أفضى اجتماع الخميس بين الرئيس نبيه برّي والنائب جبران باسيل الى أكثر من الاتفاق على شركة تدقيق تشريحي لحسابات مصرف لبنان. بعض ما توافقا عليه سُرّب، وبات على طاولة مجلس الوزراء اليوم، والبعض الآخر يحتاج الى قليل من الوقت
يُعلّق مَن اطلع على فحوى مداولات الخميس بين رئيس البرلمان نبيه برّي ورئيس كتلة لبنان القوي النائب جبران باسيل أهمية فائضة، في ضوء صنفين من التفاهمات أبرماهما:
أول سياسي مرتبط بسلسلة اجتماعات عقداها في الاشهر الخمسة المنصرمة، انتهت الخميس الى اتفاقهما على ان يتجاوزا خلافات الماضي، ويؤسسا لمرحلة جديدة لا تستند – كالسابق – الى أحكام مسبقة، وتبادل شكوك أحدهما في الآخر قبل التحقق ممّا يتوخاه. قرّر برّي وباسيل أن يطويا ما رافق ماضي علاقة حزبيهما من شتائم وحملات تخوين وتشهير ونزاعات، كانت تندلع لمجرد أن يبدي أحدهما موقفاً فيناحره الآخر، وباتا في صدد الانتقال الى فتح صفحة جديدة. تفاهما أيضاً على توسيع مروحة التواصل الايجابي، كي يشمل أفرقاء آخرين في الحكومة وخارجها، وتضييق شقة الخلافات الى الحد الادنى الممكن، بعدما لمسا أن الدولة آيلة الى التحلل الكامل.
ثان، تقني مرتبط ببضعة إجراءات أدرجاها في نطاق انطلاق الاصلاحات الاقتصادية، تبدأ بالاتفاق على حلحلة مشكلة قطاع الكهرباء مع تعيين مجلس الادارة والهيئة الناظمة، على أن لا تتسلم صلاحياتها قبل وضع المراسيم التطبيقية. يترافق ذلك مع موافقة رئيس الجمهورية ميشال عون وباسيل على قبول استقالة المدير العام لوزارة المال آلان بيفاني – وكان في ما مضى مرشحهما لحاكمية مصرف لبنان خلفاً لرياض سلامة – مع احتمال أن يعرضا عليه منصباً جديداً. بيد أن الاهم في اتفاقهما، رسوّ خيارهما على شركة تدقيق جنائي (تشريحي) لحسابات مصرف لبنان هي شركة (FTI)، على أن يواكب عملها مدققون لبنانيون. لم يكن رئيس الحكومة حسان دياب بعيداً من الاطلاع على الخيار البديل من شركة «كرول»، وخصوصاً أنه – كرئيس الجمهورية – مصرّ على إجراء التدقيق المحاسبي في ضوء القرار الذي اتخذه في شأنه مجلس الوزراء.
من الدوافع التي أملت على برّي، ومعه حزب الله، رفض شركة «كرول»، وكان رئيس الجمهورية تمسّك بها، تخوّفهما من استخدام التدقيق التشريحي في غايات سياسية، من غير أن يُعزى هذا الرفض بالضرورة الى وجود مكتب للشركة في إسرائيل، أو في عداد موظفيها إسرائيليون، ومعظم شركات التدقيق المحاسبي الدولية لها مكاتب في الدولة العبرية، ويعمل فيها لبنانيون كما اسرائيليون في مكاتبها من حول العالم.
بحسب ما بلغ الى الثنائي، لشركة «كرول» اتصالات تعاون وثيقة مع الانتليجانسيا الاسرائيلية، ما يضفي على المعلومات التي تحوزها من لبنان واستثمارها من ثم أهمية مضاعفة.
رغم أن برّي وباسيل رغبا في إدراج سلة توافقاتهما في سياق تطمين «المجتمع الدولي» الى عزم لبنان على إجراء إصلاحات اقتصادية ومالية جدية، بدءاً من الكهرباء، الا أن معطيات منفصلة عن اجتماع الخميس تشير الى وقائع اضافية:
1 – تبعاً لما تكشف عنه مراجع رسمية عالية، فإن دولتين خليجيتين هما الكويت وقطر تجري اتصالات معهما من خلال قناة مسؤول أمني لبناني، على علاقة وطيدة بمسؤولين كبار فيهما، ترمي الى تقديم مساعدات مالية الى لبنان. أجرى الوسيط أكثر من تواصل معهما، وحاز نتائج ايجابية. بيد ان المساعدة المالية المتوقعة لا ترمي الى إخراج لبنان من محنته النقدية والاقتصادية، وليست على النحو الكفيل بانتشاله، بيد أنها تتوخى منحه مزيداً من الاوكسجين الذي يساعده على صمود مجتمعه في مواجهة الازمة الخانقة. ليس الاميركيون بعيدين من الاطلاع على هذا المسعى، بل يحظى بصرف نظر محدود من أجل تفادي اختناق لبنان، لكن مع الإبقاء على أوسع مقدار من الضغوط والقيود المتواصلة المفروضة عليه من خلال الحصار النقدي. لكل من الكويت وقطر أسباب مختلفة لدعم لبنان جزئياً: الاولى جراء عامل تقليدي تاريخي يجمعها به جعلها على الدوام على مرّ عقود تساعده، والأخرى لحسابات سياسية في ظل الابواب المغلقة لدول الخليج كالسعودية والامارات والبحرين وعُمان.
