في دراسة فنّ الخطابة، غالبًا ما يشير علماء النفس إلى أنّ الخطيب يضطر إلى رفع الصوت، أو ضخ المزيد من الكريزما في أدائه، أو الإفراط في الإسهاب والشرح، حين يدخل كلامه حيّز التضليل أو الكذب. وقد لا تكون مصادفة أن يتميّز كبار القادة الأيديولوجيين، في الأنظمة أو الأحزاب الشموليّة العقائديّة، بطول مدّة خطاباتهم وتشنّج نبرتهم وارتفاع أصواتهم. فالمطلوب هناك، هو إغراق الجمهور بنهر من البروباغندا والدعاية السياسيّة، التي تعلّب منظور الفرد للشأن العام والمجتمع والتاريخ وحتّى الاقتصاد، في قالب متماسك من السرديّات المترابطة، التي لا يجمعها سوى شعار الحزب أو الأمّة وصورة الزعيم. هو فنّ الإقناع، وتجييش المشاعر بالشعبويّة، حين يضعف المنطق، ويغيب عن الخطاب مصالح الفرد، لمصلحة الشعارات.
سلامة: الاستثناء الفاقع
في تاريخ العاملين بالشأن العام اللبناني، يُسجّل لسلامة أنّه الاستثناء الفاقع، مقارنة بالسياسيين اللبنانيين. هو وحده من يستطيع أن يقول الشيء، ثم نقيضه، ثم نقيض نقيضه مجددًا، خلال دقائق معدودة، من دون أن يرمش له جفن، ومن دون أن يبذل أدنى جهد للشرح أو الإقناع أو الإسهاب، أو حتّى تغيير نبرة الصوت!
يفعلها كما يتنفّس، ببلادة وبرودة وهدوء، وبصوتٍ رتيب مضجر. يحار المرء في هذا المطلوب الدولي الغريب: كان بإمكانه أن يبذل جهدًا أكثر ليقنعنا. كان بإمكانه أن يخفي بعض التناقضات في حديثه. لماذا لم يقل هذه الفكرة، التي كان من شأنها –لو قالها- أن يضفي بعض الزخم لآخر زعم كاذب قاله للتو؟ لماذا ازدحمت هذه الفقرة بثلاث سرديّات متعارضة، بدلًا من التركيز على سرديّة متماسكة، ولو كاذبة؟
تزدحم التناقضات في حديثه، في مقابلة يوم أمس الأربعاء في برنامج “حوار المرحلة” التلفزيوني. لقد قال للتو أنّه أعاد للمصارف دولاراتها منذ زمن، أي أن الفجوة هي من مسؤوليّة المصارف وفي ميزانيّاتها، لا مصرف لبنان. بعد دقائق معدودة، يعود ليشير أن مصرفه المركزي يعاني بالفعل من فجوة قيمتها 57 مليار دولار أميركي، هي الفارق بين إلتزاماته للمصارف وما تبقى لديه من عملة صعبة، أي أنّ مصرفه مسؤول بالفعل عن تبديد هذه الأموال بعمليّاته مع المصارف. ثم يتذكّر بعد قليل أنّه أسلف الدولة هذه المليارات، نفسها، وأن هذه المليارات نفسها هي ديون عامّة لا خسائر.
يدوخ المرء، فلا يفهم شيئًا. يحدّق في الشاشة: لا تتغيّر نبرة رياض، لا يرتفع صوته ولا ينخفض، لا يسهب ولا يشرح. لقد قال ما عنده بصوته الخمول والمُمل، تمامًا كحال الرسوم البيانيّة التي يرفعها بين الحين والآخر، والكرة باتت في ملعب المستمع. هناك من سمع وفهم التناقضات، وهناك من سمع ولم يفهم، وهناك سلامة الذي يقول كل ذلك بخفّة، وكأنه يتحدّث عن حال الطقس، وليس عن حقيقة أحد أكبر الانهيارات المصرفيّة التي شهدها التاريخ الحديث.
لوهلة، تشعر أنّه لا يكترث بما سيقتنع به المستمع. وإلا، فما الذي يفسّر كل هذا الاستهتار في آخر مقابلة له، قبل مغادرة منصبه؟ يدفعك لهذه الخلاصة، جوابه المقتضب على السؤال المتعلّق بفضيحة شركة “فوري”، التي جعلته مطلوبًا للإنتربول منذ مدّة قصيرة. هي شركة كانت تحصّل “الكوميسيون” (العمولة)، ولا يرغب الحاكم بتقديم أي أجوبة إضافيّة بخصوص الملف. على اللبنانيين، من خلال هذه الكلمات الأربع، أن يقتنعوا أن حاكمهم لم يختلس 330 مليون دولار أميركي، من أموال مصرف لبنان العموميّة، كما تؤكّد الوثائق والعقود والتسريبات، التي امتلأت بها صفحات الصحف العالميّة على مرّ السنتين الماضيتين. هذا كل ما يرغب الحاكم بقوله.
زحمة الطلاسم الماليّة
في مكان آخر، تشعر أن الرجل قد يكون أذكى من أن يستهتر بالرأي العام، في مقابلة تاريخيّة ستختم 30 سنة من عمله كحاكم للمصرف المركزي. ربما يعرف الرجل أنّ ما يقوله هو، بالنسبة للمواطن العادي، مجرّد زحمة من الطلاسم الماليّة والنقديّة التي يقل من يفهمها. ربما تسعده هذه الحقيقة، ليذهب إلى هذا الحد في تعقيد الأمور واختتام فقرات حديثه بخلاصات ضبابيّة.
