لم تعد وزارة الصحة، ولا الصناديق الضامنة على اختلاف أسمائها، تنفع اللبنانيين الذين يخوضون «مغامرة» الدخول إلى مستشفى. فبعدما تكرّست حقيقة ما قاله نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون، مع بداية الأزمة الاقتصادية، بأن «الصحّة ستكون حكراً على الأغنياء»، بات اللجوء إلى طرق أبواب الجمعيات الدينية والمدنية للمساعدة يشكل حبل الخلاص للمرضى وعائلاتهم. هذه الظاهرة التي باتت تنتظم، ليست أحسن الطرق، لأنها تفقد المظلة الاجتماعية معناها، وتحيل المريض من صاحب حق إلى متذلّل على باب «مؤسسة الطائفة»
يوماً بعد آخر، تزداد الأصفار في فواتير الاستشفاء، ويزداد معها قلق المريض مما هو آتٍ في آخر فترة العلاج. فلا أحد يعرف كيف تُسعّر الخدمة الطبية، ولا على أيّ سعر صرفٍ تُحتسب، كي يؤخذ الأمر في الحسبان. باتت هذه الخدمة أقرب إلى السلعة التي تتبدّل أسعارها من يومٍ لآخر، وحتى من ساعةٍ لأخرى، تبعاً للتبدّلات الطارئة في سوق الصرف. ومع إشارة نقيب أصحاب المستشفيات، سليمان هارون، إلى وصول نسبة الخدمات المسعّرة على الدولار إلى 90%، ومع انهيار قيمة ما تقدّمه الصناديق والمؤسسات الضامنة للمؤمّنين لديها، أصبح المواطنون بلا حماية، وبات الدخول إلى المستشفيات محصوراً بمن هو قادر على تأمين المبالغ المرقومة. ولذلك لم تعد الصحّة، والتي كانت حتى زمن ما قبل الانهيار حقّاً بديهياً، ضمن حسابات الكثيرين الذين انحدروا من «طبقاتهم» وفقدوا قدرتهم على الاستشفاء. قلّصت هذه المعادلة عدد الداخلين إلى المستشفيات إلى حدود 40%، هم في غالبيتهم من المرضى المقتدرين من جهة، أو الذين «اضطروا» إلى طلب العلاج بعدما تطوّرت حالاتهم الصحية. أما البقية، فقد بات الاستشفاء بالنسبة إليها ضرباً من الخيال… لولا ولادة بعض البدائل.
طرق الأبواب
أدخل سامر (اسم مستعار) طفله إلى أحد المستشفيات الجامعية لإجراء عملية قلب مفتوح، وخرج منها بفاتورة قيمتها 400 مليون ليرة لبنانية. هذا الرقم الصافي بعد حسم مساهمة الجهة الضامنة التي ينتسب إليها. سامر، موظّف دولة براتب لا يصل إلى ثلاثة ملايين ليرة، لم يكن يملك من تلك الـ400 مليون ليرة مليوناً واحداً، فيما تتجاوز الفاتورة هذا الراتب بـ133 مرة. فمن أين يأتي بالمال؟
هذا السؤال قاده إلى «طرق الأبواب»، يقول. كان الأمر صعباً عليه، إلا «أننا لم نجد حلاً آخر، إذ لا أستطيع أن أستدين 400 مليون لن أكون قادراً على سدادها من راتبي». من باب إلى آخر، استدلّ سامر على إحدى المؤسسات الدينية التي أفسحت مجالاً لتقديم «طلبات استشفاء للمحتاجين». ومن هناك، أُرشد الرجل إلى جمعية دينية أخرى تقدّم الخدمة نفسها بنسبة معينة لا تغطّي كامل المبلغ. 4 مؤسسات تقدّم إليها سامر بطلبات، استطاع من خلالها تأمين «حوالي 40% من المبلغ دُفعت مباشرة إلى المستشفى، يضاف إليها الحسم الذي حصلت عليه من الأخير».