باسيل التقى سلامة مرتين خلال أسبوع، وطلب استمرار تدخله في السوق
2 – ثمة رأي بات مطروحاً في أوساط الرئاسات، يتحدّث عن عقبات في طريق إجراء تدقيق محاسبي تشريحي، والدخول الى حسابات مصرف لبنان، مرتبطة بقانون النقد والتسليف الذي يرعى أحكام مصرف لبنان وصلاحياته واستقلاله. لدى مصرف لبنان أطر تنظيمية يجيز القانون لها مراقبته، منوطة بهيئة التحقيق الخاصة ومفوض الحكومة لديه، لكن ليس بأي جهة أخرى أو شركة خاصة تحديداً. لم يُثِر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة هذا الشق في المشكلة حتى الآن، وهو يراقب السجال الدائر في أوساط المسؤولين من حول دور شركة التدقيق المحاسبي، من غير أن يكون ملماً بعد بالمدى الذي يريد مجلس الوزراء، ورئيسا الجمهورية والحكومة خصوصاً، من التدقيق الحسابي الوصول اليه. ما هو معلن حتى الآن إجراء تدقيق شامل مطلق في كل حسابات مصرف لبنان والى سنوات طويلة، فيما تبدو مهمة كهذه بالغة الصعوبة، وتتطلب اكثر من بضعة اشهر كما يتوقع المسؤولون، بل ربما الى ابعد من نهاية العهد الحالي بكثير. بذلك تمسي المهمة معقدة، وخصوصاً أن أياً من المسؤولين الكبار لم يحدد الجوانب المثيرة لشكوكه في أداء مصرف لبنان وحاكمه، ومكامن الارتكابات وأبوابها.
يرتبط الامر كذلك بقانون السرية المصرفية الذي يوجب تعديل بعض أحكامه، من أجل السماح بالولوج الى حسابات مصرف لبنان، ما يفضي الى وضع المهمة لدى مجلس النواب.
3 – مع أن التدقيق المحاسبي المزمع يُصوَّب الى حاكم مصرف لبنان، بيد أن العلاقة التي باتت تجمع الاخير بالمسؤولين الكبار تشي بما هو نقيض ذلك تماماً. استقبله رئيس الجمهورية في يوم استقالة بيفاني المحسوب على الرئيس، فكانت إشارة سلبية ذات مغزى، بعدما بات قاطعاً بأن عون لم يعد في وارد إقالة سلامة. أكثر من مرة دعا رئيس الحكومة الحاكم الى جلسات مجلس الوزراء، من غير أن تؤدي مشاركته الى حلول جدية توقف الانهيار، أضف لقاءات دياب بسلامة دورياً. في اجتماع الخميس بين برّي وباسيل، كان ثمة اتفاق على أن التدقيق المحاسبي التشريحي لا يستهدف الحاكم بالذات، إلا إذا ارتكب أخطاءً جرمية، بل كشف كل ما يدور داخل جدران مصرف لبنان.
تلقت وزارة المال إشارات عن احتمال رفع أصحاب السندات دعاوى دولية على لبنان
علاقة التطبيع هذه بالحاكم تتواصل في العلن والسر. اجتمع به باسيل الأحد بعيداً من الاضواء للمرة الثانية خلال أسبوع، وطلب منه ما كان طلبه قبلاً رئيس الحكومة، وهو الاستمرار في ضخ الدولارات في السوق بغية وقف تدهور الليرة اللبنانية.
4 – لا تزال مشكلة أصحاب سندات اليوروبوند، غير اللبنانيين، قائمة في ذاتها مذ قررت الحكومة اللبنانية في آذار الفائت التوقف عن تسديدها، المقدّرة بنحو 15 مليار دولار. مذذاك لا تواصل بين وزارة المال وأصحاب السندات، بعدما ربطت الحكومة اللبنانية التفاوض معهم على هيكلتها وجدولتها في ضوء ما سيسفر عنه تفاوضها مع صندوق النقد الدولي. في الجولة السادسة عشرة توقف التفاوض مع الصندوق جراء الخلاف على تحديد ارقام الخسائر، ما أتاح توجيه إشارات سلبية الى وزارة المال عن احتمال رفع أصحاب السندات دعاوى دولية عليها، سواء لعدم تسديد المستحقات أم عدم الدخول في التفاوض معهم. هذه المعلومات نقلت الى المراجع الرسمية العليا.