نبدأ بالإشارة أولاً إلى أنّ ما صدر عن إدارة الإحصاء المركزي ليس دراسة عن الفقر في لبنان بل هو عمل إحصائي بحت يتضمّن تصميماً لدليل قياسي للفقر، والنتائج التي يعطيها عند تطبيقه على بيانات مسح القوى العاملة لعام 2019. وهذه باتت صيغة شائعة في ما يسمى دراسات الفقر في السنوات الأخيرة، إذ يقتصر الأمر غالباً على اعتماد منهجية معينة (أخيراً منهجية أوكسفورد لدليل الفقر متعدّد الأبعاد) واحتساب النتائج يقوم بها فريق إحصائي أو عدد محدود من الباحثين أو العاملين في منظمات حكومية أو دولية **.
مناقشة علمية لدليل 2019
المشكلة هنا مزدوجة تتمثّل:
– أولاً في اختزال دراسة الفقر بعمل إحصائي محدود.
– ثانياً في كون القائمين بهذا العمل إحصائيون أو أشخاص غير مختصّين فعلياً في دراسة الفقر بما هو ظاهرة مركّبة. فمثل هذه الدراسة تحتاج إلى فريق متعدّد الاختصاصات يتضمّن خبراء في مجال الفقر تحديداً وإحصائيّين، كما يجب أن يكون لهذا الفريق الدور الأساسي في تصميم الدليل القياسي الذي يحوّل إلى الفريق الإحصائي ليقوم بعمله التقني بعد ذلك، ثم يعود للفريق المتعدّد الاختصاصات نفسه أن يقوم بالتحليل الذي يجب أن يشكّل المكوّن الأساسي في الدراسة، لا مجرد استعراض الجداول والتعليق عليها.
على أيّ حال، إنّ إحالة موضوع دراسة الفقر إلى الأجهزة الإحصائية مع بعض الدعم من قبل منظمات دولية يتجاوز اختصاصات أجهزة الإحصاء نظراً للطابع السياسي لتعريف الفقر وارتباطه بالسياسات، إلى جانب الطابع العلمي. إلّا أنّ هذه الممارسة شائعة وتُسهم فيها المنظمات الدولية لأن ذلك يُتيح لها أن تُحكم هيمنتها على دراسات الفقر التي غالباً ما تكون في خدمة برامج معينة في البلد المعني، أو تستخدم بالأولوية للمقارنات الدولية. فما هو بين أيدينا في صفحات 40 صادرة عن إدارة الإحصاء (معظمها شرح لتصميم الدليل والمؤشرات)، ليس دراسة عن الفقر في لبنان، ومثل هذه الدراسة لا تزال حاجة ملحة وضرورية يجب أن توكل إلى فريق وطني متعدّد الاختصاصات.
الدليل اللبناني – 2019 يعتمد منهجية أوكسفورد – برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وإطاره المفهومي العام، ويتمايز عنه في التصميم العام واختيار المؤشرات والعتبات. إلا أنّه ثمة مشكلة في الإطار المفهومي الأصلي نفسه، كما في بعض عناصر التطبيق اللبناني.
إنّ تصميم دليل أوكسفورد يقوم على بنية ثلاثية تتكوّن من المؤشّرات فالأبعاد ثم الدليل المركب، وهي نفسها المعتمدة في الدليل اللبناني. إلّا أنه عند التطبيق، فإنّ دور الأبعاد ثانوي في التحليل ويقتصر حضورها على الجانب الإحصائي فقط (مساهمة البُعد المعني في دليل الفقر، وهذا شأن إحصائي)، في حين أنّ عرض النتائج وحتى طريقة الحساب تقفز مباشرة من المؤشّر إلى الدليل من دون أيّ تحليل على مستوى الأبعاد. وهذه ثغرة كبيرة. لا بل أبعد من ذلك، ثمة ضعف هيكلي في دليل أوكسفورد يتمثّل في إهماله ما يمكن اعتباره الأبعاد الفرعية ضمن البعد الواحد، والتي تشكل معياراً أساسياً في اختيار المؤشّرات بدلاً من الاختيار العشوائي للمؤشّرات ضمن البُعد الواحد، أو الاحتكام إلى توافر البيانات بدلاً من الملاءمة في اختيار المؤشرات. وهذه الثغرة موجودة في الدليل اللبناني بحكم استنساخ منهجية أوكسفورد، وتلافي ذلك هو من مهام فريق خبراء وطنيين بالتعاون مع الإحصائيين.
