مراسلات خطيرة تكشف تآمر سلامة على برنامج صندوق النقد

من الأكيد، ولا شكّ في ذلك، أنّ الدور التي يؤدّيه حاكم مصرف لبنان، منذ التسعينات وحتّى اليوم، لا يتخطّى حدود “محاسب” المنظومة السياسيّة، الذي هندس لها نموذجًا ماليًّا متقنًا، بما يتكامل مع النموذج الاقتصادي الذي أرسته السياسات الحكوميّة. وهو منذ بدء الانهيار، تحوّل إلى صمّام أمان هذه المنظومة السياسيّة، التي راهنت على دوره في حماية مصالحها المتشابكة بين القطاعين العام والمصرفي. بهذا المعنى بالتحديد، لا يوجد أي تناقض بين فهم الدور المركزي والأساسي الذي يلعبه رياض سلامة اليوم، من موقعه، وفهم “حرب المصالح” التي تخوضها المنظومة السياسيّة مجتمعة في وجه المجتمع اللبناني، في ظل الانهيار، لحماية مصالحها بالذات.

العودة إلى هذه الفكرة، تأتي اليوم بمناسبة الكشف عن الدور الذي يلعبه رياض سلامة في هذه الأيّام، والهادف لاغتيال التفاهم مع صندوق النقد. وهو ما تكشف عنه مراسلات بالغة الخطورة جرت بين لجنة المال والموازنة وحاكميّة المصرف المركزي. التفاهم مع صندوق النقد، الذي لا تجرؤ السلطة السياسيّة عن التملّص منه صراحةً، بفعل الضغط الدولي وضغط الرأي العام، يتجه اليوم للموت البطيء بضربات مُحْكمة من حاكم المصرف المركزي. الحاكم، الذي ينعم بغطاء السلطة السياسيّة في وجه الملاحقات القضائيّة الجارية بحقّه، يقولها اليوم للمنظومة على رؤوس الأشهاد: أشهدوا لي أنّي من يحمي مصالحكم، من الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد.

مراسلات لجنة المال والموازنة وحاكم مصرف لبنان

يذكر الجميع كيف أطاحت الألاعيب التي جرت في لجنة المال والموازنة بخطّة لازارد عام 2020، عبر الانقلاب على تقديرات الخسائر التي تم الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي، وبحسب خطّة لازارد نفسها. ويذكر الجميع كيف أطاحت هذه الألاعيب، التي جرت بالتنسيق مع حاكم مصرف لبنان وجمعيّة المصارف، بمسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وللأمانة، قد تكون تلك المناورات هي ما مهّد لرحيل حكومة دياب لاحقًا، بعدما فقدت القدرة على أداء مهمّتها الأولى والأساسيّة، أي إنجاز هذا التفاهم مع صندوق النقد بنجاح. هذا المشهد، بات في طريقه ليتكرّر من جديد، لكن بألاعيب جديدة.

مع بدء لجنة المال والموازنة بدراسة قانون “إعادة التوازن للانتظام المالي في لبنان”، قرّر رئيس اللجنة إبراهيم كنعان –كما فعل عام 2020- العودة إلى مناقشة حجم الخسائر وطبيعتها. وعلى هذا الأساس، وجّه كنعان بتاريخ 31/01/2023 كتابًا إلى رئيس مجلس الوزراء، يطلب فيه تزويده بمجموعة من المعطيات، ومنها نسب توزيع المسؤوليّات على الأطراف المعنيّة، ونسب توزيع الخسائر على القطاع المالي، وأصول وموجودات ومساهمات الدولة، بالإضافة الأرقام النهائيّة لمجموع الودائع المصرفيّة.

في الأصل، لا يوجد أي مشكلة في استناد لجنة نيابيّة إلى أرقام حكوميّة، عند دراسة مشروع قانون بهذه الخطورة والحساسيّة. لكنّ تاريخ الكتاب المرسل إلى رئاسة الحكومة، وما جرى لاحقًا، يشير بوضوح إلى أنّ وراء الأكمة ما وراءها، وهذا ما سينكشف من المراسلات لاحقًا.