لم تعد حالة سامر استثناء اليوم، فقد دفعت الفواتير المضخّمة المواطنين للجوء إلى المؤسسات والجمعيات الدينية، وحتى المدنية التي تقدّم بعض البرامج الصحية، وأصبحت هذه الظاهرة «البحصة التي تسند الخابية»، بحسب قول بلال الذي سلك هو الآخر هذه الطريق، مدفوعاً بفاتورة استشفائية بالدولار الأميركي. عندما أدخل بلال والده المصاب بالسرطان إلى طوارئ المستشفى لعلاجه من بعض المضاعفات التي تسبّب بها الزكام، «كنت مطمئناً، لأنني اعتدت أن أترك مبلغاً معيناً لحالات الطوارئ». غير أن والده، الذي احتاج من ضمن بروتوكول العلاج، إلى المكوث في غرفة العناية، كسر هذا الشعور بالاطمئنان، وصار بلال ينتظر يومين «وعند حلول اليوم الثالث يأتيني اتصال من المحاسبة بأن عليّ أن أدفع 1500 دولار لاستكمال علاج والدي في العناية». هكذا، اضطر الشاب لدفع 6 آلاف دولار، قبل أن «يتوسّط» لدى أحدهم لإخراج والده من المستشفى الأول إلى مستشفى آخر أقلّ كلفة… وإن كان لم يغادره «إلا بعد التوقيع على تعهّد بدفع 8 آلاف دولار متبقية من فاتورة العلاج»! وحتى في المستشفى الآخر، لم ينجُ بلال من اتصالات قسم المحاسبة «كل كم يوم».
مات والد بلال وبقيت الفاتورة، التي اضطرّ بسببها إلى طرق أبواب المؤسسات الدينية، بعدما باءت كلّ محاولاته لسحب شيءٍ من مدّخراته من المصرف بالفشل. وقد باتت هذه الطريق هي الأكثر رواجاً اليوم بين طالبي الاستشفاء. وفي الآونة الأخيرة، انتظمت هذه الظاهرة، حتى أصبحت هناك آلية واضحة يتّبعها المرضى. حتى إن بعض المستشفيات تعمد في بعض الأحيان إلى إرشاد المرضى إليها. وتقوم هذه الآلية على تقديم المريض أو عائلته تقريراً طبياً بالحالة المرضية، وتقريراً آخر بالكلفة وهوية المريض مع معلومات عنه وعن حالته الاجتماعية. وغالباً ما يتقدّم المريض بالمستندات نفسها إلى أكثر من جهة، كي يحصل على ما أمكن من مساهماتٍ تساعده لسدّ الجزء الأيسر من الفاتورة.
ازدياد الطلبات
غالباً ما ينتهي دور المريض أو عائلته عند طلب التقديم، ليبدأ من بعدها عمل المؤسسة التي تدرس الملفات وتتواصل مع المستشفى للتأكد من الفواتير قبل أن تأخذ قرار المساهمة في الفاتورة، ومن ثم تبلغ المريض بذلك. ولا تعطي تلك الجهات المساهمة مباشرة للمريض، وإنما «تحوّل إلى المستشفى لحساب المريض»، يقول أحد المعنيين بملف الاستشفاء في المكتب الشرعي للمرجع الديني السيد علي السيستاني في لبنان. يشير الأخير إلى أنه منذ بداية الأزمة، كثرت طلبات المساعدات التي ترد إلى المكتب «حيث خصّصنا القسم الأول من النهار لاستقبالها، على أن تصل في الجزء التالي من النهار رسالة نصية إلى صاحب الطلب تعلمه بنسبة المساهمة، وهي غالباً محدّدة بـ10%، ويأتي في اليوم التالي لتسلّم ورقة التحويل». صحيح أن هذه المساعدات كانت تُصرف سابقاً، بحسب المصدر، إلا أنها اليوم كبرت كثيراً «إذ نتلقّى ما لا يقلّ عن 40 طلباً يومياً ضمن الساعات المحدّدة لتقديم الطلبات، وهي في ازدياد من يومٍ لآخر».