يُفضّل أن يُبذَل جهد إضافي لتوحيد عدد المؤشّرات ضمن كل بُعد (من دون أن يكون ذلك إلزامياً حكماً)، لأنّ من شأن ذلك أن يعزّز التوازن في أوزان المؤشّرات الإفرادية، ولا سيّما أنّ طريقة احتساب الوزن الإجمالي الذي يحدّد عتبة الفقر (25% من الأوزان الإجمالية) تتجاوز مسألة الأبعاد من الناحية العملية وتقتصر على التجميع الحسابي لأوزان المؤشرات. وبهذا المعنى مثلاً، فإنّ وزن أن يكون أحد أفراد الأسرة ضمن الفئة العمرية 18-34 ليس حائزاً على شهادة البكالوريا (0.10)، يُساوي تقريباً وزن الحرمان لأسرة تسكن في منزل ليس فيه كهرباء، ولا يوجد فيه مرحاض، ومياه الشرب المستخدمة غير آمنة (وزن إجمالي للمؤشرات الثلاثة 0.12)!
اعتمد الدليل اللبناني خمسة أبعاد هي: التعليم (مؤشّران)، الصحّة (مؤشران)، الأمان المالي، والبنى التحتية، ومستوى المعيشة (خمسة مؤشّرات لكلّ منها). ويُلاحظ أنّ ثمة تداخل في ما يعبّر عنه كلّ بعد ولا سيّما الأمان المالي ومستوى المعيشة. فما يرد من مؤشّرات في بُعد الأمان المالي هو في جوهره يتعلّق بالوضع الاقتصادي ومستوى الدخل – المعيشة المتوقّع للأسرة (ما عدا مؤشر الاعتماد على التحويلات للمسنين، ونسبياً العمل غير النظامي)، وربما كان من الأجدى أن يتم اختبار إمكانية الجمع بين البُعدين في بُعد واحد مثلاً، ما يمكن أن يحسّن الاتّساق العام للدليل.
كذلك، كان بالإمكان التفكير في اعتماد بُعد خاص بالسكن بدلاً من البنى التحتية ولا سيّما أنّ ثلاثة من مؤشّراته الخمسة تتعلّق بتوافر الخدمات داخل المسكن. مثل هذه المسائل غالباً ما تناقش في الفريق الوطني المكلّف بإعداد الدراسة وتصميم الدليل، ومن شأنها أن تسهم في تأصيل الإطار المفهومي، وأن تجعل اختيار الأبعاد، وتحديد الأبعاد الفرعية ضمنها أكثر دقّة وملاءمة، وبناء على ذلك، اختيار المؤشّرات بما يقيس الأبعاد الفرعية لا البُعد الأساسي مباشرة، وهو ما من شأنه أن يقلّص من هامش الانحرافات والذاتية.
أذكر بالتقييم الإيجابي الإجمالي لعمل إدارة الإحصاء وفريقها في تصميم الدليل وحساب النتائج، وينطبق ذلك على الاجتهاد في اختيار المؤشّرات، التي تُعتبر ملائمة في معظمها من دون شك. إلا أنّ غياب الإطار المفهومي المتّسق يسهم في تشتيت الاختيارات بفعل فقدان المعايير الواضحة. ولو نظرنا إلى المؤشّرات المختارة (وردت في الجدول رقم 1) وإلى نسبة الحرمان المسجّلة بين عموم السكان بالنسبة إلى كلّ مؤشّر (الشكل رقم 2)، يمكن أن نورد بعض الملاحظات على المؤشّرات من شأنها أن تُسهم في تحسين التصميم والنتائج. على سبيل المثال:
أ- في بُعد الصحّة، هناك مؤشّر عن الوصول الفعلي إلى الخدمات الصحية (إذا مرض شخص أو احتاج إلى دواء ولم يحصل على الرعاية بسبب الكلفة)، وهو مؤشّر ملائم ويقيس الاستخدام الفعلي للخدمات الصحية (أي هو مؤشّر نتيجة وهو أفضل من المؤشّرات الوسيطة). لكن يرد في بُعد البنى التحتية مؤشّراً عن وجود مستشفى أو عيادة على مسافة 15 دقيقة في السيارة، وهو مؤشّر ضعيف الدلالة، ولا ضرورة له طالما أنّ المؤشّر الأول يقيس الحصول على الخدمة الصحية فعلياً، فلا ضرورة لإضافة مؤشّر عن عرض مبدئي للخدمة الصحية الذي قد لا تُستخدم أصلاً.