كان من المفترض أن تكون كل هذه المعطيات جزءًا من خطّة التعافي المالي، التي عمل عليها فريق رئيس الحكومة في مفاوضاته مع صندوق النقد. وكان من المفترض أن يرسل ميقاتي الأرقام التي يطلبها كنعان، بالإستناد إلى النماذج الحسابيّة التي عمل عليها فريقه عند تحديد فجوة الخسائر، والتي تم تقديرها عند حدود 73 مليار دولار. باختصار، ما كان يجب أن يقوم به ميقاتي هنا هو تزويد كنعان فرضيّات خطّة حكومته لا أكثر، هذا إذا كان صادقًا في الدفاع عن هذه الخطّة، التي قام على أساسها التفاهم مع صندوق النقد.

لكنّ خيوط اللعبة تبدأ بالانكشاف مع إحالة رئاسة مجلس الوزراء، وبسرعة قياسيّة، الطلب إلى حاكميّة مصرف لبنان، في كتاب مؤرّخ في 01/03/2023، أي بعد يوم واحد من كتاب كنعان. ومرّة جديدة: هذه التواريخ جزء أساسي من المناورة، التي ستنكشف فصولها تباعًا. لكن في جميع الحالات، كل ما جرى –حتّى هذه المرحلة من المراسلات- يطرح السؤال التالي: ما هو المنطق الذي يدفع رئاسة الحكومة للاستناد إلى تقديرات جديدة من حاكم مصرف لبنان، إذا كان المطلوب الدفاع عن تقديرات الخطّة الموجودة أساسًا؟

ينام الملف بأسره لنحو 20 يومًا، قبل أن تظهر إحالة جديدة من نائب الحاكم الثالث لحاكم مصرف لبنان، يطلب بموجبها أن يرسل الحاكم شخصيًا المعلومات للحكومة، كون المعطيات المطلوبة “خاضعة للسريّة المصرفيّة” (وهذا ليس صحيحًا بالمناسبة)، وكون نائب الحاكم الثالث “لا يستطيع التأكّد من صحّة المعلومات” لعدم متابعته للمديريّة (؟). ثم يوجّه مكتب الحاكم بتاريخ 21/02/2023 كتاباً إلى مدير الإحصاءات، يطلب بموجبه مراجعة الحاكم بخصوص هذا الطلب.

وأخيرًا، في 28/02/2023، أي قبل يومين، يعيد حاكم مصرف لبنان المعلومات المطلوبة إلى القاضي محمود مكيّة، بصفته أمين عام رئاسة مجلس الوزراء، الذي يحيل المعلومات بدوره إلى لجنة المال والموازنة.

ما الذي جرى خلال شهر واحد، بين 31/01/2023 (تاريخ كتاب كنعان الأوّل) و28/02/2023 (تاريخ إجابة حاكم مصرف لبنان)؟ هذا ما يمكن فهمه بالعودة إلى الأرقام التي أرسلها حاكم مصرف لبنان.

هدف اللعبة: اللعب بتقديرات الخسائر

اليوم الأخير من شهر كانون الثاني، الذي أرسل فيه كنعان طلب المعلومات، كان موعد الانتقال من اعتماد سعر الصرف الرسمي القديم (أي 1507.5 ليرة للدولار) إلى سعر الصرف الرسمي الجديد (15,000 ليرة للدولار).

لم يكن هذا التزامن بين الكتاب، وموعد اعتماد سعر الصرف الرسمي الجديد مجرّد مصادفة. ففي اليوم التالي مباشرة، أي في بداية شهر شباط، أعاد حاكم مصرف لبنان هندسة ميزانيّته، على أساس سعر الصرف الرسمي الجديد، ثم خلق الإلتزام المترتّب على الدولة اللبنانيّة بقيمة 16.5 مليار دولار، لمصلحة مصرف لبنان. كان اعتماد سعر الصرف الجديد، مجرّد حجّة اعتمدها حاكم مصرف لبنان لـ”نبش” الـ16.5 مليار دولار، ويقيدها كالتزام على الدولة لصالحه، على اعتبار أنّه “أخفى”(؟) هذه الإلتزامات الدولاريّة سابقًا لوجود ضمانات كافية مقابلها بالليرة في حسابات الدولة، فيما بات عليه التصريح عنها اليوم بعد ارتفاع قيمتها عند اعتماد سعر الصرف الجديد المرتفع.

بمعزل عن الطلاسم والخزعبلات التي يعتمدها رياض سلامة في تحضير موازاناته، والتي ينظر ببعضها القضاء اليوم بتهمة التزوير في حسابات المصرف المركزي، أعاد سلامة خلال شهر شباط –بعد استلامه مراسلة كنعان وقبل الإجابة عليها- هندسة ميزانيّته، وأعاد بذلك هندسة الخسائر التي يستفسر عنها كنعان.

