ليس من المبالغة القول إن «إعادة ثقة المودعين بالقطاع المصرفي» من المهام الصعبة والمعقدة والتي ستستغرق وقتاً طويلاً. في الأثناء يستمر التخبط وعدم اليقين الذي يعيشه أكثر من 1.3 مليون مودع حيال مصير ودائعهم. وذلك في ظل عدم قيام كل من مصرف لبنان وجمعية المصارف والحكومة والمجلس النيابي بوضع وتنفيذ أي خطة جدية على طريق إستعادة هذه الثقة ولو تدريجياً. أما الدعاوى القضائية التي يرفعها المودعون، في الداخل والخارج للحصول على أموالهم فمستمرة بلا هوادة. فالمصارف التي بنت سمعتها على مدى ثلاثين عاماً، خسرتها في شهر واحد ( تشرين أول 2019)، وتحولت هذه الثقة إلى حالة «خذلان» مارستها منذ بداية الازمة ولا تزال تجاه مودعيها.
قصص من الواقع: دروس قاسية تعلّمناها ولن ننساها ما حيينا… وسنعلّمها لأبنائنا وأحفادنا
على أرض الواقع، قصص كثيرة لمودعين، تُظهر المعاناة الشديدة والقلق العميق الذي يعيشونه على مصير ودائعهم. ويدفعهم «للعد للألف قبل الوثوق بأي مصرف مجدداً»، على حد تعبير الحاج جواد- ج، الذي يروي لـ»نداء الوطن» أنه «يملك أموالاً عالقة في أكثر من مصرف. قبل الازمة كان مدراء هذه المصارف يتصلون به لتشجيعه على وضع أمواله في مصارفهم، وكان يُعامل «معاملة الملوك» على حد تعبيره. بعد إندلاع الازمة بات «يترجاهم» لكي يعطوه مبالغ اعلى من سقف السحوبات المسموحة، لكي يتمكن من دفع تكاليف معيشته وطبابته».
يضيف: «عمري 81 عاماً، ولا أعتقد أني سأعود يوماً لأضع أموالي في المصارف مجدداً في حال حصلت عليها. وهذا الدرس تعلمته وعلّمته ليس لأولادي بل لأحفادي أيضاً».
يؤكد المغترب قاسم حمد لـ»نداء الوطن» أنه «لن يضع أمواله في المصارف اللبنانية، مهما بلغت نسبة الفوائد التي ستُعطى». ويشرح سبب موقفه بالقول: «وديعتي عالقة في أحد المصارف، وأُحاول سحب ما يمكن منها عبر تعاميم مصرف لبنان. وسبب قراري هذا هو أنه في بداية الازمة، إحتجت أموالاً إضافية لإجراء عملية جراحية لإبنتي، إلا أن المصرف لم يسمح لي بالسحب، لأني حوّلت الوديعة بعد الازمة من الليرة اللبنانية إلى الدولار، وتمّ تجميدها لعام كامل. واضطررت للإستدانة من والدتي وهذا موقف لن أنساه في حياتي».
الخروج من الإنكار الى الإعتراف وبدء مسيرة علاج متعدّد الأوجه وبمسارات متوازية
لكن بالرغم من كل ما حصل، يرى المختصون بهذا الملف أن العمل لبناء هذه الثقة، أمر ممكن. ويبدأ بتغيير نمط التعامل مع المودعين بشكل أساسي، وايجاد وجوه مصرفية جديدة يمكنها إدارة الأزمة، لأن العامل النفسي مهم أيضاً. إذ لا يمكن للمودعين واللبنانيين عموماً، تصديق وعود مصرفي سبق أن أذلهم على أبواب المصارف.
يشرح مصدر مصرفي لـ»نداء الوطن» أن «الثقة بالقطاع المصرفي في لبنان تلاشت منذ إندلاع الازمة في العام 2019. حين لم يتمكن المودعون من سحب أموالهم ولم يستطيعوا القيام بتحويلات إلى الخارج، سواء أكانوا أفراداً أم شركات أو مستثمرين»، موضحاً أن «الخطوة الاولى لإستعادة هذه الثقة، هي أن تعمد المصارف إلى الاعتراف بأنها تعاني من مشكلات سيولة وملاءة، والشرح للمودعين أنها تحتاج إلى فترة زمنية لمعالجتها».
يضيف: «الخطوة الثانية هي أن على القطاع المصرفي والدولة، القيام بالإصلاحات المطلوبة لإستعادة الثقة. أي الاعتراف بالخسائر وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهذا ما لا يحصل حالياً بل هناك حالة إنكار تام لهذا الامر»، لافتاً إلى أن المصارف حالياً تعمل بميزانيتين. الميزانيات القديمة التي لا يمكنها من خلالها تسديد الودائع للناس. وميزانية جديدة بالفريش دولار. ما يحصل هو تخبط، ولن تُستعاد الثقة إلا بعد الاعتراف بالخسائر التي أصابت ميزانياتهم القديمة ومعالجتها».