ب – في بُعد البنى التحتية يرد مثلاً مؤشّر عن النقل، إذ اعتبر الأسرة محرومة في هذا المؤشر إذا لم تكن تملك وسيلة نقل سيارة، أو دراجة نارية، أو بيك آب، أو هناك مسافة تزيد عن 10 دقائق سيراً على الأقدام حتى أقرب وسيلة نقل (باص، تاكسي). وفي هذا الصدد، إنّ كل مؤشّرات المسافة عن توافر خدمة معينة ضعيفة الدلالة في لبنان، على نحو خاص في المدن والبلدات (النتيجة حسب إدارة الإحصاء هي أنّ نسبة 3.5% فقط من المقيمين محرومون بالنسبة إلى هذا المؤشر). ويشترط هذا المؤشر أن تكون الأسرة لا تملك وسيلة نقل خاصة (و) تعيش في الوقت عينه على مسافة أكثر من عشر دقائق من وسيلة نقل أخرى عامة أو خاصة يملكها شخص أخر. من جهة أخرى، بالإمكان مناقشة خيارات أخرى تجعل ملكية السيارة الخاصة (وهي ذات دلالة مختلفة عن ملكية دراجة نارية أو بيك آب من منظور الفقر) إلى ملكية الأصول، وقد تكون أكثر دلالة وأهمية من حصر مؤشّر الوصول إلى المعلومات أو مؤشّر الاتصال (ملكية هاتف أو جوال أو إنترنت ونسبة الحرمان 2%) أو حتى من حصر ملكية الأصول في الأدوات المنزلية (تلفزيون، فرن، غسالة، مكنسة كهربائية حيث نسبة الحرمان 27%).
اختيار العتبات مسألة أساسية وتترك تأثيراً مباشراً على نسب الحرمان في بعض المؤشّرات والأبعاد. ثمة بالتأكيد أساس موضوعي لاختيار عتبة الحرمان مع جانب اجتهادي أيضاً، لذلك هناك أهمية للإطار المفهومي والمقاربة المعتمدة في تعريف الفقر وكذلك لأهداف السياسات. هذه العوامل من شأنها أن تعطي أهمية أكبر لبُعد ما يُترجَم في تحديد عتبات مؤشّرات الحرمان.
نلاحظ ذلك بشكل خاص في اختيار عتبات مؤشّرات التعليم في الدليل اللبناني (وهي شائعة أيضاً في تجارب أخرى في المنطقة). لقد تمّ تحديد عتبة الحرمان في التعليم عند مستوى مرتفع نسبياً، وهو إتمام المرحلة الثانوية بالنسبة إلى الفئة العمرية 18-34، وكذلك بالنسبة إلى الالتحاق ضمن الجيل الحالي من التلامذة. هذه العتبات أدّت إلى جعل نسبة الحرمان في المستوى التعليمي تبلغ 58% وهي الثانية بعد نسبة الحرمان في مؤشّر أمان العمل (64%). هذه النسبة الأخيرة مفهومة تماماً إذ إنها تمثّل تقريباً محصّلة نسبة العمل غير النظامي (55%) والعمل الجزئي (نحو 5%). بالنسبة إلى التعليم، فإنّ المؤشّر المعتمد يشترط أن يكون جميع السكان الذين هم تحت الـ18 سنة ملتحقين بالتعليم، وكلّ السكان فوق الـ18 سنة (حتى 34) قد حازوا على الشهادة الثانوية، أي في حال كان هناك شخص واحد غير ملتحق أو لم يتم المرحلة الثانوية، فإنّ الأسرة تُعتبر محرومة في هذا المؤشّر. نذكر أيضاً أنّ هذه النسب تشمل المقيمين، أي تشمل اللاجئين في لبنان أيضاً. وحسب اعتقادي أنّ هذه العتبة مرتفعة. فمن الناحية الواقعية يجب أن تكون مضبوطة بمتوسط عدد سنوات الالتحاق أو متوسط المستوى التعليمي للسكان بحسب الفئات العمرية، وعتبة الحرمان يجب أن تكون واقعياً أدنى من المتوسط (أو قريبة جداً منه في بعض الحالات)، إلّا إذا كانت مقاربة الفقر نفسه وتعريفه تتطلب ذلك (مثلاً مقاربته من منظور الحقوق بشكل كلّي أو جزئي، كما هو الحال بالنسبة لتوفّر التأمين الصحي الذي هو حقّ لا يمكن اجتزاؤه). وفي لبنان، فإنّ أكثر من نصف الأطفال الذين يدخلون الصف الأول، لا يصلون ولا يُتمّون الصف الثاني عشر (نهاية المرحلة الثانوية).
نكتفي بهذا القدر من الملاحظات الفنية على الدليل ومؤشّراته وهي فقط للفت النظر إلى المسائل التي تتطلّب لحظها عند تصميم أي دليل، وننتقل إلى بعض الملاحظات على النتائج.