بهذه الطلاسم، كان يتغنّى سلامة بالأمس بتسجيل النظام المصرفي معدلات نمو مذهلة في الودائع، قبل العام 2019، متغافلًا عن حقيقة أنّ هذه الودائع هي في واقع الأمر: ديون، إلتزامات، أعباء، على النظام المصرفي.. وأن ما يهم هو ما كان يخسره بصمت من هذه الأموال. ربما لذلك، اعتبر أنّه تمكّن من القيام بعمل جبّار في الحاكميّة على مرّ 27 سنة من الزمن (أي لغاية حصول الانهيار)، في الوقت الذي كان يراكم فيه الخسائر بصمت خلال هذه السنوات، قبل أن تنفجر الأمور في السنوات الثلاث الأخيرة. من سيلتفت إلى هذه المغالطات، إذا لم يكن غارقًا بفهم طلاسم شبه الميزانيّة، التي ينشرها مصرف لبنان كل 15 يومًا؟
ثم يخطر على بال المستمع حقيقة أخرى: ربما هو رجلٌ أنهى مسيرته المهنيّة، ولم يعد يملك ما يكترث إليه من طموح مصرفي أو سياسي. ربما لذلك، وبكثير من الخفّة، ينفي في البداية أن يكون قد استبدّ في المجلس المركزي بتعامله مع نوّابه، قبل أن يعود ويقرّ خلال لحظات بأنّه اتخذ القرارات المتعلّقة بالسياسة النقديّة -التي هي من صلاحيّات المجلس- بموجب تفاهم عابر وبسيط مع وزير الماليّة. يقولها بعبارة سريعة وينتقل إلى موضوع آخر، وكأن ما فعله ليس فضيحة بمعايير عالم قانون النقد والتسليف، الذي أقسم على تطبيقه. ما الذي سيخسره سلامة بعدما أقرّ بذلك؟ هل كان سيطمح للتعيين كحاكم في مصرف مركزي آخر؟ وهل سيكون ذلك فضيحة أعظم شأنًا من فضيحة شركة فوري؟
جملة من المغالطات
وهكذا، يحار المرء في كيفيّة تعداد المغالطات التي انطوت عليها المقابلة. يقول أنّ منصّة صيرفة راكمت الدولارات بيد المصرف المركزي، بدلًا من استنزاف الاحتياطات. ثم يشير إلى انخفاض الاحتياطات من 10.28 مليار دولار في بداية السنة إلى 9.4 مليار دولار في أواخر حزيران.
يشير إلى تنفيذه جميع الشروط التي طلبها صندوق النقد الدولي، متناسيًا عرقلته للشرط الأساسي المطلوب منه: توحيد أسعار الصرف. يتغنّى بمعدلات النمو التي حققها لبنان خلال عامي 2022 و2023، وينسبها إلى سياساته النقديّة، من دون ذكر المعايير التي اعتمدها لاحتساب هذا النمو المزعوم، والذي يتعارض ذكره مع خلاصات تقارير صندوق النقد والبنك الدولي. يزعم أنّ أزمة عجز ميزان المدفوعات بدأت عام 2015، قبيل قيامه بالهندسات الماليّة، في حين أن تقارير المصرف المركزي نفسه بدأت بلحظ هذا العجز منذ العام 2011.
في بعض الحالات، يبلغ الاستخفاف بالمستمع ذروته، كما حدث حين أشار إلى أنّ جميع التعاميم التي تسببت باقتطاعات من سحوبات المودعين، مثل التعميمين 151 و158، كانت طوعيّة، بمعنى أن عملاء المصارف امتلكوا حق عدم السحب بموجب هذه التعاميم. هل كان المودع ليمتلك مثلًا أي خيار آخر؟ هل هو تعميم طوعي فعلًا، حين تخيّر المودع بين حبس وديعته، بغياب أي معالجة شاملة، أو سحب أمواله بأسعار صرف منخفضة؟ مجددًا: يقولها سلامة بصوته الخمول، من دون أن يكترث حتّى بإقناعنا، ثم يمضي في حديثه نحو سرديّة أخرى.
هكذا، وبأقل جهد ممكن، أنهى سلامة يوم أمس مرافعته الركيكة. كان بإمكانه أن يفعل أكثر، وأن يكترث برأينا أكثر، لكنّه لم يفعل. وأغلب الظن، لن يكترث معظمنا بمناقشته، طالما أنّ أقصى ما نتأمّله اليوم هو أن نطوي صفحته بحلول يوم الإثنين المقبل، بأقل قدر ممكن من المخاطر على ما تبقى من قيمة عملتنا وملاءة نظامنا المالي. سنحتاج، ومن دون أدنى شك، إلى سنوات طويلة لتنظيف المصرف المركزي من حقبة رياض سلامة. ورحيل سلامة، لن يعني انتهاء نهج وأسلوب سلامة في إدارة المصرف المركزي. لكنّ رحيله أولًا مطلوب، قبل طلب أو تأمّل أي معالجة فعليّة لاحقًا.