لا بد من محاسبة المصرفيين الفاسدين والمغامرين مهما كانت الصعوبات لئلّا تتكرّر التجربة الكارثية
وفقاً لأفضل الممارسات العالمية، وفي قراءات لتجارب دول مرت بأزمات مماثلة، فان المحاسبة لا بد منها، وخير مثال ما حصل في آيسلندا. ويجب ان تطال المصرفيين الذي غامروا وركبوا المخاطر وبددوا اموال المودعين، بينما حصدوا هم الأرباح المجزية وهربوها الى الخارج. من دون محاسبة يصعب استعادة الثقة، وسيكون المودعون امام امكان تكرار نفس التجربة الكارثية.
الى ذلك، على المصارف القابلة للحياة ضخ رساميل جديدة والتعهد بالالتزام بما تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد لجهة ضمان رد حد معين لا سيما لصغار المودعين، والتفاوض مع الآخرين لا سيما كبار المودعين للدخول في مساهمات في بنوكهم مقابل كل او جزء من وديعتهم. وبين عوامل استعادة الثقة ايضاً اجراء نفضة في مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة وهيئة اسواق المال. نفضة تشريعية عصرية مع تعيين كفاءات رقابية واشرافية وتنظيمية من خارج اي محاصصة طائفية.
يوسف: الخروج من حالة الإنكار… ضخّ رساميل جديدة ودمج وترك بنوك لمصيرها تخرج من السوق
من جهته يؤكد الوزير السابق غازي يوسف لـ»نداء الوطن»، أن «بداية الثقة تكون عبر تأمين السيولة لإعطاء المودعين أموالهم، وإلا من الصعب جداً أن تستعيد المصارف ثقة اللبنانيين. وهذه الخطوة تستلزم إعادة رأسمالهم وزيادة سيولتهم بالعملة الصعبة». مشيراً إلى أن «على المصارف المتعثرة أن تقبل للخضوع لقانون دمج المصارف، وأن يتم خلق ما يسمى بالـGood banks لأن هذه النوعية من المصارف، وحدها القادرة على العمل في لبنان».
يرى يوسف أن «حالة الانكار للمشكلة موجودة عند الجميع. وأولها الدولة اللبنانية التي تنفي مسؤوليتها عن خسارة المودعين لأموالهم، وترفض المشاركة في الخسائر. والمصرف المركزي الذي يعلن أنه وسيط بين المصرف والدولة التي أجبرته على تأمين الأموال، وكان يعلم أنها لن تعود». واشار يوسف إلى أن «المصارف تعتبر أنها استعملت أموال المودعين، لتأمين الاموال للدولة ومصرف لبنان. وهي في الحقيقة كانت تطمح إلى عائدات عالية وغير طبيعية».
يضيف: «على الجميع الجلوس إلى طاولة والاعتراف بالمشكلة والتعاون للخروج منها. الدولة عليها إستخدام جزء من أصولها وموجوداتها لتكوين فائض ما لردّ ودائع. وعلى مصرف لبنان الاعتراف بأنه أخطأ، وعليه المحاولة قدر الامكان الحفاظ على سمعة القطاع المصرفي، وتسهيل إعادة تكوين رساميل المصارف من خلال قوانين و تشريعات»، لافتاً إلى أنه «على المصارف إتخاذ قرار الرسملة، ومن لا يستطيع منها عليه الخروج من السوق، وفتح المجال أمام المصارف القادرة. والمواطن العادي عليه تقبل بأنه لن يحصل على كامل وديعته، والقبول بسحب ما يستطيع منها لعيش كريم».
ويختم: «أعتقد ان مقولة «لبنان مصرف الشرق» إنتهت».
عياش: رسملة البنوك ومعالجة خسائرها… والسماح بقيام بنوك جديدة وفتح فروع لبنوك أجنبية في لبنان
يشرح نائب حاكم مصرف لبنان سابقاً الدكتور غسان العيّاش لـ»نداء الوطن» أن «استعادة الثقة بالقطاع المصرفي اللبناني تتوقّف على طريقة إدارة الأزمة المصرفية الراهنة وطريقة الخروج منها. وبقدر ما يرتّب ذلك من مسؤوليات على المصارف، فإنه يلقي جزءاً كبيراً من مسؤولية المعالجة على الدولة حرصاً على مستقبل الصناعة المصرفية في لبنان». معتبراً أنه «بقدر ما تتقلّص خسائر المودعين في الأزمة الراهنة، يمكن للمودعين استئناف الثقة بالمؤسّسات المصرفية والعودة إلى إيداع أموالهم فيها. فحجم خسائر المودعين هي مسألة جوهرية بالنسبة لعلاقة الأشخاص بالمصارف. ولكننا نستشعر جميعاً بأن هذه المسألة ليست يسيرة بسبب ضخامة الخسائر التي قدّرتها الحكومة بحوالى 72 مليار دولار، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الحجم الراهن للناتج المحلي الإجمالي».