سبقت الإشارة في الجزء الأول من المقال، إلى ترجيح أن تكون نسب الفقر (53%) أعلى قليلاً مما هو متوقّع مقارنة مع النتائج المتوقّعة لو استخدمت قياسات مشابهة لما اعتُمد لقياس الفقر عامَي 1995 و2005. ونكتفي هنا بالتعليق على بعض نتائج 2019 لجهة الاتّساق الداخلي.
بيّنت النتائج على مستوى المحافظات أنّ نسبة الفقر هي أقلّ من المتوسّط الوطني في جبل لبنان فقط (43% مقابل المتوسط الوطني البالغ 53%) وهي تساوي تقريباً المتوسط الوطني في بيروت (52%)، في حين أنها تزيد عن المتوسط الوطني في المحافظات الأخرى وتبلغ أقصاها في محافظة عكار مع نسبة فقر تبلغ 70%. وبحسب هذه النتائج فإنّ التمييز لا يزال قائماً بين لبنان المركزي (بيروت وجبل لبنان) ولبنان الطرفي (المحافظات الأخرى) الذي سبق رصده في الدراسات السابقة.
لكنّ نسب الفقر كانت دائماً أدنى في بيروت (9% عام 2005) مقارنة بجبل لبنان (22% عام 2005) لأنّ محافظة بيروت تقتصر على بيروت الإدارية في حين أنّ محافظة جبل لبنان وإن كانت تضم أقضية تُعدّ نسب الفقر فيها متدنية (كسروان مثلاً)، إلا أنّها تضمّ أيضاً الضاحيتَين الجنوبية والشمالية للعاصمة مع ما تحتويه من كثافة سكانية لفئات تعيش بمستوى معيشة متدنٍ، وهو ما يفسر ارتفاع نسبة الفقر فيها مقارنة ببيروت. ولكن في نتائج 2019، فإنّ نسبة الفقر في جبل لبنان أقل ممّا هي في بيروت، وهذا تغيّر هام، يحتاج إلى تحقّق وإلى تفسير لا تقدّمه النتائج المنشورة لسبب سبق إيضاحه هو أنّ ما بين أيدينا، هو تقرير إحصائي وليس دراسة عن الفقر، لذلك لا نجد تفسيراً ولا نجد تحقّقاً من دقّة النتائج. كما أنّ نسبة الفقر في محافظة البقاع (البقاعَين الأوسط بمن فيها زحلة، والبقاع الغربي) أعلى ممّا هي في محافظة بعلبك – الهرمل (67% مقابل 62%) وهو ما يبدو أيضاً غير متوقّع، ولا سيّما متى نظرنا إلى وضع زحلة تحديداً.
على مستوى الأقضية سوف نجد أمثلة مشابهة. بعض التبدّل في المواقع بين الأقضية المتقاربة يبقى أمراً ممكناً (مثلاً أن يكون قضاء المنية – الضنية أكثر فقراً من قضاء/ محافظة عكار أو العكس)، إلا أنّ اللافت مثلاً هو أنّ نسبة الفقر في زحلة تبلغ 69% وهي في الترتيب الرابع في لبنان بعد المنية – الضنية (77%) والهرمل (72%) وعكار (70%). وتتساوى زحلة مع عكار تقريباً في نسبة الفقر، وهي تزيد فيها عن بعلبك بتسع نقاط مئوية (60%). ففي التقارير السابقة كانت زحلة في موقع أفضل مقارنة ببعلبك – الهرمل إذ كانت نسبة الفقر فيها 21% عام 2005، مقارنة بـ41% من الأسر في بعلبك – الهرمل.
هذا التراجع الكبير في موقع زحلة يتطلّب التفسير، وقد فسّر أحد أعضاء فريق الإحصاء ذلك بأثر مؤشّر الحرمان من الكهرباء الذي يُقاس بعدم وجود اشتراك في مولّد كهربائي وهو ذو دلالة معكوسة في زحلة بسبب توافر الطاقة الكهربائية والتي شكّلت مستقرّاً من خلال شركة كهرباء زحلة، الأمر الذي يعكس دلالة مؤشّر عدم وجود اشتراك في المولد. وهذا سبب آخر لضرورة تصحيح النتائج من قبل فريق الدراسة (لو كنا بصدد دراسة)، علماً بأنّ مؤشّر الكهرباء المشار إليه لا يمثّل سوى 1/25 من الوزن الإجمالي للدليل ولا يكفي لتفسير هذه النتيجة.