الحال نفسه في جمعيات ومؤسسات أخرى، ومنها «جمعية الإمداد الخيرية» التي أضافت إلى مساهماتها الثابتة بنداً فرضته الأزمة الاقتصادية، يتعلق باستشفاء غير المقتدرين. وفي هذا السياق، يشير المدير العام لـ«الإمداد» محمد برجاوي، إلى أن الجمعية تملك عناوين ثابتة للمساعدة، منها «عوائل شهرية تحت رعاية المؤسسة بشكل دائم وبكلّ تفاصيل حياتها، أيتام، عوائل صحية أي من يعانون من أمراض مزمنة، وهم تقريباً حوالى 4 آلاف عائلة، ومع الوضع المستجدّ بدأت تردنا طلبات للمساهمة في فواتير الاستشفاء، وهناك أعداد كبيرة من طالبي تلك المساعدات». ويقدّرها مسؤول ملف العلاقات العامة في الجمعية، حبيب عمار بـ«مئات الحالات». وإن كانت «الحالات الاجتماعية»، بحسب عمار، موجودة ضمن حسابات الجمعية، إلا أنها زادت كثيراً مع الأزمة «ونحن نساعد حسب كلّ حالة وضمن إمكاناتنا». وفي هذا الشق بالذات، يوضح برجاوي أن «المساهمة المقرّرة تكون حسب الملف من جهة، وما هو متوفّر لدى المؤسسة من جهة أخرى، إذ تختلف النسبة من شهرٍ لآخر تبعاً لمدخولنا، مع احتساب الحاجات الثابتة لدينا والتي لها أولوية أيضاً».
توسيع البرامج
من جمعية الإمداد، إلى مكتب الأمانة العامة لحزب الله، إلى الجمعيات الخيرية، ودار الإفتاء إلى دور العبادة والكنيسة «التي باتت مقصداً للمرضى»، يقول رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام، عبدو أبو كسم. يتحدّث الأخير عن مرضى يقفون طوابير على الأبواب ليستجدوا ثمن صحتهم، ومعظمهم من الموظفين المضمونين «غير القادرين على التأمينات الخاصة». ويشير أبو كسم إلى أن هذه الظاهرة «خلقت برامج للعمل على هذا الموضوع ضمن الجمعيات يتم تمويله دورياً». ويلفت إلى أن بعض الجمعيات، مثل «كاريتاس»، كانت تساعد بالأساس حسب برامجها، إلا أنها اليوم وسّعت من تلك البرامج لتشمل الأعداد الهائلة من أصحاب الطلبات.
واليوم، لا يتوزّع هؤلاء على الجمعيات فقط «وإنما هناك من يقصد البطريركية مثلاً، التي تساهم بجزء، والكنائس وحتى دور العبادة، أضف إلى أنه في بعض الأحيان نقوم برفع الصوت في الكنيسة وخاصة في القرى لجمع مبلغٍ لمريض من أهل القرية، على أن يُستكمل باقي المبلغ من الجهات الأخرى مثل البطريركية والجمعيات، أو من خلال التواصل مع المستشفيات للتفاوض على تخفيض شيء من المبلغ». بالنسبة إلى أبو كسم، لا ترقى هذه المبادرات إلى مستوى الكمال، إذ إنه «مع كلّ ما نجمعه من المال لا يصل في كثير من الأحيان إلى ما تطلبه بعض المستشفيات التي بات تعاطيها مع المريض أشبه بسلعة»، متسائلاً: «لماذا يُضرب العمل الطبي في بعض المستشفيات بأربعة أضعاف؟»، ويجيب آسفاً: «لأن الأزمة عوّدتنا على جلد بعضنا تحت ستار تأمين الاستمرارية». أما المسؤولية الأخرى، فيحمّلها للدولة الغائبة التي فتحت المجال أمام ظواهر غير صحية «وإن كانت تتصرّف من باب الإنسانية، إلا أنها لا يمكن أن تستمرّ».