يضيف: «لا يمكن للمصارف العاملة حالياً أن تسدّد هذه الخسائر الكبيرة، ومن الطبيعي مطالبة الدولة بتحمّل قسط منها لعدّة أسباب جوهرية. أوّلاً: لأن الدولة تتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن انهيار القطاع المالي، بسبب اعتمادها على موجودات المصارف، لتمويل عجوزات الموازنة ولتثبيت سعر الصرف.
ثانياً: لأن الدولة تملك موجودات ضخمة، تفوق بشكل لا يقارن موجودات المصارف والمصرف المركزي. ويمكن استثمار هذه الموجودات بطريقة سليمة، للحصول على الأموال اللازمة لمساهمة الدولة، دون بيع أملاك الدولة للغير.
ثالثاً: إن الدولة مسؤولة عن إدارة الاقتصاد، ومن ضمنها الحرص على استمرارية القطاع المصرفي، فضلاً عن مسؤولية الدولة عن حقوق المواطنين وودائعهم».
يشدد العياش أن «المقصود بكل ذلك مشاركة الدولة في ردم الخسائر، جنباً إلى جنب مع المصارف ذاتها. وليست الغاية حلول الدولة كلياً محل المصارف في ردم الفجوة في ميزانية القطاع المالي»، موضحاً أن «إعادة هيكلة المصارف تتطلّب ضخّ رساميل كبيرة في القطاع، سواء لتعويم المصارف القائمة أو لإنشاء مصارف جديدة، ربما بشكل فروع لمصارف أجنبية كبرى. وهذه الرساميل لن تقدم على الاستثمار في القطاع المصرفي اللبناني إذا انتهت الأزمة الراهنة بخسائر فادحة للمودعين، أو التعسّف في معاملة المساهمين الحاليين في المصارف القائمة».
ويختم: «من هنا فإن مستقبل القطاع المصرفي واستعادة الثقة به، بل إعادة إحيائه، تتطلب من السلطة اللبنانية الإسراع في الحلّ للخروج من الأزمة الراهنة بأقلّ الأضرار. وتمكين المودعين من تحصيل أكبر قسط ممكن من ودائعهم، ومعاملة المساهمين الحاليين في المصارف بعدالة. كما أنه من الضروري، والمفيد، سنّ تشريعات جديدة وتعليمات تضمن الاستفادة من التجربة الحالية المزلزلة، لضبط مسار القطاع المالي في المستقبل، وجعله ملتزماً بمقتضيات السلامة وبالقواعد الأخلاقية والمهنية».
خوري: يجب استعاد الثقة بالدولة أولاً… وتعترف هذه الدولة بمسؤوليتها وتستخدم لذلك جزءاً من اصولها
من جهته يشدد الوزير السابق والخبير المصرفي رائد خوري لـ»نداء الوطن» على أنه «يجب إستعادة الثقة أولاً بالدولة، ومن ثم بالمصارف. لأن خسارة المودعين لأموالهم هي نتيجة سوء إدارة الدولة، ومن هنا يمكن الانطلاق لإستعادة ثقة المودعين بالقطاع المصرفي من جديد». شارحاً أنه «على الدولة أن تعمد إلى الاعتراف بأنها المسبب الرئيسي للأزمة هو إستدانتها المفرطة من البنك المركزي. وأكبر دليل على ذلك أن المودع اللبناني، غير مستعد لإيداع أمواله في أي مصرف أجنبي موجود على الاراضي اللبنانية وتابع لقوانين مصرف لبنان». يضيف: «مثلا البنك العربي في لبنان، هو أيضاً غير قادر على رد ودائع اللبنانيين، لأنه خاضع لأحكام المصرف المركزي. ولذلك على الدولة إستعادة الثقة، من خلال القيام بإصلاحات وقوانين وتنفيذ رؤية إقتصادية واضحة. والعمل على تصحيح علاقاتها مع المحيط العربي ولا سيما دول الخليج ومع المجتمع الدولي، وإعادة الهيبة والمصداقية للقضاء». لافتاً إلى أنه «حينها يمكن أن تعود الثقة تدريجياً بقطاعات الدولة ومنها القطاع المصرفي. ودور المصارف الوحيد هو الضغط عليها لإستعادة الاموال التي إستدانها المصرف المركزي، وعليها أن تعرف مصير هذه الاموال، وحين يستردونها عندها يمكن للمودعين إستعادة حقوقهم».
ويختم: «المصارف هي وسيط بين المودع والبنك المركزي. ولا يمكن لدولة أن تفلس ويبقى قطاعها المصرفي سليماً، وعليها ان تستعمل جزءاً من أصولها لإعادة أموال المودعين».