القروض التي حصلا عليها من المصارف يفضي بلا ريب الى تدعيم وتركيز مسؤولية والتزام المصارف برد الودائع الى اصحابها، من دون ربط ذلك باي امر خارجي مثل اشتراط سداد الدولة ومصرف لبنان لديونهما للمصارف، ما يضمن عدم تحول مذكرة ربط النزاع الموجهة من المصارف الى وزارة المالية الى محاولة لوأد نزاع آخر هو: نزاع المصارف مع مودعيها حول استرداد الاخيرين لودائعهم منها.

وتهديد الدولة ومصرف لبنان باثارة هذا الاحتجاج رداً على مذكرة ربط النزاع قبل اعتماد ترتيبات تضمن التزام المصارف برد نسبة عليا من الودائع الى اصحابها، سيدفع الى تركيز الجهود على الخطط والبرامج الهادفة الى تعزيز هذه القدرة وهذا الالتزام. واهمها تدخل المشرع لوضع الاحكام التشريعية التي تنظم استرداد جميع الاموال التي تم تحويلها بصورة استنسابية الى الخارج بعد 17 ايلول 2019 بما فيها الاموال الائتمانية على نحو معاقب عليه بالمادة 690 من قانون العقوبات. وفتح ملف القروض التي تم استيفاؤها استنسابياً على اسعار صرف متدنية عن اسعار الصرف الواقعية خلافاً لشروحات الفقه القانوني والترتيبات التي تعتمد عادة عند حدوث ازمات مالية مصحوبة بموجات تضخم عاتية توصلاً لاعتماد تسويات تضمن حقوق المودعين كاملة. ايضاً يجب ان تكون هناك اعادة نظر في ملف الهندسات المالية التي عقدت على نحو معاقب عليه ايضا بمقتضى المادة 690 السابقة، حيث تشير دراسة احد الاقتصاديين المرموقين الى ان المبالغ الممكن تحصيلها من هذا الملف لا تقل قيمتها عن الملف السابق ما يقدر معه ان تبلغ او تفوق قيمة المبالغ المتأتية من تسوية الملفين السابقين، مضافاً اليهما قيمة التوظيفات الالزامية لدى مصرف لبنان بالعملات الاجنبية وقيمة القروض التي لا تزال عالقة بهذه العملات لدى المصارف وغيرها… الفجوة التي يحكى عن وجودها في حسابات مصرف لبنان. بنهاية المرحلة الاولى يجب ان يصار الى عقد تسوية بين الدولة ومصرف لبنان من جهة، والمصارف من جهة اخرى. يتفق فيها على رد نسبة مجزية من التزامات الفريق الاول الى المصارف يتم تحديد مقدارها وكيفية ومواعيد ادائها على ان تخصص منها نسبة معينة لرد ودائع المودعين المتبقية مباشرة.

ايضا يفيد التهديد بالاحتجاج بـ»مقت وكراهة» القروض العامة في اطلاق مناقشات تهدف الى تسوية مقبولة مع حاملي سندات اليوروبوندز، وما يسهل ذلك ورود اسم لبنان من ضمن لائحة الدول المتقدمة بالفساد. وهو امر كان يفترض توقع افرازاته على قروضه واصداراته من قبل المكتتبين بسنداتها او الذين اكتسبوها لاحقاً من خلال الاسواق. اخيراً من الطبيعي الاشارة الى ان اطلاق هذا المنحى في تسوية الامور يتطلب اول ما يتطلب قادة لا شائبة فساد في ماضيهم ولا في حاضرهم يمكن تعييرهم بها وتناقض توجهات المنحى.

مصدرنداء الوطن - توفيق شمبور
المادة السابقةمليون دولار لردم الحفرة وإنهاء مشروع كليّة الصحة العامة في الفنار
المقالة القادمةلا صفة لمجلس شورى الدولة للنظر في مطالبات المصارف