وهكذا، برز في المعلومات التي أرسلها سلامة إلى المجلس النيابي عبارة تقول: “بتاريخ 01/02/2023 (تم) اعتماد معدل صرف 15000 بدلاً من 1507.5 (…) ما استوجب إظهار ما يوازي بالليرة اللبنانيّة رصيد المدفوعات الصافي التراكمي والبالغ 16,505,030,257.27 دولار أميركي ضمن بند تسليفات للقطاع العام”.

بهذه العبارة، قلّص رياض سلامة قيمة الخسائر المصرفيّة التي ستأخذها لجنة المال والموازنة بالاعتبار بنحو 16.5 دولار، وهي تحديدًا قيمة الفجوة الموجودة كفارق بين إلتزامات القطاع المصرفي وموجوداته بالعملة الأجنبيّة (في ميزانيّات مصرف لبنان والمصارف مجتمعة). وهذه الخسائر، هي ما يفترض أن يتم التعامل معه عند إعادة هيكلة القطاع المصرفي. في المقابل، سيكون سلامة قد ألقى على الدولة اللبنانيّة كتلة خسائر جديدة، قدرها 16.5 مليار دولار، في استعادة للتحايل الذي جرى عام 2020 للالتفاف على تقديرات خطّة لازارد للخسائر المصرفيّة.

قتل برنامج صندوق النقد

ما قام به سلامة، بالتكافل والتضامن مع رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، يصل لحدود التآمر الصريح على برنامج صندوق النقد الدولي المقترح، تمامًا كما جرى عند العبث بتقديرات الخسائر عام 2020. وهنا، تطول لائحة التساؤلات:

– هل هي صدفة أن يتزامن موعد مراسلة كنعان الأولى، مع موعد الانتقال لاعتماد سعر الصرف الرسمي الجديد؟ هل هي صدفة أن تأتي هذه المراسلة في اليوم نفسه الذي أُضيف فيه دين الـ16.5 مليار دولار على الدولة اللبنانيّة لحساب مصرف لبنان؟

– هل سيوافق كنعان على اعتماد مقاربات سلامة المحاسبيّة، ومن ثم الإطاحة بخطة صندوق النقد على هذا الأساس، فيما ينظر القضاء اليوم بدعاوى تزوير ترتبط بالمقاربات المحاسبيّة التي يعتمدها حاكم مصرف لبنان؟

– كيف يقوم رئيس الحكومة بإحالة طلب حسّاس كهذا لحاكم مصرف لبنان (الملاحق بالمناسبة بتهم الاختلاس وتبييض الأموال)، بدل الدفاع عن تقديرات وأرقام خطته؟ ألم يكن بإمكان ميقاتي الاكتفاء بتزويد لجنة المال والموازنة بالنماذج التي تم اعتمادها للوصول إلى رقم 73 مليار دولار؟

– لماذا لم تلجأ لجنة المال والموازنة حتّى اللحظة، لمساءلة الحكومة اتجاه مسألة الـ16.5 مليار دولار؟ ولماذا لم يلجأ وزير الماليّة للدفاع عن مصالح الدولة اللبنانيّة في هذا الشأن؟ هل يعمل هؤلاء لحساب المصارف، أم لحساب الشعب اللبناني؟ هل يعمل وزير الماليّة كمؤتمن على المال العام، أم يعمل كمدير لعمليّات المصرف المركزي تحت إشراف رياض سلامة (منصبه قبل تولّي الوزارة)؟

– ما هو مستقبل هذه البلاد، إذا أطاحت هذه اللعبة بخطة التعافي الجديدة، بدل تصويبها؟

تطول لائحة التساؤلات، لكن الأكيد هو أن ما جرى خلال شهر شباط هو مؤامرة محكمة، ومحطّة مفصليّة في مسار توزيع الخسائر المستمر منذ العام 2019. أمّا الأكيد أيضًا، فهو ما أن جرى سيكون لحظة تأسيسيّة، باتجاه اغتيال التفاهم مع صندوق النقد الدولي مرّة أخرى، وترك البلاد تسير باتجاه السقوط الحر والشامل.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقة“ليبان بوست” تعاقب موظفيها: استمرار الشركة فضيحة مدوية
المقالة القادمةمصارف لا تستجيب للعبة سلامة “المملّة”: الدولارات غير مضمونة