مبادرات «عكس الدولة»: عودة إلى الطائفة
في ظلّ عجز الصناديق والجهات الضامنة عن الإيفاء بتعهداتها تجاه المنتسبين إليها، وجشع الكثير من المستشفيات، توسّعت ظاهرة المبادرات الاستشفائية التي كانت حتى وقتٍ قريبٍ محصورة بفئات معيّنة لديها خصوصيتها. اليوم، بات معظم الناس من أصحاب «الخصوصية»، ولا سيما في ما يتعلّق بصحتهم، إذ إنه في ظلّ دولرة الخدمات الاستشفائية وقصور الجهات الضامنة عن القيام بواجباتها، تحوّل هؤلاء إلى متسوّلين يشحذون بدل علاجاتهم أو طبابتهم من الجمعيات الخيرية والمؤسسات الدينية ودور العبادة. صحيح أن هذا التصرّف ليس جديداً ولا استثنائياً، إلا أنه مع الانهيار غير المسبوق اليوم، يتمدّد ليصبح ظاهرة.
وإن كان مفهوماً لجوء الناس إلى تلك «المبادرات» لانعدام الخيارات الأخرى التي تسدّ حاجاتهم، إلا أن أخطر ما في الأمر هو تحوّل المواطن من صاحب حق لدى الدولة إلى زبون لدى هؤلاء. يفتح هذا التحوّل الباب واسعاً حول ما يعنيه الحق من ضمانٍ للحماية الاجتماعية المفقودة في عمل تلك المؤسسات، لأنّه يؤسّس في بعض جوانبه «لنمطٍ من التذلّل، حيث يبذل المواطن ماء وجهه»، يقول الباحث الاجتماعي غسان صليبي. تكمن الأزمة هنا في أن انفلاش هذه الظواهر يؤدي إلى تقوية «عكس الدولة»، أي الأطراف التي ستصبح بحسب صليبي «سبباً أساسياً في انهيار ما تبقّى من منظومة الحماية الاجتماعية». أما الشق الأكثر فظاظة في تلك الظواهر فهو ردّ كل مواطن إلى حضن طائفته، حيث إن تأثيرها أبعد من المساعدة المؤقتة إلى «الفرز على أساس الطائفة، حيث يتوجه كل مريض إلى مؤسسته التي تمثله دينياً وضمن بيئته، مع ما يعنيه ذلك من الجهة المقابلة من استغناء عما تبقّى من دولة»، يقول الأمين العام لـ”حركة مواطنون ومواطنات في دولة”، شربل نحاس. فبالنسبة إلى الأخير، كان ثمة «شوية بقايا» للدولة تتمّ تصفيتها اليوم بتلك الطريقة التي تعزّزت أكثر بفعل عوامل الانهيار.
صحيح أن هذه الظواهر ليست طارئة وليست صحّية في الآن عينه، إلا أن مبرّر لجوء الناس إليها بات واقعياً، فهي بالنسبة إليهم «خشبة خلاص اليوم لأنه لم يعد بالإمكان انتظار أن يصلح البلد»، يضيف صليبي.
ويحلو لباحث اقتصادي آخر أن يشبّه الواقع اليوم بوعاء مثقوب، وعوض إصلاح هذه الثقوب بحلولٍ أكثر تقدماً، يفتح المجال لمبادرات على تلك الشاكلة. يأسف لكون الحلول تأتي على شاكلة «صيرفة لكل قطاع»، فيما الواقع الصحي يفرض في الأزمات الأكثر عمقاً كتلك التي تمر بها البلاد أن تكون «الحلول أكثر جذرية وأكثر تقدّماً، كما حدث في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية مثلاً». وهذا يفتح المجال للتساؤل عن أموالٍ صُرفت في آلية دعم «همايونية»، ولم تُصرف مثلاً على مشروع تغطية صحية شاملة وحوّلت المرضى إلى متسوّلين. أموال صرفتها الدولة على التجار «كان يمكن أن تؤمّن من خلالها لأربعة ملايين مقيم سلة خدمات صحية IN and OUT»!